بديع الزمان النورسي(4)
بديع الزمان النورسي(4)
بقلم: عبد الله الطنطاوي
أهدافه كان الهدف الرئيس للأستاذ -رحمه الله تعالى- إنقاذ الإيمان، ليعود الناس إلى دينهم، ويقيموا بيوتهم ومجتمعهم ودولتهم على الإسلام، يقول الأستاذ: "إن غايتي إصلاح الأسس التي يُبنى عليها الإيمان، فإذا أصبح الأساس صلباً قوياً، فلا يؤثر فيه مؤثر بعد، حتى الزلازال.."(108). فليس له من غاية في هذه الحياة، سوى إنقاذ الإيمان، وإعادته إلى القلوب التي خوت، وإلى الحياة، بعدما ران عليه ما ران من الضلالات والإلحاد الذي يسعى إلى القضاء عليه، وفي القضاء على الإيمان قضاء على الأمة في الدنيا والآخرة. لذلك ركّز جلّ مساعيه على بيان (حقيقة الإيمان) التي تبعث الطمأنينة في الفرد، والسعادة في المجتمع، بدلاً من تقديم وصفات اجتماعية غير قابلة للتطبيق. وهذا الهدف النبيل ضروري جداً لأي جماعة تحترم نفسها، وتسعى لتحقيق طموحاتها السامية، يقول الأستاذ: |
بديع الزمان النورسي |
"إن لم يكن لفكر الجماعة غاية وهدف مثالي، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت، تحوّلت الأذهان إلى أنانيات الأفراد، وحامت حولها، أي يتقوى (أنا) كل فرد، وقد يتحدد ويتصلّب، حتى لا يمكن خرقه، ليصبح (نحن ) فالذين يحبون (أنا) أنفسهم، لا يحبون الآخرين حباً حقيقياً"(109).
أما الأهداف الأخرى التي سوف تنبثق بشكل طبيعي من هذا الهدف الكبير، فكثيرة نذكر منها:
- القضاء على الجهل بنشر العلم، وتعميم المدارس والجامعات في أنحاء الدولة، ولم يأل جهداً في ذلك، فقد اتصل بالسلطان عبد الحميد وحاور وزير داخليته، من أجل إنشاء جامعة في شرقي الأناضول، تكون على غرار الجامع الأزهر، ثم اتصل من بعده بالسلطان محمد رشاد، من أجل هذه الغاية، ولكنه لم يفلح، مع أنه قدّم بين يدي السلطانين دفوعاً مقنعة، وبيّن مصلحة الدولة والأمة في ذلك، ثم عاود المطالبة أيام الكماليين، وبقيت جامعة الزهراء حلماً يداعب خياله طوال عمره المديد، وكان ذا نظر ثاقب في إنشاء (الزهراء) التي لو أنشئت، وتعلم الشعب الكردي في شرقي الأناضول، وعرف ربه ودينه، لما حصل الذي حصل ويحصل الآن في تركيا الطورانية العلمانية.
كما دعا إلى الأخذ بالعلوم الحديثة، وتدريسها إلى جانب العلوم الدينية، ولم يرفضها لأنها جاءت من أوربا، لأن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحقّ بها فيلتقطها. وعدّ الجهل من ألدّ أعداء الأمة، إلى جانب الفقر والاختلاف والاستبداد، وكان يرى أن العلم كفيل بالقضاء على هذه الأعداء الثلاثة.
ولهذا رأيناه يتبحر في مختلف العلوم الدينية والكونية، ويؤلف ويكتب ويحاضر، ضارباً بنفسه وبإخوانه العلماء والمتعلمين أروع الأمثال في التعلق بالعلم، وبالدعوة إليه.
- القضاء على الفقر، عن طريق العمل والكسب الحلال، وعن طريق العلم.
- القضاء على الاستبداد، بالدعوة إلى الشورى، وتحكيم شرع الله والقرآن الذي ينص على الشورى (وأمرهم شورى بينهم) ويأمر نبيّه الكريم بمشاورة أصحابه: (وشاورهم في الأمر). والعلم والإيمان كفيلان بالاستبداد والمستبدين.
ظهر هذا في مقالاته في الصحف، وفي مقابلاته مع رجال الإدارة والحكم، وفي تجواله بين الناس، وأحاديثه معهم.
