تأملات تربوية في سورة طه (4)
تأملات تربوية في سورة طه
(4)
د. عثمان قدري مكانسي
وأول ما نتحدث عنه من تأملات في الحلقة الرابعة والأخيرة من سورة طه
1- التصوير : وقد يتساءل القارئ : ما علاقة التصوير في التربية ؟ فأقول :
هو من الأساليب الراقية في التربية . فالإنسان روح وفكر وقلب ... وهو كذلك عين وسمع ولمس وشم ... فهو معنوي ومادي بآن واحد . فإذا عجز أحياناً عن الوصول إلى الفكرة ذهناً وصل إليها مادةً وحسّاً ... والمهم أن يصل إلى المعلومة ، وتتركز في ذهنه ، ويتفاعل معها .
وهذا الأسلوب الرفيع يتخذه الأدباء للسموّ ببيانهم ، ويحتاج إليه العاميّ البسيط كما يحتاج إليه المثقف العالم لأغراض عدّة . منها :
- توضيح الفكرة واستجلاء المعنى ، والتأكيد عليه .
- التأثير في النفس ... يقول الجرجاني رحمه الله .... فإن كان – المعنى – مدحاً – كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهزّ للعطف – سروراً وزهواً- وأسرع للإلف ، وأجلب للفرح ، وأغلب على الممتدَح ، وأسْيَرَ على الألسن وأذْكَرَ ، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدرَ .
- وإن كان حِجاجاً كان برهانه أنْوَر، وسلطانه أقهرَ ، وبيانُه أبْهر.
- وإن كان افتخاراً كان شأوُه - أمدُه - أبْعَد ، وشرفُه أجدَّ ، ولسانه ألَدَّ – أشدّ - .
- وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب ، ، وللقلوب أخْلب ، وللسخائم أسَلّ- والسخيمة ( الغل والضغينة . وسلَّ السخيمة انتزعها وأخرجها )، ولغَرب الغضب أفلّ . ( العضب حدّ السيف . وفلّهُ: ثلمه ).
- وإن كان واعظاً كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكْر ، وأبلغَ في التنبيه والزجر ....
وقد أطلت عن الوصف للتصوير كي لا أعود إليه مرة أخرى حين أعرّفه . بل أحيل إليه .
وانظر معي إلى التصوير المخيف في تدمير الجبال يوم القيامة وتسويتها بالأرض كأنها لم تكن ، وهي الممتدة جذورها في الأرض ، الآخذة سموّاً في السماء : " ويسألونك عن الجبال : فقل : ينسفها ربي نسفاً ، فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمْتاً " فلم يعد هناك علوّ ولا سفول ، فهي مستوية كمياه البحر في اليوم الساكن الرياح ، وكالمرمر المصقول ... ثم انظر معي إلى خروج الناس من الأرض يوم البعث ، يتبعون الصوت الصادر عن بوق النشور مسرعين إلى مصدر النداء دون جلبة ولا صوت سوى الهمس " يومئذ يتبعون الداعيَ لا عِوَج له ، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً " وتأمل الوجوم وخضوع الناس الذليل التام لعظمة الله تعالى " وعنت الوجوه للحي القيوم " ... وتصور الظالم يحمل ما اقترفته يداه كما يحمل العتال الحمل الثقيل " وقد خاب من حمل ظلماً " . ولعل الصورة الممتدة تتجلى في اجتماع الناس على صعيد واحد.... وتأمل الحوار الذي جرى بين موسى عليه السلام والسحَرَة وتصور إلقائهم حبالهم وعصيهم وسحرهم الناس ثم إلقاء موسى عصاه لتبطل هذا السحر العظيم ، وانقلاب السحرة إلى الإيمان بالله تعالى وغيظ فرعون وتهديده إياهم بالصلب وتقطيع الأيدي والارجل ، واستعلائهم على الدنيا حين عرفوا الحق وآمنوا به ... كانت الصورة متحركة فرأينا ما فعله السحرة ثم ما فعله موسى ، ورأينا السحر الكبير يتحول فجأة هباء منثوراُ ، وسمعنا الحوار بين السحرة وفرعون ، ثم بينهم وبين موسى ، وسمعنا التهديد والوعيد من فرعون بالبطش والتنكيل ، وإصرارهم على الإيمان بعد أن ذاقوه ودخل أفئدتهم ولامس شغاف قلوبهم ... إن التصوير حين يمر أمامنا كأنه فيلم سينمائي شاغلاً حواسنا السمعية والبصرية يرسخ الفكرة والمعنى في الأذهان والنفوس فتنطبع في ذاكرتنا فلا ننساهما ... ونجد هذا التصوير البديع من الآية السادسة والخمسين إلى إلى الثالثة والسبعين .. والصور تملأ السورة فتموج فيها الحركة ، وتبعث في القصة الروح والحياة . فتشد انتباه القارئ أو السامع وكأنه يعيش معها واحداً من شخوصها .
