بديع الزمان النورسي

عبد الله الطنطاوي

*

بقلم: عبد الله الطنطاوي

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه، وبعد:

فهذه بضاعة مزجاة، يقدّمها عبد فقير قليل، عن عظيم من عظماء أمتنا الإسلامية في عصورها الحديثة، تتناول محوراً من محاور شخصيته العملاقة، هو عبارة عن ملامح في خطة عظيمنا: بديع الزمان النورسي - خطّته الإصلاحية، ومنهجه في التغيير لمجتمع كان مسلماً، نقياً، مجاهداً، ثم غزاه الغزاة من الخارج، واصطنعوا لهم صنائع يغزونه من الداخل، ليحطّموه، ويلغوا شخصيته، ويبدّلوا هويته، ويمسخوه مسخاً، ليغدو قزماً يتمسّح بعتبات عملاق شاكي السلاح، سلاحٍ مادّي يقتل به ويدّمر، وسلاح فكري ظهير لذلك السلاح، بل كان الممهّد له في العقول والنفوس التي تربّت على أعين حاسدة حاقدة، طالما خططت ودبّرت للإجهاز على (الرجل المريض) فكانت المؤتمرات المؤامرات،

بديع الزمان النورسي

جاز على المسؤولين، فحسبوا أصحاب الطلاء مسلمين، ولم يعوا حقيقة الأقنعة وما تخفي تحتها من سخائم وضغائن، وكيد وتآمر، وأحقاد تاريخية، وتطلعات توراتية تلمودية، واستراتيجيات وتكتيكات يرسمها دهاقنة المحافل الماسونية التي انتشرت هنا وهناك وهنالك، وتحت أسماء صريحة حيناً، خفيّة حيناً آخر.

وكان الغزو من البرّ والبحر، وكانت الخيانات سلوكاً لناسٍ غُدُرٍ، ائتمنتهم الأمة في غفلة منها ومن أولياء أمورها الحاكمين، فلم تنتبه ليهودية مطلية بطلاء زائف

بديع الزمان النورسي

فيما يلي تعريف موجز بالإمام بديع الزمان سعيد النُّورسيّ - رحمه الله رحمة واسعة - ليكون بمثابة المدخل إلى شخصيته.

المولد:

ولد سعيد النورسي في قرية (نُوْرس) الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام (1294 هـ - 1877م) من أبوين صالحين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح، ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر، كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن الماضي، وبدايات هذا القرن. وإلى قريته (نُوْرس) يُنْسَب.

علمه:

وقد بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ طفولته، ولمّا دخل (الكُتّاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته، وبداهته، وذكائه، ودقّة ملاحظته، وقدرته على الاستيعاب والحفظ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي، فقد حفظ عن ظهر غيب، ثمانين كتاباً من أمّات الكتب في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والحديث والفقه والتفسير وأصول الفقه، كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.

كما عكف على دراسة العلوم العصرية، أو العلوم الكونية الطبيعية، من رياضيات، وفلك، وكيمياء، وفيزياء، وجيولوجيا وجغرافيا وتاريخ وفلسفة حديثة وسواها من العلوم، حتى غدا عالماً فيها، ومناظراً فذّاً للمختصين بها، وصار له رصيد ضخم من المعلومات، مكّنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة.

كان طالب العلم سعيد النورسي شديد الاحتفال والاشتغال والتعلّق بالفلسفة والعلوم العقلية، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها، كأكثر أهل الطرق الصُّوفية، بل كان يجهد لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إياه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.

مع القرآن الكريم:

في عام 1894 تناهى إلى سمعه أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) وقف في مجلس العموم البريطاني، وهو يحمل المصحف الشريف بيده، ويهزّه في وجوه النواب الإنكليز، ويقول لهم بأعلى صوته:

"مادام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. لذا، لا بدّ لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به".

فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من أعماقه:

"لأبرهننّ للعالم أجمع، بأن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها."

ورأى النّورسيُّ رسولّ الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وسأله أن يدعو الله له: أن يفهّمه القرآن، ويرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم بذلك، قائلاً له:

" سيوهب لك علم القرآن، شريطة ألا تسأل أحداً شيئاً"

وأفاق النورسيُّ من نومه، وكأنما حيزت له الدنيا .. بل.. أين هو من الدنيا، وأين الدنيا منه.. أفاق وكأنما حيز له علم القرآن وفهمه، فقد آلى على نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، استجابة لشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله ما تمنَّى، وصار القرآن أستاذه ومرشده وهاديه في الدياجير التي اكتنفت تركيا الكمالية.

بديع الزمان في مهبّ الأعاصير:

نستطيع تمييز مرحلتين في حياة الإمام سعيد النورسيّ:

الأولى: مرحلة سعيد القديم، وتبدأ من مولده حتى نفيه إلى (بارلا) عام 1926 وهذه المرحلة هي مرحلة الإعداد الذاتي لنفسه، ومرحلة العمل الفردي، وخوض المعارك السياسية، مدافعاً عن الخلافة، وعن القرآن والإسلام، مهاجماً أعداء الإسلام والخلافة والقرآن.