- الدعوة إلى وحدة المسلمين أو اتحادهم، ونبذ الخلافات فيما بينهم، تمهيداً لتحقيق هدف عظيم، هو عودة الخلافة الإسلامية التي قضى عليها الكماليون العلمانيون. يقول النورسي، موجهاً كلامه إلى طوائف الأمة:
"إن لم تزيلوا هذا النزاع، فإن الزندقة الحاكمة الآن حكماً قوياً، تستغل أحدكما ضد الآخر، وتستعمله أداة لإفناء الآخر(110).
إذن .. كان يدعو إلى الاتحاد والوحدة دائماً، ويتجنب كلياً الأمور التي تعوق الاتحاد وتعرقله كتلك الاختلافات التي ينشبها الأعداء بين المسلمين أفراداً ودولاً وشعوباً مستغلاً غرقها في بحار التخلف والجهل والغفلة، ولهذا كان يقول لتلاميذه داعياً إياهم إلى التآخي والتوادّ والتحابّ:
"إخوتي. إن الإسلام لا حاجة له بخدمتكم وعملكم، بقدر ما هو في حاجة ماسة إلى تساندكم وترابطكم. فعليكم أن تقرؤوا بين حين وآخر، كلاً من رسائل: (الإخلاص) و (الأخوة) و(الهجومات الستة) فيما بينكم، ذلك لأن تساندكم وإخلاصكم وثباتكم وصلابتكم السائدة فيما بينكم منذ البداية، ستكون مفخرة لهذه البلاد"(111).
لماذا؟ لأنها مظهر حقيقي من مظاهر الوحدة الصغرى التي ستكون نواة لوحدة فصائل الأمة الإسلامية وشعوبها.
وكان دائم الهتاف:
"أيها العالم الإسلامي. إن حياتك في الاتحاد" وإن موتك في الفرقة والاختلاف.
لأنه كان يرى أن من أهم أسباب ضعف المسلمين وتأخرهم، هذه الفرقة وهذا التمزق الذي طالما سعى إليه الأعداء حتى حقّقوه. ولا يمكن للمسلمين أن ينهضوا إلا بوحدتهم أو اتحادهم على أقل تقدير.
في نظريات التغيير
هناك عدة نظريات للتغيير، وقد أحصاها الأستاذ منير شفيق بالتالي:
1 - نظرية العمل المسلح: كفعل الأمير عبد القادر الجزائري، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابي.
2 - نظرية العمل السياسي: وهي نظرية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
3 - نظرية الثورة المتحالفة: وهي التي انتهجها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تحالفه مع الأمير محمد بن سعود.
4 -النظرية التربوية: وهي التي تحضّر لمرحلة أخرى أو أكثر، وينتقل فيها العمل إلى الجهاد، وهي نظرية الإمام الشهيد حسن البنا.
5 - نظرية الثورة على الحاكم الجائر. كما حدث في اليمن.
6 - نظرية استخدام مختلف أشكال المقاومة ضد الاستعمار المباشر، كما حدث في ثورة الجزائر.
7 - نظرية التحريض اليومي، كثورة الإمام الخميني في إيران"(112).
نظرية التغيير عند النورسي
الغريب أن الأستاذ منير شفيق لم يذكر الإمام النورسي بين هؤلاء، ولعل السبب يعود إلى عدم اطلاعه على التراث الفكري الهائل لبديع الزمان، أو لأن أحداً لم يبلور نظرية النورسي في التغيير.
ومن خلال اطلاعي على بعض تراث النورسي، أرى مشابه كثيرة في عملية التغيير بينه وبين ما جاء به الأستاذ البنا، أي النظرية التربوية التي تتطور إلى عمل سياسي لم تنفكّ عنه يوماً، برغم لعن النورسي للشيطان والسياسة معاً، وقد تتطور إلى عمل جهادي -لو أتيح لها ذلك في قابل الأيام- كما فعل الأستاذ البنا عندما خاض مع إخوانه في مصر وسورية والأردن وفلسطين حرباً مع يهود، وكما جاهد النورسي وإخوانه في القفقاس..
على أي حال، لم يكن في مشروع بديع الزمان أيّ توجه نحو العمل المسلح داخل تركيا، ضد الحكام الملاحدة من الكماليين، برغم إعلانهم الحرب الضروس على الإسلام وعلمائه والدعاة إليه، ولذلك لم يؤيد ثورة الشيخ سعيد بيران على النظام الكمالي القومي العلماني، لأسباب نعرف بعضها، ولا نعرف بعضها الآخر.
