لا يعلم من هُوْ إلا هُوْ

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 183 ).  

ليست تعبيرات إنشائية مقرها الرأس وما وعى ، بل هي تعبيرات محطها ومبعثها الذوق والوجد في القلب وما حوى من أنوار وعلوم عن ربه سبحانه .

الهدف من الصوم هو التقوى ، والتقوى لها مراتبها وعلومها في سلك الصالحين وأحوال السالكين إلى الله عز وجل ، فالحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال : تكون النافلة فيه كالفريضة في ما سواه والفريضة فيه كسبعين فيما سواه . وقال : أفضل الصدقة صدقة في رمضان ، وقال :.. من تقرب فيه بخصلة من الخير ، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه .. وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة . لذلك كان الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في عمل الخير في رمضان أجود من الريح المرسلة ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود الناس ، وكان أجود ما يكون فى رمضان ، وقالت رضي الله عنها : كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يجتهد فى رمضان ما لا يجتهد فى غيره ، وكان صلى الله عليه وسلم  إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيي ليله و أيقظ أهله وشد المئزر . لأن أهل الله أهل الهمم العالية المستوحاة من سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم . لأنه كما قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : لو يعلم الناس ما لهم فى شهر رمضان لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان ، ففي رمضان يغشى الناس ما يغشاهم ، وهو علم دقيق لمن فتح الله عليه ، وأبصر بنور ربه ، كذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في حديث قدسي عن رب العزة تبارك وتعالى : كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به . وكلمة ( لي ) لا يدرك معانيها إلا أرباب المعاني من أهل المراقبة والسلوك فليس المقصود هنا معاني إنشائية لأن كلمة ( لي ) تتعلق في الأحدية الصمدية التي لا يجوز بحقها الطعام والشراب والنكاح وفحش القول ، ومن وراء ذلك معاني لطيفة يدركها أهل النور .  

شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان

 ، البينات مفردها بينة ، والفرقان هو القرآن الكريم ، والقرآن لا يمسه إلا المطهرون ، بمعنى انه إذا ماسَسَت روحك معاني القرآن ستعرف المعاني الكامنة من وراء بينات من الهدى والفرقان ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) ولا يلامس الروح إلا الروح ، فتدرك حينئذ معنى بينات ، لأن البينة هي الواضحة شديدة الوضوح ، والوضوح لا يكون إلا في الرؤية والنور، لا في العمى والظلمة ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي واتاني رحمة من عنده ) .

قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم :( مَن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتى إلى الله مشياً أتى الله إليه هرولة، وكان الله إليه بكل خير أسرع ) . وإذا كان من أقبل على الله أقبل الله عليه ، ومن يأتي ربه مشيا أتاه هرولة ، فسبحان من لا يعلم من هو إلا هو ، ففي رمضان يغشى الناس ما يغشاهم حسا ومعنى لمن أدرك ووعى ، فالصوم لي وأنا اجزي به ، ولا يمكن إدراك معاني ما يغشى الناس في رمضان إلا في حال الصفاء مع الله سبحانه ، فانظر إلى نفسك ومِن حولك ، وانظر إلى ما تجده في روحك أو قلبك ، وانظر إلى ما تشعر به في هذا الشهر الذي يغشى الناس فيه ما يغشى ، فإنك ستجد شعورا مغايرا عن ما قبل رمضان من حالات روحانية مضيئة تشرق بنورها على قلبك أثناء ذكرك وعبادتك ، وقراءتك لكتاب الله ، وصلاتك في جوف الليل والناس نيام ، وما تعمل من صالحات ، ثم تأمل بروحك ما أثر ذلك على قلبك ، وما تشعر به من نشوة روحانية لها مذاق خاص ، ولها وقع وأثر ونورانية من نوع متميز على قلوب المخلصين في هذا الشهر الكريم  الله وحده أعلم بها ، وهذه أول درجات أهل القلوب إن ثبتوا في مدارجهم ، وهنالك أمور لا يمكن البوح بها ، والأمر عند أهل المعاني أعظم بكثير، فالصوم لي وأنا اجزي به .   

قال رسول الله"ص": " الصوم جُنَّةٌ " وجنة تعني الوقاية ، ومفهوم الوقاية يختلف وفقا لمقام السالك إلى ربه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ) . وكلمة ( كفارة ) كل يفهمها وفقا لمعرفته بالله ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين .

ليس من الأدب في غير شهر رمضان مزاحمة الصالحين ، و المقصود بالمزاحمة هنا هي سرعة الجد والاجتهاد ؛ رغبة في القرب ، واستجابة للود في عالم المعاني والأرواح ، لا في عالم الأجسام والأشباح ، وهي لها طابعا وجدانيا يدركه أرباب الأحوال والتجارب مع مولاهم ، ولكن المزاحمة في رمضان تأخذ شكلا آخرا لمن ألقى السمع وهو شهيد ، إذ يغشى الناس في رمضان ما يغشى والصوم لي وأنا اجزي به .

رمضان آية من آيات الله معنوية وحسية ( وفي كل شيء له آية تدل على انه الواحد ) ، وآيات القلوب أعظم ولا يدركها إلا أهلها ، ومن بحث عن شيء وجده ، ولا خير بعد أن تجد الله ، فمن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء سبحانه وتعالى .

رمضان فرصة للاغتنام والربح كل حسب إدراكه وفهمه ، وحسب فلبه وروحه ووجدانه ، وإشراقة النور قي قلبه ، قال عليه الصلاة والسلام : (إن النور إذا وقع في القلب انفسح له و انشرح. قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت )

وكل يغتنم وفق حاله ومقامه وعلمه ، فالطعام موجود ، وكل يأكل مما طاب له ووفقا لوعائه ، فمن اتسع وعاؤه فقد اتسع ، ومن ضاق فقد ضاق ، وما بكم من نعمة فمن الله – ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء واسألوا الله من فضله – السالك إلى ربه يغتنم الفرص ، فلله في دهركم نفحات فتعرضوا لها قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : (إن لربكم فى أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها ) ، فالسالك يغتنم النفحات ويشرب منها ، حتى يعلم ثم يعرف ، فمقام العارفون أعلى من مقام العالمون ، وفي النهاية لا يعرف من هُوْ إلا هُوْ ، و (هُوْ ) ضمير يعود على جميع الأسماء والصفات ، والحمد لله رب العالمين  .

لمراسلة الكاتب  [email protected]

مدونة الكاتب :  www.tahsseen.jeeran.com    : واحة الكتاب والمبدعين المغمورين

              

*كاتب فلسطيني مستقل