2- الوضوح في التعامل : يجلي الفكرة ، ويزيل اللبس ، ويضع النقاط على الحروف . وهذا واضح في السورة الكريمة . من ذلك قول السحرة لموسى عليه السلام " قالوا يا موسى : إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ، قال : بل ألقوا " فكان التنافس أن يبدأ السحرة برضى من موسى .... فقد تركوا له الخيار ، فاختار أن يكونوا هم البادئين ، وكانت خطتهم أن يبهروه بسحرهم فيشلّوه من الخوف ، فيربحوا في الجولة الأولى دون عناء فيستسلم لهم دون مقاومة ولو كان أمر موسى من عمله لنجحوا في خطتهم ، لقد خاف موسى لأنه بشر" فأوجس في نفسه خيفة موسى " .... وكانت خطته التي أمره الله بتنفيذها أن يتركهم يظنون ما يظنون منتشين بما فعلوا ثم يفجأهم بالضربة القاضية فيزلزل أركانهم فيستسلموا ابتداءً ... هكذا كان . والله غالب على أمره فقد طمأنه المولى تعالى حين أوحى إليه " قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى " فماذا حصل؟ " فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى " .
ونجد الوضوح في موقف آخر ،إذ أمر الله تعالى موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون بمهمة محددة " اذهبا إلى فرعون إنه طغى ، فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى " " فقولا : إنا رسولا ربك أن أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم .... إنا قد أوحي أن العذاب على من كذب وتولّى " لقد طغى، فوجب تذكيره ليعود إلى الصواب ويسرح اليهود الذين استعبدهم وإلا وقع العذاب عليه .. وليكن التهديد بأسلوب هيّن ليّن ، إن الرفق أدعى إلى الاستجابة . هذا ما طلب إليهم ، وهو أمر واضح لا لبس فيه .
3- التحذير : أسلوب يتبعه المحب لمن يريد تهذيبه ، والمبغض لمن يود تنبيهه ، والمربي لمن يريد تعليمه . ليكون الطرف الثاني على بينة مما قد يكون ، فلا يقع في الخطأ .
وقد يكون التحذير مبطّناً بالنصيحة. فالخاسر من يلقى ربه آثماً فيكون خالداً في النار " إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا " وكذلك في قوله سبحانه محذراً من الإعراض عن القرآن تلاوة وفهماً وتطبيقاً " وقد آتيناك من لدنّا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً " . أما الإعراض عن ذكر الله في الدنيا فله عقوبتان : الأولى دنيوية " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً " والثانية أخروية " ونحشره يوم القيامة أعمى " .
وقد يكون التحذير من العدو الأول للإنسان : الشيطان وأحابيله .. فقد أعلن هذا المخلوق عداوته لآدم وذريته :" فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " وذلك حين رأى نفسه أعلى مرتبة من آدم وذريته ، فكيف يسجد له ؟ " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى " فكان التحذير منه فضلاً من الله تعالى علينا وتنبيهاً " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك ، فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " ولكن لأمر أراده الله تعالى سقط آدم عليه السلام في شرك إبليس فغوى ، وأنزله الله إلى الأرض بعد أن تاب عليه ليختبره وذريته وليكون الامتحان .. ففيه يُكرم المرء أو يُهان .
4- الأمر والنهي : فالأمر بالشيء : تكليف به وحث عليه ، وهو الأصل ،لأن فيه دفعاً إلى العمل . ولا حياة بلا عمل ينشئ سعادة للإنسان ... والنهي عنه : منعه وتحريمه ، لأنه ينقي الحياة من الشوائب التي تعترض سبيل الإنسان وتنغص عليه . والحياة تجري بين الأمر المباح والنهي الممنوع . فمن أمثلتهما في هذه السورة :" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيُه ، وقل ربِّ زدني علماً " ومن الأمر كذلك " فاصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ... ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى " ومن النهي :" قال لا تخافا ، إنني معكما أسمع وأرى " وقوله سبحانه " فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها " .
5- الحوار : مر معنا في مقالة سابقة أن الحوار يثري المخاطب سامعاً وقارئاً ، ببراهينه وأدلته وطريقته ، ويثبت الفكرة بإشغال أكثر من حاسة . وفي هذه السورة الكريمة نجد أطرافاً عدة من المتحاورين ..