يقول الدكتور محسن عبد الحميد:
"ولإيمان الأستاذ بالتغير في إطار انتشار الوعي الاجتماعي، والدعوة السلمية، فإنه لا يبيح الجهاد المسلح الداخلي الموجه إلى حكام المسلمين، لأن ذلك لا يخدم -من وجهة نظره- إلا العدوّ الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي من حيث هو كلّ.
فهو يقول: "إن الجهاد المسلّح لا يحشد كلياً إلا ضدّ العدو الخارجي، والصراع المسلح داخل البلاد الإسلامية، هو ما يصبو إليه العدو الخارجي، إذ إن سفك دماء المسلمين فيما بينهم، أمر يهمهم" ويضيف: "إن الجهاد في أي مجتمع إسلامي، إنما هو جهاد معنوي، يتوصل إليه عن طريق تنوير الأفكار، وإصلاح القلوب والأرواح.
ويكون جهاداً إيجابياً بنّاء لصدّ التخريبات المعنوية، ويُتصرف فيه وفق سرّ الإخلاص. فهناك بون شاسع بين الجهاد في الخارج والجهاد في الداخل. فنحن نبذل قصارى جهودنا للحفاظ على استقرار البلاد، وأمنها، وفق العمل الإيجابي البناء..
في هذا الوقت، الفرق عظيم جداً بين الجهاد الداخلي والجهاد الخارجي"(113).
وقارئ تراث الإمام النورسي لابد له من أن يلاحظ اتسام نظريته الإصلاحية التغييرية بالسمات التالية:
1 - التدرج في الإصلاح والدعوة إلى التغيير.
يقول الدكتور محسن عبد الحميد في كتابه عن النورسي:
كان النورسي "يؤمن (بالنظام)، ويبعد (الفوضى) ويؤمن (بالتدرج) ولا يعتقد (بالطفرة). فالنظام والتدرج هما أساس الوجود كله، وأي خروج عليهما، يعني إدخال الفساد عليه، وهو خروج واضح على تعاليم القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والقرآن هو الكون المقروء، والسنّة هي الكون المطبق في الحياة العملية".
"وفي ضوء ذلك، فإن النورسي يدعو إلى تغيير اجتماعي منظم، يتمسك بقانون التطور الفطري التدريجي، ويجب أن يبدأ من القاعدة، ويصعد إلى القمة، لا العكس، لأن العكس سيؤدي إلى زعزعة الحياة الاجتماعية، ويحصل منه شر مستطير، وتخريب كبير".
فهو يقول:
"إن من يشق طريقاً في الحياة الاجتماعية، ويؤسس حركة. لا يستثمر مساعيه، ولن يكون النجاح حليفه، ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميع أعماله لأجل التخريب والشر"(411).
"إذن فلا بدّ أن يكون قانون التغير في حياته هو التغير التدريجي، حتى لا يختلّ توازن الحياة، فيؤدي إلى نتائج عكسية"(115).
ولهذا بدأ بالأهم ثم المهم في سلم الأولويات الذي هو منهج الأنبياء. ومن هنا كان تركيزه على إعادة الإيمان إلى النفوس والقلوب والحياة، وكل الأهداف الأخرى كانت تابعة للإيمان، ونابعة منه يقول:
"إنه لابد لهذا العصر من مجدد له شأنه، ليقوم بتجديد الدين والإيمان، وتجديد الحياة الاجتماعية والشريعة، وتجديد الحقوق العامة، والسياسة الشرعية، ولكن أهم تلك الوظائف هو التجديد في مجال المحافظة على الحقائق الإيمانية فهو أجل وأعظم تلك الوظائف الثلاث. لذا، تبقى دوائر "الشريعة" و"الحياة الاجتماعية والسياسية في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، بالنسبة إلى دائرة الإيمان"(116).
أي أنه كان قد وضع سلم أولوياته على النحو التالي: الإيمان، ثم التربية، ثم الشريعة. ولهذا تدرج في دعوته الإصلاحية من الفرد؛ عاملاً، وفلاحاً، وطالباً، وعالماً، ورجل إدارة وسياسة، يغرس في نفوسهم العقيدة والإيمان والأخلاق ومبادئ الإسلام وفضائله، ثم ينتقل إلى البيت؛ زوجاً وزوجة وأولاداً وأسرة، ثم إلى المجتمع بكل ما فيه من شرائح وطبقات وفئات، ثم إلى الأمة الإسلامية.
واستمر النورسي في تطبيق نظريته التغييرية عن طريق:
نشر حقائق الإسلام بالأدلة والبراهين.
وتكوين الجيل المؤمن الصالح.
وبثّ الوعي الإسلامي بخطورة الحملة الشرسة على الإسلام والمسلمين.
وتهيئة صفوف الأمة للوقوف أمام الموجة اللادينية الطاغية.
ونقل التربية الإسلامية إلى داخل البيوت".
"وقد نجح أسلوبه هذا إلى حد بعيد"(117).
2 - وكان منهجه في الإصلاح والتغيير يقوم على الوسطية، وعدم التعصب أو المغالاة في التحيز. يقول الأستاذ النورسي:
"أيها العالم الإسلامي، إن حياتك في الاتحاد.
إن كنت طالباً للاتحاد، فاتخذ هذا دستورك.
لابد أن يكون "هو حق" بدلاً من (هو الحق)
إذ يحق لكل مسلم أن يقول في مسلكه ومذهبه:
"إن هذا حق" ولا أتعرض لما عداه، فإن يكن جميلاً فمذهبي أجمل.
بينما لا يحق له أن يقول في مذهبه:
(إن هذا هو الحق، وما عداه باطل، وما عندي هو الحسن فحسب، وغيره قبيح وخطأ).
إن ضيق الذهن وانحصاره على شيء، ينشأ من حب النفس، ثم يكون داء، ومنه ينجم النزاع"(118).
وبهذا السلوك يكون التعاون والاتحاد، وبغيره يكون التنازع والتخاصم والتنابذ، وهو ما يسعى إليه أعداء هذه الأمة. وعلى هذه الوسطية ربّى تلاميذه، ليصلح بهم الناس، وبهذه الوسطية نفسر موقفه من حضارة الغرب وفلسفته وعلومه، وموقفه من المدارس الدينية والمدارس الحديثة، ومن العلماء المبتدعين، ومن الصوفية المنعزلين.
3 - وكانت دعوته شمولية، تحاول أن تكون مكافئة للقوى الثقافية المعادية، لأن المدّ الإلحادي في تركيا كان يشمل جميع جوانب الحياة، وكان يركّز على الأصول والكليات في الإسلام، قبل الفروع والجزئيات، ولذلك جاءت دعوة النورسي متّسمة بسمة الشمول والكلية(119). اسمعه يقول:
"إن رسائل النور لاتعمر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتاً صغيراً مهدماً، بل تعمر أيضاً تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة عظيمة، صخورها كالجبال، تحتضن الإسلام وتحيط به.. وهي لا تسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين، بل تسعى أيضاً -وبيديها إعجاز القرآن- لمداواة القلب العام المجروح، وضماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هيئت لها، وركمت منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجه نحو الفساد نتيجة تحطم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع، ولاسيما عوام المؤمنين. نعم إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدوية إعجاز القرآن والإيمان.
فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشكوك الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة، وأعتدة مجهزة بدرجة حق اليقين، وبقوة الجبال ورسوخها، ووجود أدوية مجربة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق، ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حد لها"(120).
ولأجل هذا كان يخاطب سائر فئات المجتمع حكاماً ومحكومين، علماء وعامة:
"وانطلاقاً من هذا الشمول فقد سار في الخطوط العامة المتوازية في دعواته، حيث إصلاح الفرد، وإصلاح البيت، وإصلاح المجتمع، وإظهار الحقائق بإزالة اللبس لدى طلاب النور، وتفنيد شبه العلمانيين الملحدين، وشبه غير المسلمين، وكشف الحقيقة حول دعوته لدى المسؤولين، وفي دفاعاته في المحاكم، وإظهار الحقائق حول الأفكار السائدة في تركيا على زمانه، وبذل مساعيه المضنية لأجل عودة الخلافة الإسلامية.
ولم يقصر الدعوة على جانب معرفي معين، بل كانت شاملة لجميع العلوم والمعارف التي شملها الإسلام. يقول عن الرسائل التي هي مرآة دعوته:
"إن رسائل النور تسد الحاجة التي تخص الحقائق الإسلامية، فلا تدع حاجة إلى مراجعة مؤلفات أخرى"(121).
4 - وكانت دعوة عالمية، وليست إقليمية.. كان يحث على ترجمة رسائله إلى اللغة العربية، وإلى اللغات الأخرى التي تنطق بها سائر الشعوب الإسلامية، بل وغير الإسلامية، من أجل التبشير بأفكاره وتعاليمه المنبثقة من القرآن والسنة، وكان يأمل أن يقوم علماء من الأزهر أو من بلاد الشام بترجمتها إلى اللغة العربية، كما أوفد أحد طلبته إلى العراق ومصر من أجل هذا الغرض.
ولذلك كان يضع أمله في العرب، وليس في قومه الأكراد، ولا في الأتراك، شأنه شأن أي عالم، أو مجدّد، أو مصلح إسلامي، يعمل على النهوض بأمة الإسلام، وليس أحقّ من العرب المسلمين بالنهوض، واستلام زمام القيادة. قال في خطبته الشامية:
"إنني أنتظر من العرب أن يوحّدوا صفوف المسلمين، ويعيدوا إلى الإسلام سالف عهده، وأملي كبير بأن الأجيال القادمة سوف تعيش اليوم الذي يمتدّ فيه الإسلام إلى شتى أنحاء العالم."(122).
ويعرّض بالقوميين العرب العلمانيين المنادين بالقومية العنصرية البعيدة عن الإسلام، كدعاة القومية التركية الطورانية فيقول:
"وكذا العرب قد سرى الإسلام فيهم، فلا يمكنهم الانفصال عنه والانفصام، فلا معنى للعرب ولا مكانة إلا إذا اقترنت عروبتهم بإسلامهم. فالقومية خطر عظيم"(123).
ولذلك كان يؤكد على اللغة العربية، والحروف العربية، يعلّمها تلاميذه، ويدعو إلى أن تكون خطبة الجمعة باللغة العربية، ولا يرى إلقاءها بغير العربية تحت أي ذريعة.
ونظرته إلى الأتراك كنظرته إلى العرب في تمسكهم بالإسلام، وأنهم جزء لا يتجزأ منه. يقول:
"إن الأتراك قوم لا يمكنهم الانفصال عن الإسلام، وهم جزء غير قابل للانفصال عن الأمة الإسلامية، حتى إن غير المسلم فيهم لا يكون تركياً، فكل تركي مسلم"(124). وليذهب أدعياء القومية ودعاتها إلى الجحيم.
ولكن أبرز صفة يمكن وصف دعوته بها، هي أنها إسلامية تُعنى بقضايا العقيدة، لاسيما وجود الله ووحدانيته، واليوم الآخر (الحشر) وما يتعلق به من الأمور الغيبية. وكلّ خصائص دعوته التي أشرنا إليها، وهي: (التدرج، والوسطية والشمول والعالمية) هي من خصائص هذا الدين.
وسائله في تحقيق تلك الملامح الإصلاحية
كان هامش الحرية الذي أتيح للأستاذ النورسي ضيقاً وضيقاً جداً، وقد تقدم أنه قضى زهرة عمره في المنافي والسجون والمعتقلات.. ثمانية وعشرين عاماً لا غير قضاها سجيناً ومنفياً بعيداً عن الناس وعن تلاميذه، ولهذا لم يتح له من الوسائل إلا النزر اليسير للتبشير بدعوته الإصلاحية، في السجون، حيث اهتدى على يديه عدد من المجرمين المحبوسين معه، وفي المنافي، حيث كان يشدّ أنظار الفلاحين البسطاء إليه بمنظره ودينه وأوراده واستقامته وصبره، كما شدّ عدداً من أفراد الشرطة القائمين على مراقبته، وكذلك بعض القضاة الذين كانوا يستمعون إلى مرافعاته ودفوعه الرائعة المقنعة ببراهينها وأدلتها المصحوبة بحماسة وجرأة وفاعلية..
وقد استثمر الأستاذ النورسي كل الوسائل المتاحة، من اتصالات شخصية، إلى الخطب والمواعظ والمحاضرات في المناسبات المختلفة، إلى الكتابة في الصحف، إلى تأليف رسائل النور التي كانت -وما تزال- دروساً قرآنية توافق أفهام هذا العصر، وكانت كل رسالة منها هي سعيد النورسي نفسه، كما قال في (كلماته)(125).
وكان يكتب (المكاتيب) أي الرسائل الشخصية إلى تلاميذه وإلى الهيئات الإسلاميّة وغير الإسلامية، ويجيب بها سائليه، كما كان يكتب الرسائل إلى الحكام والعلماء والوجهاء، ينصحهم حيناً ويأمرهم وينهاهم حيناً آخر.
وقد ظهرت مواهبه المتعدّدة، ومؤهلاته العقلية والمنطقية والعلمية، في محاوراته ومناظراته.. ظهر فيها عقله المرتّب، ومنطقه العلمي السليم، فكان يلزم الخصوم حدودهم، ويكسب ذوي الضمائر الحيّة والمخلصين المغرَّر بهم. نذكر من حواراته ومناظراته، ما كان مع وزير داخلية السلطان عبد الحميد، ومع مفتي مصر الشيخ محمد بخيت المطيعي، ومع القائد العام للجيش الروسي خال القيصر نقولا، ومع مصطفى كمال، ومع حسين باشا رئيس إحدى العشائر الكردية الذي جاء يدعوه إلى الاشتراك في ثورة الشيخ سعيد بيران ضدّ النظام الكمالي العلماني، وحواره مع رؤساء العشائر الكردية والتركية، لتحطيم اليأس، وبعث الأمل في النفوس. ولعلّ أروع تلك المحاورات والمناظرات ما كان مع المحققين والقضاة الذين كانوا يحققون معه، لإدانته والإيقاع به، وقد كانت دفوعه ومرافعاته، في المحاكم العلنية، وسيلة فعّالة في نشر أفكاره وآرائه بل كانت خير وسيلة لشرح غاية دعوته، وفضح مرامي الذين يقفون ضدّه، ومقاصدهم المعادية للإسلام والداعين إليه.
وكل نظرية تغييرية تحتاج إلى الموارد البشرية بأعدادها ونوعيتها وإلى الخبرات اللازمة، والتقنية المكافئة، وإلى الوقت الكافي لعملية التغيير، وإلى المكان الجاهز والصالح لتلك العملية(126).
وهذه كلها لم تكن متوافرة لدى بديع الزمان، لطبيعة الظروف القاسية التي كان يعيشها، والتي فرضها عليه أعداء الإسلام.
صحيح أنه كان مقتنعاً بضرورة الإصلاح والتغيير، وقد استطاع إقناع أتباعه بهما، بما كتب وشرح لهم، وبالوضع الشائن الذي عرّاه أمامهم، حتى جعلهم ينفصلون عن هذا الواقع نفسياً، بفقد انبهارهم به، وبأن المستقبل يجب أن يكون لهذا الدين.
وصحيح أنه استطاع تحويل أحاسيس اليأس والإحباط إلى مشاعر إيجابية بناءة، واستطاع تعبئتهم تعبئة نفسية سليمة، وولّد لديهم طاقة جديدة يحدوها الأمل بمستقبل أفضل.
هذا كله صحيح، ولكن التحديات كانت أكبر من الوسائل المتاحة له.. كانت الرياح الهوج تعترض سفينة حياته التي تتقاذفها وتلاطمها أمواج القوى السياسية والثقافية المعادية.. كان الناس أكثر الناس يسبحون مع تيار الإلحاد والانفلات، وكان هو وتلاميذه يسبحون ضدّ ذلك التيار الهائل الهادر الذي حشد له الحاشدون الحشود التي أرادوا بها القضاء المبرم على الإسلام، في نفوس أبناء الإسلام وحُماته، والإجهاز على علمائه والدعاة إليه على علم وبصيرة. فالقوى لم تكن متكافئة، ولم يكن الخصوم أخلاقيين في خصومتهم، لأنهم كانوا يسيرون في ركاب أفكار وحضارة بلا أخلاق.
ولذلك .. قضى الأستاذ نحبه، ولمّا يقض وطره في إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة والمجتمع من جديد.
الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسياسية لدعوته
كانت الدولة العثمانية، ثم الدولة الكمالية، غارقتين في الجهل والفقر والتخلف.. أميّة ضاربه أطنابها في المجتمع التركي عامة وفي الأرياف الفقيرة خاصة.. أمّية في القراءة والكتابة، وأمّية فكرية قاتلة.. وبشكل أخصّ، في كل ما له صلة بهذا الإسلام، حتى غدا الإسلام بمبادئه العظيمة، مشوَّهاً، تتناوشه سهام الغدر من كل جانب، جهل مطبق في العبادات التي كانت صورية شكلية لا روح فيها.. وجهل أشدّ بتعاليم الإسلام ومبادئه القويمة، التي تعرّضت لأشرس حملة يهودية صليبية علمانية حاقدة عليها.. على الإسلام، وعلى تاريخه، وعلى رجاله، حتى رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم لم يسلم من طعنات الطاعنين به، والمسلمون عاجزون جهلة، وعلماء الإسلام بين منكفئ على نفسه، وفار بدينه، وبين منحرف مبتدع سائر في ركاب الحاكمين.
عاصر بديع الزمان هاتين المرحلتين الحالكتين، ووعى الداء، وعرف الدواء، فتسلّح بالعلم والإيمان والإخلاص، ثم انطلق يجوب المدن والقرى والأقاليم التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وقابل السلاطين والوزراء ورجال الحكم والإدارة، وطالبهم بالإصلاح، وبتحمل مسؤولياتهم تجاه الأمة والوطن، كما دعا أبناء الشعب إلى اليقظة والنهوض من الهوّة السحيقة التي تردّوا فيها منذ زمن، فتعرض لما تعرّض له من بلاء السجن والتعذيب والنفي، والملاحقة والمطاردة والتضييق عليه وعلى تلاميذه طلاب مدرسة النور دون أن تلين له قناة، أو تضعف له عزيمة، أو تخور له إرادة، وكان لرسائله وخطبه ومواعظه ومرافعاته ومقالاته الصحفية، آثارها في نفوس الناس، فقد عرّى الدعاوى العلمانية، وفضح أهداف القوميين والبلاشفة والماسون، وصحح الفكرة المشوّهة عن الإسلام ونبيّ الإسلام، عن طريق رسائل النور التي انتشرت في أنحاء تركيا، فانبثقت عنها صحوة فكرية، تمثلت في سيل المطبوعات والكتب في العديد من المدن التركية، واستطاعت أن تضغط على رجال السياسة، وجلهم من العلمانيين، فاستجابوا لبعض مطالب المسلمين، وتزلفوا للشعب المسلم، فأعاد رئيس الوزراء عدنان مندريس -رحمه الله- الأذان إلى لغته العربية، وسمح بفتح العديد من مدارس الأئمة والخطباء، وبفتح الجامعات والكليات الشرعية الإسلامية.
بل إننا نستطيع أن نزعم، أنّ المدّ الإسلامي المعاصر في تركيا، ما هو إلا نتيجة طبيعية، لتلك الصحوة الاجتماعية الإسلامية التي حمل عبأها طلاب مدرسة النور، مستهدين بالرسائل النورانية التي تركها لهم شيخهم الإمام بديع الزمان النورسي، صاحب هذه المدرسة وما حوت من تراث فكري ضخم، كان الشموع وكان المنارات، في ليل تركيا البهيم...
إن المدّ الإسلامي المعاصر في تركيا، فكرياً وسياسياً، وعلمياً، واقتصادياً وتربوياً، هو من ثمرات بديع الزمان الذي غرس غراسها منذ بداية هذا القرن وشرع يتعهدها بالتربة الصالحة، والسقاية والرعاية، حتى آتت أكلها، وصارت قاب قوسين أو أدنى من الهدف الذي سعى الإمام النورسي إلى تحقيقه قرابة ثلاثة أرباع القرن.
* * *
سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
وصلى الله على سيّدنا وقائدنا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
7 من صفر الخير 1418 هـ
12 من حزيران 1997 م


الهوامش:
(17) سورة هود: 118 - 119
(18) د. طه العلواني - أدب الاختلاف في الإسلام: 30 - 31
(19) سورة النحل: 125
(20) سورة البقرة: 83
(21) سورة الجاثية: 14
(22) الكلمات: 846
(23) الصالحي: 202
(24) المكتوبات: 20
(25) الصالحي: 204 نقلاً عن ملحق أمير داغ: 1/90
(26) المكتوبات: 565 - 566
(27) الكلمات: 562 - 569 باختصار
(28) نفسه: 848
(29) المحكمة العسكرية العرفية: 69
(30) المناظرات: 82
(31) الكلمات: 861
(32) د. فرج محمد الوصيف -بديع الزمان سعيد النورسي: 36 نقلاً عن جهان أقطاش- اللبس والحكومة منذ التنظيمات إلى اليوم: 178
(33) نفسه: 39 - 41
(34) نفسه باختصار: 42 - 44
(35) نفسه باختصار: 47 - 53
(36) المثنوي: 197
(37) نفسه: 198 - 199 - 200
(38) الكلمات: 855
(39) نفسه: 856
(40) نفسه: 856 - 857
(41) نفسه: 859
(42) نفسه: 857
(43) د. محسن عبد الحميد - النورسي: 71 - 72
(44) نفسه: 72
(45) المثنوي: 14
(46) عبد الفتاح أبو غدة - العلماء العزّاب: 244
(47) المكتوبات: 419 - 420
(48) نفسه: 566
(49) أسيد إحسان قاسم - ذكريات عن سعيد النورسي: 115
(50) الكلمات: 848
(51) نفسه: 877 - 878
(52) نفسه: 851 - 852
(53) نفسه: 852
(54) الصالحي: 161-162
(55) بشير شكيب الجابري - القيادة والتغيير: 38 - 39
(56) نفسه: 70 - 71
(57) المثنوي العربي النوري: 15
(58) نفسه: 16
(59) الكلمات - اللوامع: 837
(60) نفسه: 852
(61) أسيد الصالحي: 23
(62) المكتوبات: 16 و 17
(63) نفسه: 82 وانظر الصفحات: 84 - 369 - 472 - 541
(64) سورة الرعد: 38
(65) سورة يونس: 49
(66) د. محسن عبد الحميد: 20 نقلاً عن (سعيد النورسي وجوانب مجهولة من حياته): 148
(67) المثنوي العربي: 15
(68) بديع الزمان - صيقل الإسلام: 546 - 547
(69) د. الوصيف: 142
(70) سيرة إمام مجدد: 57 والشعاعات: 18 والدكتور محسن عبد الحميد: 31
(71) الشعاعات: 294
(72) أسيد إحسان قاسم: 110
(73) الكلمات: 854
(74) نبيه زكريا عبد ربه - الحركات الإسلامية ضد الصهيونية والصليبية والشيوعية: 303
(75) الكلمات: 854
(76) نفسه: 859
(77) نفسه: 850
(78) سورة الرعد: 11
(79) نفسه: 862
(80) نفسه: 297
(81) من مقدمة المثنوي للصالحي: 5 - 6
(82) أسيد إحسان قاسم: 88
(83) الكلمات: 873
(84) نفسه: 870
(85) ذكريات عن سعيد النورسي: 91
(86) نفسه: 91
(87) الملاحق: 372
(88) د. الوصيف: 119
(89) نفسه: 165
(90) نفسه: 174
(91) د. الوصيف: 117
(92) نفسه: 119
(93) الكلمات: 853
(94) نفسه: 862
(95) نفسه: 860
(96) سلوة المرضى: 7 - 8
(97) نفسه: 14
(98) نفسه: 16
(99) نفسه: 23-24
(100) سورة العلق: 6 - 7
(101) سلوة المرضى: 32
(102) الكلمات: 869
(103) نفسه: 887
(104) نفسه: 877
(105) عبد الفتاح أبو غدة: 243
(106) الكلمات: 864
(107) عبد الفتاح أبو غدة: 243
(108) أسيد إحسان قاسم: 21
(109) الكلمات: 863
(110) الكلمات: 863
(111) أسيد إحسان قاسم: 89
(112) منير شفيق: في نظريات التغيير: 57 و58 بتصرف
(113) د. محسن عبد الحميد: 62 و63 عن ملحق أمير داغ: 2/214
(114) اللمعات: 160
(115) د. محسن عبد الحميد: 62
(116) الملاحق: 196
(117) د. محسن عبد الحميد: 65
(118) الكلمات: 896
(119) د. الوصيف: 105
(120) الملاحق: 118
(121) د. الوصيف: 277-278
(122) عبد الفتاح أبو غدة: 244
(123 و124) نفسه: 249
(125) الكلمات: 896
(126) بشير الجابري: 71