وفي هذه المرحلة:

- وفي هذه المرحلة سافر إلى إستانبول عام 1896 ليقدم مشروعاً لإنشاء - جامعة إسلامية حديثة في شرقي الأناضول - بلاد الأكراد - وأطلق عليها اسم (مدرسة الزهراء) لتكون على منوال (الأزهر) في مصر، غير أنها تختلف عن الأزهر بتدريس العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية والعربية، وذلك من أجل النهوض بالأكراد المسلمين المهملين الذين يفتك بهم الجهل والفقر والتخلف. ولكنّ النورسي لم يلق قبولاً من السلطان عبد الحميد ومن وزير داخليته.

- وفي عام 1907 سافر مرة أخرى إلى إستانبول، للغرض ذاته، وقابل السلطان عبد الحميد، وانتقد الاستبداد ونظام الأمن واستخبارات القصر (يلدز) فأثار عليه حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية.

وكان النوسيّ في منتهى الشجاعة في التعبير عن رأيه أمام القضاة العسكريين، الأمر الذي جعل رئيس المحكمة يحيله إلى الأطباء النفسانيين، للتأكد من سلامة قواه العقلية، وكانت لجنة الأطباء المؤلفة من طبيب تركي، وآخر أرمني، وثالث رومي ومن طبيبين يهوديين (!!!) قررت وضعه في مستشفى (طوب طاش) للمجانين) (!!!).

وعندما حضر طبيب نفساني إلى المستشفى، لفحص قواه العقلية، بادره النورسيّ بحديث رائع عميق يأخذ بالألباب، فما كان من الطبيب إلا أن يكتب في تقريره:

" لو كانت هناك ذرّة واحدة من الجنون عند بديع الزمان، لما وُجد عاقل واحد على وجه الأرض."

ثم أحيل النّورسيّ إلى وزارة الداخلية، وكان الحوار التالي بينه وبين وزير الداخلية:

الوزير: إن السلطان يخصك بالسلام مع مرتب بمبلغ ألف قرش وعندما تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثلاثين ليرة كما أرسل لك ثمانين ليرة هدية سلطانية لك.

بديع الزمان: لم أكن أبداً متسول مرتب، ولن أقبله ولو كان ألف ليرة لأنني لم آت لغرض شخصي، وإنما لمصلحة البلد، فما تعرضونه عليّ ليس سوى رشوة السكوت.

الوزير: إنك بهذا تردّ الإرادة السلطانية، والإرادة السلطانية لا تردّ.

بديع الزمان: إنني أردّها، لكي يستاء السلطان ويستدعيني عند ذلك أستطع أن أقول له قولة الحق.

الوزير: إن العاقبة ستكون غير سارة.

بديع الزمان: تعددت الأسباب والموت واحد، فإن أعدم فسوف أرقد في قلب الأمة، علماً بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضعاً روحي على كفي.. اعملوا ما شئتم، فإني أعني ما أقول: إنني أريد أن أوقظ أبناء الأمة، ولا أقوم بهذا العمل إلا لأنني فرد من هذا البلد، لا لأقتطف من ورائه مرتباً، لأن خدمة رجل مثلي للدولة لا تكون إلا بإسداء النصائح، وهذه لا تتم إلا بحسن تأثيرها، وهذا لا يتم إلا بترك المصالح الشخصية فإنني معذور إذن عندما أرفض المرتب.

الوزير: إن ما ترمي إليه من نشر المعارف في بلدك هو موضع دراسة في مجلس الوزراء حالياً.

بديع الزمان: إذن فلم يتأخر نشر المعارف، ويُستعجل في أمر المرتّب؟ لماذا تؤثرون منفعتي الشخصية على المنفعة العامة؟.

- ثم ذهب إلى (سلانيك) مقرّ يهود الدونمة ومشتقاتهم من جمعية (الاتحاد والترقي) و(الماسونية) وسواهما، والتقى عدداً من شخصيات (الاتحاد والترقي) الذين كانوا يطمعون في كسب النورسيّ العبقري إلى صفهم، وكان ممن التقاهم: (عما نوئيل قره صو) رئيس المحفل الماسوني، وعضو مجلس المبعوثان (أي النواب) العثماني، وكان قره صو يطمع في النورسيّ، ولكنّ المقابلة بينهما لم تطل، لأن قره صو فرّ هارباً من اللقاء، وهو يقول:

"كاد هذا الرجل العجيب - النّورسيّ- يدخلني في الإسلام، بحديثه.".

و(قره صو) هذا هو أول صهيوني ما سوني عمل على خلع السلطان عبد الحميد وإلغاء الخلافة.

- وفي هذه المرحلة اتّهم فيمن اتّهم بحادثة 31 مارت (13/ 4/ 1909) وسيق إلى المحاكمة، ورأى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلّقين على أعواد المشانق، ظّناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه.. قال له الحاكم العسكري خورشيد باشا:

- وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين)..

فقام بديع الزمان سعيد النورسي وألقى على سمع المحكمة كلاماً رائعاً نقتطف منه ما يأتي:

"لو أن لي ألف روح لما تردّدت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام، فقد قلت: إنني طالب علم، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة، إنني لا أعترف إلاّ بملة الإسلام.. إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله؛ ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف، وتبدو من أعماق القلب، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.

إنني متهىّء بشوق لقدومي للآخرة.. وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذين عُلّقوا في المشانق. تصوّروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها، فاشتاق إليها.. إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها. إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة. إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية. لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد والآن فإنها تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا؛ فليعش الجنون، وليعش الموت، وللظالمين فلتعش جهنم..".

وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات.

- أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية، والوطنية الضيقة، كجمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة.

- انضمّ إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرّيّة، شُكّلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية، ومحاربة أعدائها. وكان قد انضمّ إلى هذه المؤسسة كثير من المفكّرين والكتّاب، وكان النورسيّ من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبّوا للدفاع عن الخلافة.

- وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقي دروسه ومحاضراته، متجوّلاً بين القبائل والعشائر الكردية، يعلّمهم أمور دينهم، ويرشدهم إلى الحق.

- وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية، ووسائل علاجها.

- وفي سنة 1912 عُيّن بديع الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول، من الأكراد خاصة.

- وفي سنة 1916 تمكّنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدَّى النورسيّ وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية، وخاضوا عدة معارك ضدّها، ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته، الأمر الذي اضطرّ أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك، فاقتادوه أسيراً، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكّن من الهرب من معسكرات الاعتقال، إثر الثورة البلشفية في روسيا.

عزة المؤمن:

وذات يوم قدم هناك إلى المحكمة الحربية بتهمة إهانة القيصر والجيش الروسي.

أما قصة ذلك فهي كما يأتي:

كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية "نيكولا نيكولافيج" يزور معسكر الأسرى فقام جميع الأسرى لأداء التحية ما عدا (سعيد النورسي). لاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه.. فلم يقم له كذلك، وفي المرة الثاثة وقف أمامه وجرت المحاورة الظريفة الآتية بينهما بواسطة مترجم للقائد:

- الظاهر أنك لم تعرفني؟

- بلى.. لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج، خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.

- إذن فلم تستهين بي؟

- كلا، إنني لم أستهن بأحد، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.

- وماذا تأمرك عقيدتك؟

- إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، والذي يحمل في قلبه إيماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له. ولو أنني قمت لك لكنتُ إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.

- إذن فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان، تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، فيجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.

تشكلت المحكمة العسكرية، وقُدّم إليها سعيد النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.

ويسود حزن في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحّين عليه القيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ أنه رفض ذلك بإصرار، قائلاً لهم:

"إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة، والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني".

وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام، وفي يوم التنفيذ تحضر ثُلّة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم سعيد النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسيّ:

- أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير.

ثمّ يقوم ويتوضأ ويصلّي ركعتين.

وهنا يأتي القائد العام ليقول له بعد فراغه من الصلاة:

- أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة منك مرة أخرى.

- في 13/8/1918 عُيّن عُضواً في (دار الحكمة الإسلامية) التي كانت تضم كبار العلماء والشعراء والشخصيات. وقرّرت الحكومة له مرتباً، ولكنه ما كان يأخذ منه إلا ما يقيم أوده، والباقي ينفقه على طباعة رسائله العلمية التي كان يوزعها مجاناً.

- وبعد أن احتلّ الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون) العاصمة إستانبول، ألّف النورسي كتابه (الخطوات الست) وحكم عليه الحاكم العسكري الإنكليزي بالإعدام على هذا الكتاب، وعلى نشاطه المعادي للقوات المحتلة، وأراد محبّوه إنقاذه، فدعوه إلى (أنقرة) فأجابهم:

"أنا أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة، وليس من وراء الخنادق. وأنا أرى أنّ مكاني هذا أخطر من الأناضول".

- دُعي إلى أنقرة سنة ،1922 واستُقبل في المحطة استقبالاً حافلاً، ولكنه لاحظ أنّ أكثر النوّاب لا يصلّون، كما أنّ مصطفى كمال يسلك سلوكاً معادياً للإسلام، فقرّر أن يطبع بياناً في 19/1/1923 تضمّن عشر مواد، وجّهه إلى النواب، واستهله بقوله:

"يا أيها المبعوثون.. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم"

وكان من أثر هذا البيان الذي أُلقي على النواب، أنّ ستين نائباً قاموا لأداء فريضة الصلاة، والتلزموا بالدّين، الأمر الذي أغضب مصطفى كمال الذي استدعى النورسي وقال له:

"لاشكّ أننا في حاجة ماسّة إلى أستاذ قدير مثلك، ولهذا دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة، ولكنّ أوّل عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة.. لقد كان أول جهودك هنا هو بثُّ الفرقة بين أهل المجلس."

فأجابه بديع الزمان، مشيراً إليه بإصبعه في حدّة:

"باشا.. باشا.. إنّ أعظم حقيقة تتجلَّى بعد الإيمان هي الصلاة، وإنّ الذي لا يصلّي خائن، وحكم الخائن مردود."

عندها فكّر مصطفى كمال بإبعاده عن العاصمة، فعيّنه واعظاً عاماً للولايات الشرقية، وبمرتّب مغرٍ، ولكن النورسيّ رفض الوظيفة والراتب.

- كتب النورسي ونشر في هذه المرحلة عدّة كتب ورسائل منها: إشارات الإعجاز - والسنوحات - والطلوعات - ولمعات - وشعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وسواها باللغة العربية.

المرحلة الثانية من حياته:

في عام 1923 غادر النورسي مدينة أنقرة إلى مدينة "وان" حيث انقطع للعبادة في إحدى الخرائب المهجورة على جبل "أرك" ولم يدرِ شيئاً عن الأعاصير التي تنتظره.

وجاء من يدعوه إلى تأييد ثورة الشيخ سعيد بيران ضد الحكومة الكمالية العلمانية المعادية للإسلام، فأبى تأييدها، ولكنّ هذا الموقف، وذلك الانقطاع للعبادة، لم ينجياه من غضب حكومة أنقرة التي أمرت بالقبض عليه، ونقله إلى استانبول، ومن ثم إلى مدينة "بوردور" ثم إلى "بارلا" في جو بارد من شتاء عام 1926 القارس، فقد كان الجو بارداً، ومياه البحيرة متجمدة وأحد جذافي القارب الذي يحمله إلى منفاه في المقدمة يكسّر الثلوج بعصاً طويلة في يده، ليفتح بذلك طريقاً للقارب الشراعي.

وفي "بارلا" بدأت المرحلة الثانية من حياة بديع الزمان، وهي المسماة مرحلة سعيد الجديد وقد كانت حافلة بالاتهامات والملاحقات والمطاردات والسجون والمعتقلات والمحاكمات والمنافي، مما لم يمرّ في حياة إنسان وهو صابر محتسب، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، شعاره في ذلك:

"أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".

وفي هذه البلدة صنع له أحد النجارين غرفة خشبية صغيرة غير مسقوفة، وضعت بين أغصان شجرة الدلب العالية حيث كان النورسي يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف، متعبداً لله، متأملاً متفكّراً، وعاكفاً على تأليف رسائل النّور طوال الليل، والناس يسمعون همهمات العالم العابد المتهجد.

أمضى النورسي في "بارلا" ثماني سنوات ونصف السنة، ألّف فيها أكثر رسائل النّور، وهو يعاني من عدّة أمراض، ولا يشتهي الطعام، بل كان يكتفي من الطعام بكُسيرات من الخبز مع قليل من الحساء "الشوربة" ولا يقبل هدية ولا تبرعاً ولا زكاةً من أحد.. كان -كما قال عن نفسه- يعيش على البركة والاقتصاد.

وفي هذه المرحلة كان يؤلّف ويكتب باللغة التركية، والحروف العربية، ويأمر تلاميذه بالكتابة بالحروف العربية، حفاظاً عليها من النسيان.

وقد أسهمت النساء بنسخ الرسائل -الكتب- التي كان يمليها بديع الزمان على تلاميذه، ثم يقوم هؤلاء بتهريبها إلى النساء، ليسهرن في استنساخها، ويقضين الليالي في ذلك، حتى إذا أنجزنها، سارت بها ركبان طلبة النور في طول البلاد التركية وعرضها.

ورسائل النور هذه تدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة.

وتصدّى بها للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكيافيلية القائمة على التزلف والنفاق والمصالح الشخصية. السياسة التي نحّت الدين جانباً، وولَّى أصحابها وجهوهم نحو أوربا، والسير في ركابها. ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف - بكل قوة- في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرّض له من نفي وسجن واعتقال.

وهذا يعني، أن شعاره في هذه المرحلة: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" لا يعني أنه تخلّى عن السياسة فعلاً، بل أراد به حماية تلاميذه من شرور الأشرار من السياسيين، ومع ذلك، لم ينجح هو ولا تلاميذه من الملاحقة والمحاكمات والسجون التي أطلق عليها النورسي وتلاميذه اسم: المدرسة اليوسفية.

وقد جاء في قرار اللجنة المدقّقة لرسائل النور في مدينة (دنيزلي):

"ليس لبديع الزمان فعالية سياسية، كما لا يوجد أيّ دليل على أنه يؤسس طريقة صوفية، أو قائم بإنشاء أي جمعية، وإن موضوعات كتبه تدور كلّها حول المسائل العلمية والإيمانية وهي تفسير القرآن الكريم."

- عندما أطلق سراحه في الخمسينيات، كان في السابعة والسبعين من العمر، وكان يقول لزائريه أو الذين يرغبون في زيارته:

"كلّ رسالة - من رسائل النور- تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف."

وكان قد طلب أكثر من مرّة من تلاميذه طلبة النور، ألا يربطوا الرسائل بشخصه الضعيف، فيحطّوا من قيمتها، لأنّ للإنسان أخطاء وعيوباً قد سترها الله عليه.

كما كان يدعو تلاميذه إلى عدم التعلّق به، لا في حياته، ولا بعد مماته، فذلك له أضرار جسيمة على الدعوة.

- وكان النورسيّ يحبّ أعالي الجبال، كما يحبّ أعالي الأشجار الباسقة الشاهقة، وكان يفضل الصلاة على الصخور المرتفعة، وكان يقول لتلاميذه:

" لو كان فيَّ قوة شبابكم هذا، لما نزلت من هذه الجبال."

لقد كان النورسيّ أمة في رجل، وربَّى تلاميذه بالقدوة، وحياته كانت أكبر كرامة.. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك -كما قال عن نفسه- وهو عصرنا، وقد هيّأ الأدوية الناجعة للجروح الإنسانية الأبدية، وقدّمها إليها خلال رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم.

وفاته:

توفّي الإمام النورسيّ في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1379 هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار 1960 م تاركاً موسوعة إيمانية ضخمة تسدّ حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة، جمعت في ثمانية مجلدات ضخام، هي : الكلمات - المكتوبات- اللمعات- الشعاعات- إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز- المثنوي العربي النوري- الملاحق- صيقل الإسلام. وقد ترجمت إلى اللغات العربية والإنكليزية، والألمانية، والأردية، والفارسية، والكردية والفرنسية، والروسية وغيرها، ودُفن في مدينة (أورفه).

وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في 27 /5/ 1960 قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسيّ إلى جهة غير معلومة.

وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسيّ نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته، فقد قالوا له:

"سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه"

وقاموا بهدم قبر بديع الزمان، وقلت في نفسي: "لا بدّ أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكنّ ما إن لمست الكفن، حتى خيّل إليَّ أنه قد توفّي بالأمس. كان الكفن سليماً، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.

وعندما كشف الطبيب الكفن عن وجهه، نظرت إليه كان هناك شبه ابتسامة على وجهه.

احتضنا ذلك الأستاذ العظيم المظلوم، ووضعناه في التابوت الآخر الكبير الذي كان الجنود قد جلبوه، وقد ملأنا الفراغ حوله بالأعشاب.

وعندما تم كل شيء، ذهبنا إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين، ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث أعلن منع التجول في المدينة.

لم تسع الطائرة الأولى التابوت الكبير فجلبوا طائرة ثانية، وضعنا التابوت فيها، وجلست بجانبه.

كان الحزن والأسى يملآن قلبي، وكانت عيوني مليئة بالدموع..

وقد اتجهت الطائرة إلى (أفيون)، ومنها نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى مدينة (إسبارطة) حيث دفن في مكان ما، لا يزال مجهولاً.

ولعل هذا كان استجابة القدر لما تمناه في وصيته لتلاميذه بعدم معرفة مكان قبره، إلا بعدد الأصابع من تلاميذه المخلصين.

ملخص حياة النورسيّ بقلمه:

وأخيراً نقدّم فقرات من الرسالة التي وجّهها النورسي إلى كل من رئيس الوزراء، ووزير العدل، ووزير الداخلية، بيّن فيها ملخّص حياته:

"إن جميع رجال الدولة يعرفونني عن كثب، ولا سيما أولئك الذين عاصروا الظروف الجسام التي مرت على البلاد، منذ إعلان الحرية (الدستور)، وأثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال غزو الحلفاء للبلاد ودخولهم إستانبول، وما أعقبته من أحداث لحين تشكل الحكومة الوطنية، وفترة إعلان الجمهورية؛ فالذين يحيطون علماً بتلك الظروف ممن يتولون الآن مناصب في الدولة يعرفونني معرفة جيدة ومع هذا فاسمحوا لي أن أعرض مشاهد من حياتي أمامكم عرضاً سريعاً.

"ولدت في قرية " نورس" التابعة لولاية "بتليس" وطوال فترة حياة التلمذة وتحصيل العلوم، دخلت في مناقشات علمية حادة مع كل من قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية. حتى بلغت إستانبول. وهناك في جوها المشوب بآفة الشهرة والصيت، لم أنقطع عن مناظراتي العلمية. إلا أن وشاية الحاسدين والخصماء أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد - رحمه الله رحمة واسعة- ثم استقطبت نظر حكومة الاتحاد والترقي، بناءً على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة 31/مارت. طرحت عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة "وان"، باسم "مدرسة الزهراء" على غرار الأزهر الشريف. حتى إنني وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكّلت من طلابي والمتطوعين "فرق الأنصار" وتوليت قيادتهم فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في "بتليس" حيث وقعت أسيراً بيدهم، إلا أن العناية الربانية أنجتني من الأسر. وأتيت إستانبول وعُينت فيها عضواً في دار الحكمة الإسلامية، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لإستانبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني الله من طاقة، إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في أنقره، فنظرتْ من جديد -تثميناً لخدماتي تلك- إلى مشروع تأسيس الجامعة في "وان".

إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد، وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، ولكن بعد هذه الفترة وليت وجهي كلية عن الدنيا وقبرت "سعيداً القديم" -حسب اصطلاحي- وأصبحت سعيداً جديداً يعيش كلّياً للآخرة فانسللت من حياة المجتمع، ونفضت يدي عن كل ما يخصهم، فاعتزلت الناس تماماً، واعتكفت في "تل يوشع" في استانبول، ومن ثم في مغارات في جبال "وان وبتليس". بت في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني. وانفردت إلى عالمي الروحي رافعاً شعار "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" صرفت كل همّي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة" سعيد الجديد"، أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى، وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معان جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم، أمليتها على من حولي من الأشخاص، تلك الرسائل، التي أطلقت عليها "رسائل النور" لقد انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما هي إلهام إلهي أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم فباركت كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل فلا تمنع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها.

وهكذا تلقفتها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسّوق الإلاهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل من يعمل في هذه السبيل امتثالاً بما يأمرني به ديني. فهذه الرسائل التي تربو على المئة والثلاثين رسالة لا تبحث بحثاً مقصوداً عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كلياً أمور الآخرة والإيمان، وعلى الرغم من كل هذا فقد أصبحت الشغل الشاغل للانتهازيين والمتصيدين في الماء العكر حتى أوقفتني السلطات في كل من "أسكي شهر" و"قسطموني" و"دينزلي"، وأجرت المحاكم تدقيقات علمية على الرسائل قام بها خبراء متخصصون، إلا أن الحقيقة - بفضل الله سبحانه - كانت تتجلَّى بنصاعتها دوماً، وتتبوأ العدالة مكانتها اللائقة بها".

* * *

عصر النورسي

لن نستطيع معرفة مدى الظلام الذي خيّم على تركيا بعدما يسمى بالانقلاب العثماني، وسقوط السلطان عبد الحميد الثاني، وسيطرة (الاتحاد والترقي). والقوميين الطورانيين الذين وصلوا بدولة الخلافة إلى حضيض التمزق، والتشرذم، والتخلف السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والفكري، والخواء الروحي إلا إذا كنا على اطلاع دقيق على حالة الفوضى التي عمّت البلاد التركية، بعد الاحتلال، وبعد التحرير، وما تبعها من مجازر قامت بها السلطة العلمانية ضدّ كلّ من تشتمّ فيه رائحة الإسلام، والتصدّي للعلمانية.. وعمليات قتل علماء الدين كانت نهجاً لحكومة مصطفى كمال، ولم ينج من العلماء إلا من هرب بدينه ودمه وأهله إلى البلدان المجاورة، أو من ناور، أو سار في ركاب العلمانيين، من ذوي النفوس الهزيلة التي لاتهمّها إلا مصالحها الشخصية، وتسعى وراء المنصب والمال.

وقد سمعنا من بعض الذين لقيناهم من المهاجرين أبناء العلماء الفارين بدينهم، ما تقشعر له الأبدان، وتدمى القلوب والنفوس.

عايش بديع الزمان النورسي أحداثاً جساماً، كان أشدّها على نفسه، ذلك الغزو الثقافي والفكري، تقوم به الدوائر الاستعمارية، وربائبها في الداخل، من خلال مؤسسات لها امتدادات خارج البلاد، في أوروبا الحلفاء المنتصرين.. وتغذّيها المحافل الماسونية، ودعاة العلمانية والقومية والماركسية.. حتى صار المسلمون في تركيا الحديثة، كالقطعان الهائمة في الليالي المطيرة. كانوا كمن فقد وزنه.. مسلوبي الإرادة مستذلين مهانين، مستكينين للظالمين الذين أوقعوا بهم.. فساد إداري محموم، وعجز اقتصادي مريع، وديون مرهقة، وتخلّف وجهل، وفقر ومرض، وانحلال وفساد خلقي منظّم، ممنهج.. وحُماتهم لصوصهم، وأجهزة الأمن أجهزة قمع وفساد وإفساد..

الحاجة إلى إمام مجدّد

ما كان الله ليذر المسلمين على ما هم عليه، وعلى ما أرادهم لهم أعداؤهم في الخارج والداخل، فقد تكفّل الله سبحانه أن يبعث لهذه الأمة من يجدّد لها أمر دينها على فترات، وفي أماكن شتّى، وكان مدد الله لهذا الشعب المسلم المظلوم، واضحاً في هذا الرجل الذي أطلق عليه بعض الدارسين اسم (رجل القدر)(1). كما أطلق عليه أساتذته وعارفوه لقب (بديع الزمان)(2) هذا الرجل العالم الرباني الذي كان يملك بين حناياه قلباً ذكياً، وعقلاً حصيفاً نقياً، ونفساً أبيّة، وروحاً عملاقة، وإيماناً شامخاً وعلوماً يحار المرء وهو ينظر إليه، كيف حواها في صباه وشبابه المبكّر، وكيف حملها في هذا الرأس العجيب المستنير بأنوار القرآن، مع أنه "قد طوى في جوانحه كل آلام تركيا وعذاباتها في تلك السنوات الحالكات.. في وطن خربت معظم مرافقه ومدنه وقراه، بعد سنوات الحرب العالمية الأولى، وسنوات من حروب الاستقلال.. وقُتل معظم شبابه..)(3).

ونسينا أن نقول: إن النورسي كان يملك سلّة فيها كل ما يملكه في دنياه: إبريق شاي، وبضعة أقداح، وقليل من السكر والشاي وقليل من الزبيب، وسجّادة الصلاة..)(4).

ولكنه كان يحمل في عينيه ولسانه وقلبه وعقله مصحفاً، هو أستاذه وشيخه ومرشده في دنياه وأخراه، ومن أراد أن يرى الإيمان والقرآن والإسلام متمثلة في رجل يمشي على قدمين، فيما تسبح روحه في ملكوت السماوات والأرض، فلينظر إلى النورسي، أو فليقرأ سيرته وكلماته، وليتأمل كل كلمة خطتها يراعة روحه، بمداد الوعي والزهد والعلم والإيمان والصبر..

هذا الرجل الذي كان آية من آيات الله في الصبر والمصابرة، والمثابرة، وفي الشجاعة والإقدام، وفي الوعي والإخلاص والحركة، وفي التفاؤل والأمل الذي لم يفارقه لحظة من لحظات حياته، برغم ما يحيط به من ظلم ّوظّلام وظلام .. الرجل الذي أخذ نفسه بالعزائم في سائر أحواله، فكان الطود الصامد في وجه الأعاصير.. الرجل الذي أدركته وشملته دعوة الرسول القائد - عليه الصلاة والسلام - "رحم الله امرءاً عرف زمانه، واستقامت طريقته". هذا الرجل ، كان المجدّد في بلاد الأناضول، كما كان حسن البنا في بلاد العرب، والمودودي في شبه القارة الهندية..

المؤثرات في تكوينه الفكري

من دراسة حياة الإمام النورسي، نستطيع أن نتبين نوعين من المؤثرات التي كوّنت شخصيته الفكرية:

1 - المؤثرات الاجتماعية: وتشمل:

أ - أسرته الصغيرة المكوّنة من أب تقي ورع، بلغ به ورعه شأواً صار فيه مضرب الأمثال، فالوالد الصوفي (ميرزا) لم يذق حراماً قط، ولم يطعم أولاده من غير الحلال، حتى إنه كان إذا رجع ببقراته من المرعى، شدّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين(5).

وكانت أمّه الصالحة التقيّة (نورية) لا ترضع أطفالها إلا وهي على طهر ووضوء(6). وقد قال النورسي عنها يوماً:

"أقسم بالله، إن أرسخ درس أخذته، وكأنه يتجدّد عليّ، إنما هو تلقينات أمي -رحمها الله- ودروسها المعنوية، حتى استقرتْ في أعماق فطرتي، وأصبحتْ كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين، رغم أني قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص. بل أرى يقيناً أن سائر الدروس إنما تُبنى على تلك البذور"(7).

وكذلك أخوه الكبير الملا عبد الله الذي عُرف بعلمه ودينه وتقواه .

ب - قريته الصغيرة المحافظة، والقرى والبلدات القريبة منها، وكتاتيبها ومشايخها، وأهلها البسطاء الطيبون المحافظون على دينهم، وقيمهم المتمثلة بعادات وتقاليد منسجمة مع الدين الحنيف: بساطة وصدق، وعفوية، وكرم وشهامة ونبل، برغم ضيق ذات اليد، وبرغم الجهل والفقر والبؤس والتعاسة.

2 - المؤثرات الثقافية:

أ - يعدّ النورسي الشيخ عبد القادر الكيلاني -رحمه الله- أستاذه الأول في كتابه: (فتوح الغيب). يقول النورسي عنه:

"وبدأت أقرأ ذلك الكتاب، كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة، وقد حطم غروري، وأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. استفدت منه فوائد جليلة وأمضيت معه ساعات طويلة، أصغي إلى أوامره الطيبة، ومناجاته الرقيقة"(8).

ب - الشيخ العالم الرباني أحمد الفاروقي السرهندي- مجدّد الألف الثاني - في كتابه: (مكتوبات) الذي "ورد في رسالتين منه لفظة (ميرزا بديع الزمان) فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان اسم أبي (ميرزا).. والإمام الرباني يوصي -مؤكداً- في هاتين الرسالتين، وفي رسائل أخرى أنْ: (وحّد القبلة) أي اتبع إماماً ومرشداً واحداً، ولا تنشغل بغيره"(9).

جـ - علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة ولغة وسواها، تلك التي تلقاها على أيدي علماء قريته والقرى والمدن الأخرى، وقد حفظ - في شبابه المبكر- الكثير من متون أماتها بل من أمات الكتب الكبيرة، حتى القاموس المحيط -للفيروز أبادي- حفظ منه حتى حرف السين(10).

د - العلوم الإسلامية، من: حديث شريف، وفقه، وأصول فقه، وتفسير، وعلم كلام وسيرة وأخلاق، وسواها من العلوم التي تدور في فلكها(11).

هـ - العلوم الكونية الطبيعية من: فلك، وفيزياء وكيمياء، وعلم طبقات الأرض، وجغرافيا ، وفلسفة حديثة، وتاريخ، ورياضيات، وسواها(12).

و - الغرب، وفكره المادي، وفلسفته القديمة أيام اليونان القدماء أو الإغريق، وفلسفاته الحديثة وكلها مادية المنطلقات والغايات. درسها، واستوعبها، واتخذ منها الموقف المناسب.

ز - أسفاره: فقد كان يتنقل في المدن والقرى، ويلتقي العلماء والوجهاء وعامة الناس، ورجال الحكم والإدارة، كرحلته إلى الأستانة (استنبول) والتقائه السلطان عبد الحميد الثاني، والسلطان رشاد والوزراء ومصطفى كمال، وكرحلته إلى طرابلس الغرب وبنغازي، حيث اتصل بالشيخ السنوسي، واطلع على تنظيمات الحركة السنوسية وزواياها، وتأثر بها، الأمر الذي جعله -بعد أن عاد إلى مدينة وان- يعمد إلى تشكيل فرق جهادية من طلابه وبعض المتطوعين، وقاتل بهم الجيش الروسي الذي اجتاح مدينة تبليس، فأُسر إثر جرح بليغ أصابه(13).

وكرحلته إلى بلاد الشام، والتقائه علماءها، وإلقائه خطبته الشامية البليغة في المسجد الأموي عام 1911م وفيها شخّص أمراض الأمة الإسلامية، وعلاجاتها(14).

ح - ولكنّ المؤثر الأكبر في تكوينه الفكري والروحي والنفسي، إنما هو القرآن العظيم، فهو الأستاذ، وهو المرشد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وفيه يكون توحيد القبلة، لا في سواه.. يقول الأستاذ النورسي:

"إن بداية هذه الطرق جميعها، ومنبع هذه الجداول كلّها، وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو القرآن الكريم، فتوحيد القبلة الحقيقي لا يكون إلا في القرآن الكريم.. فالقرآن أسمى مرشد، وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن، واعتصمت به واستمددت منه (فالكلمات) والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) ليست مسائل علمية فحسب، بل هي مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية، فهي بمثابة علوم إلهية نفسية، ومصارف ربانية سامية"(15).

هذه هي المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي عملت على تكوينه الفكري، فجعلت منه عالم عصره، وأهّلته لاقتحام ميادين الحياة الفكرية والعقدية والسياسية.

ولا نستطيع إغفال جهده الشخصي في هذا التكوين البديع، الذي جعله ينال الإجازة العلمية من الشيخ محمد جلالي وهو ابن أربع عشرة سنة، بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية، وحفظ ثمانين كتاباً من أمّات العلوم العربية والإسلامية.. هذا التكوين هو الذي أهّله لخوض سائر جوانب الحياة الفكرية والعقدية، وتبيين رأي الشرع في العديد من المسائل الدقيقة، كالقضاء والقدر، وحكمة خلق الإنسان، والعالم، والروح، ودمار العالم ومسائل المسيح الدجال، ونزول سيدنا عيسى عليه السلام، وظهور المهدي، وشخصية الخضر، ومسائل أخرى حول الملائكة، والجن، وأشراط الساعة، وثواب الأعمال، وغيرها كثير من المسائل الغيبية، تقرؤها في مجموعة (الطلاسم)(16) وسواها من كتاباته التي تؤكد أنه عالم لا يشق له غبار، بل بحر من العلم لا ساحل له.

يتبع إن شاء الله ...

     

الهوامش:

* نص المحاضرة في المركز الثقافي بعمان في 12/06/1997

(1) أورخان محمد علي -سعيد النورسي- رجل القدر في حياة أمة: عنوان الكتاب.

(2) ترجمة حياة سعيد النورسي: 36

(3) أورخان محمد علي: 6

(4) نفسه: 5 - 6

(5) إحسان قاسم الصالحي -بديع الزمان سعيد النورسي: 19

(6) نفسه: 19

(7) سعيد النورسي - اللمعات: 308 - 309

(8) و (9) سعيد النورسي - المكتوبات: 459

(10) و (11) و (12) د. محسن عبد الحميد - النورسي الرائد الإسلامي الكبير: 13

(13) ترجمة حياة: 102

(14) الصالحي: 36

(15) المكتوبات: 459

(16) الصالحي: 191