ففي أول السورة حوار بين الله تعالى وموسى عليه السلام إلى الآية الثالثة والأربعين ....... ونجد حواراً آخر عند جبل الطور ...
ثم هناك حوار قصير بينه تعالى وبين نبييه الكريمين موسى وهارون إذ أمرهما أن يذهبا إلى فرعون .
ثم حوار بين موسى وفرعون من الآية 49 إلى الآية 59
ثم حوار بين موسى والسّحّرة من الآية 61 إلى الآية 65
ثم حوار بين السحرة المؤمنين وفرعون من الآية 71 إلى الآية 76 على أرجح الأقوال .
وحوار قصير بين هارون وقومه .
ثم حوار بين موسى وهارون حين رجع إلى قومه بعد ما أضلهم السامري .
ثم حوار بين موسى والسامريّ .
ثم جمل قصيرة فيها حوار بين الله تعالى وآدم .. ثم وسوسة الشيطان لآدم .................... وأخيراً الحوار بين الله تعال والذي صار أعمى في الآخرة لعمايته عن الحق في الدنيا .......... وهكذا يثري الحوار الموضوع بالصوت والصورة ولا سيما حين تدخل " إذ " على الحوار فتنقلنا إلى مكانه وزمانه
" إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا ........
إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ...
إذ تمشي أختك فتقول ...
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا للآدم ....... " .
6- العرض المنطقي : لا يترك الله تعالى للكافرين حجة يوم القيامة يحاجونه بها. فأرسل لهم في الدنيا رسولاً كريماً يذكرهم بالله تعالى ويدلهم عليه ويعرفهم به ، فلا يبقى لهم ما يتعللون به إذا سألهم يوم القيامة ... " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا : ربنا لولا أرسلت رسولاً إلينا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ؟ " ولأنه سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً جلّى الأمور، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين . بل إنه سبحانه يرد ابتداء على من طلب من أهل مكة المعجزات من النبي عليه الصلاة والسلام : حيث سبقتهم الأمم فطلبت المعجزات من أنبيائهم فكانت الناقة والعصا وإبراء المرضى وإحياء الموتى فما زادهم إلا ضلالاً وكفراً ... ولئن اقترح هؤلاء الدليل على نبوته فقد جاءت الكتب السابقة مبشرة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام بصفاته واضحة : " وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ؟ او لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى "
ثم انظر إلى الجواب المنطقي لسؤال الكافر الذي كان في الدنيا مبصراً ، وحشر يوم القيامة أعمى " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ؟ قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ، وكذلك اليوم تنسى " .
7- التقعيد : كل بناء له أساس يقوم عليه ، وقاعدة يرتكز عليها . ولن تجد بناء متيناً إذا لم يقم على أسس صلبة وقاعد ثابتة . وأولى القواعد المتينة وحدانية الله تعالى
" قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد " .
ومن هذه القواعد الرئيسة في هذه السورة أن الرزق من عند الله تعالى " لا نسألك رزقاً ،
نحن نرزقك " والقاعدة الثانية : أن الغلبة لمن اتقى :" والعاقبة للتقوى " والقاعدة الثالثة " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً " . والقاعدة الرابعة " ولولا كلمة سبقت من ربك " وهذه الكلمة التي سبقت " أن الساعة آتية لا ريب فيها " وإلا حل العذاب على الكافرين بمجرد كفرهم . ونظرة متأنية في هذه السورة ترينا كثيراً من القواعد الثابتة في الحياة والكون أدعها للقارئ الكريم .
8- البداية والنهاية الموفقتان : براعة الاستهلال تستقطب المخاطب سامعاً وقارئاً .. وهذا ما نراه واضحاً في أول السورة " طه .. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ..." فـ " طه " كما قدّمنا أ- تحبّبٌ للرسول الكريم ومدحٌ له وتعظيم لشأنه ثم نجد
ب-أن القرآن تنزيل من الله تعالى ذي الصفات المجيدة . مما يجذب المخاطب إلى قراءة السورة بشغف وحب واطمئنان .
ونجد النهاية تقسم الناس إلى قسمين .. مؤمن وكافر .. وكل منهما يتربص بالنهاية وينظر إليها ..فمن الفائز ياترى؟ أهم المؤمنون الأتقياء أم هم الكافرون الأشقياء ؟ ومن على الصراط المستقيم ؟ .. أهم الذين رضي الله تعالى عنهم ؟ أم من غضب عليهم ؟! ... إن عداً لناظره قريب ." قل كل متربص فتربصوا ، فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ".