تأملات تربوية – سورة مريم (2)
تأملات تربوية – سورة مريم (2)
د. عثمان قدري مكانسي
الناظر في هذه السورة الكريمة يجدها تتحدث في التربية الأسرية . وعلاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض :
فالمقطع الأول بتحدث عن سيدنا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ... وهمّ الدعوة ، وحمل الأمانة ، وبر الولد بأبويه .
والمقطع الثاني يتحدث عن العلاقة الحميمة بين الأم وولدها ، الأم الطاهرة النقية مريم العذراء التي وهبت نفسها لدين الله ودعوته ، والولد الصالح عيسى عليه السلام الذي دافع عن طهر أمه وشرفها ، وحمل الدعوة إلى الله عز وجل .
والمقطع الثالث يتحدث عن الصدّيق إبراهيم عليه السلام الذي هداه الله إليه ، وعلاقته بوالده حين دعا الولد أباه بأدب جم إلى عبادة الله الواحد ، ثم اعتزله وقومه إذ أصروا على الكفر ، وتحمل المشاق في سبيل الدعوةإلى ربه ، فأكرمه الله تعالى بالذرية الصالحة التي رباها فأحسن تربيتها . فكان بذلك قدوة للعالمين جميعاً .
والمقطع الرابع يتحدث عن النبي العظيم موسى صاحب العزم القوي في الدعوة إلى الله ،إذ أكرمه ربه فجعله مُخْلَصاً ورسولاً كريماً ، ومنّ عليه في أخيه هارون فوهبه أعلى درجات الإنسان في الوصول إلى ربه " النبوة " . فكان موسى لهارون أكرم منّةٍ لأخ على أخيه مرّ الدهور وكرّ العصور .
والمقطع الخامس يتحدث عن دور رب الأسرة في تربية أهله – زوجةً وأولاداً ومواليَ – فهذا إسماعيل عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، وكان عند ربه مرضياً بسبب تربيته إياهم . فكان قدوة لمن بعده في الاعتناء بالأسرة ووصلها بالله .. فمن كان بحبل الله موصولاً سعد وأُكرم ، وحاز القبول .
وقد كنا الأسبوع الماضي نتأمل في رياض المقطع الأول ، في رحاب النبيين الكريمين الأب زكريا وابنه يحيى .. فهلمّ إلى الروضة الغناء في رحاب العذراء البتول وابنها السيد الكريم عيسى عليهما السلام .
1- تقييد العلم : العلم في الصدور ، وتقييده في السطور ، وكلمة " اذكر في الكتاب " ترددت خمس مرات في هذه السورة الكريمة :
" واذكر في الكتاب مريم "
" واذكر في الكتاب إبراهيم "
" واذكر في الكتاب موسى "
" واذكر في الكتاب إسماعيل "
" واذكر في الكتاب إدريس "
والفائدة التربوية الأولى من كلمة " اذكر " العلم : فالعلم بالشيء ومعرفته أمر لا بد منه لأهل الدعوة ( ففاقد الشيء لا يعطيه ) .
والفائدة الثانية الكتابة : إن تقييد العلم في كتاب يحفظه من الضياع ، ويثبته في الذاكرة بين الحين والحين .
والفائدة الثالثة التعليم : وهذه رسالة الأنبياء والدعاة والمعلمين ، لا ينبغي التفريط فيها ، " فمن كتم علماً لجمه الله بلجام من نار" .
2-شفافية التبتل إلى الله : من كان مع الله كان الله معه ، ومن أخلص في عبادته اجتباه الله وأدناه . فقد انقطعت مريم عن اقرب الناس إليها وعن الدنيا، واجتهدت في التقرب إلى مولاها ، فاستقلت عنهم بأدب جم دون أن تسيء إليهم " فانتبذت " منهم ولم يقل : " نبذتهم " ففي الأولى ابتعاد وانقطاع مع احترام وتوقير ، وفي الثانية احتقار واستعلاء . فالانتباذ بالنفس ، والنبذ للآخرين !... أرأيتم جمال التعبير ؟! ...إلى أين ؟ " مكاناً شرقياً " ...إلى مصدر النور عند إشراق الشمس . ومن كان قصده خالق النور والضياء احتجب عن الناس " فاتخذت من دونهم حجاباً" .
3
-الجزاء من جنس العمل : حين انقطعت إلى الله تعالى ورغبت فيما عنده ورجت رضاه لم يخيب أملها ... وصلها حين وصلته . وقبلها حين قصدته . " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها . وإن سألني أعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه " . لقد أرسل إليها كبير الملائكة " جبريل " عليه السلام . ليكرمها بسيد من سادات البشر .4- المنطقية في التعامل : لجبريل عليه السلام ست مئة جناح ، كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام . وكان يملأ السماء حين رآه النبي عليه الصلاة والسلام مرتين على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها . فلو أنه دخل على مريم بهذه الهيئة لسقطت ميتة أو مغمىً عليها . فلم يكن تباسط ، ولا حديث ، ولما عرفت سبب دخوله عليها ولا ماهيته . إذاً دخل عليها على هيئة رجل " فتمثل لها بشراً سويّاً " لتفهم منه ، فيخاطبها وتخاطبه .. وقد نبه المولى سبحانه وتعالى إلى المثليّة فقال رادّاً على الذين رغبوا أن يكون الرسول ملكاً حتى يؤمنوا به : " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشراً رسولاً ؟! قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملَكاً رسولاً".
5- الحوار : هو أسلوب راق في التربية ، له فوائد كثيرة . منها :
1- أنك تسمع حديثاً فيه آراء وحجج يدلي بها المتحاورون ، ليبرهن كل منهم
على صواب ما يرتئيه .
2- ان الحوار يثري السامع والقارئ والرائي بأفكار تطرح أمامهم ، بالحجة والبرهان ، فيعتادون التفكير السليم والأسلوب القويم .
3- أن الحوار أثبت في النفس لأن السامع يُعمل أكثر من حاسّة في تفهّم أ بعاد الحوار ومراميه
وعلى هذا تعال معي إلى متابعة الحوار بين الملَك ومريم :
" قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنتَ تقيّاً "
" قال : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً "
" قالت : أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ، ولم أكُ بغيّاً "
" قال : كذلك قال ربك : هو عليّ هين ، ولنجعله آية للناس ورحمةً منّا ،
وكان أمراً مَقضيّاً".
وفي هذا الحوار فوائد جمة ، نذكر منها :
1- اللجوء إلى الله تعالى في الملمات ، فهو حصن حصين وركن ركين .
2- الرجل التقي لا يقتحم مخادع النساء ، وينأى بنفسه عن الشبهات .
3
- لا بد من تعليل يبعد هذه الشبهات ، ولو كان المشبوه به تقيّاً فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجلين رأياه مع صفية ليلاً : هذه أمكم صفية . كي لا يبوءا بالكفر حين يظنان السوء بنبيهم ... فقال الملَك : لأهب لك غلاماً زكيّاً .4- المرأة المسلمة الشريفة لا تزني ، ولا يكون الحمل إلا بالزواج أو الزنا.
5- إذا أراد الله شيئاً قال له : كن فيكون . ومريم تعلم أن الله تعالى قادر على كل شيء لكنها أبدت تعجبها أن يختارها الله لهذا الشرف العظيم
6- توخي الحذر والستر : يعلمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التستر . فيقول : إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا " ونعى القرآن تساهل اليهود في السكوت عن المنكر " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " ووبخ لوط عليه السلام قومه الذين استحلوا اللواط وجهروا به " إنكم لتأتون الفاحشة ،ما سبقكم بها من أحد من العالمين ، أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ، وتأتون في ناديكم المنكر .." اما الطاهرة العفيفة مريم فقد استترت في مكان قصي وهي لم تفعل المنكر ، فكانت مثالاً للشرف المصون والفتاة التقية .حتى إنها تألمت ألماً شديداً ، وتمنت أنها لم تخلق ، ولم يعرفها أحد . بل لو كانت شيئا لا قيمة له .
7- الدعم والتأييد : إذا كلفت أحدهم بمهمة فلتكن قدر استطاعته " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وإذا لم يستطع القيام بها لكونها فوق طاقته أو كانت ثقيلة فأعنه عليها ، وسهّلْ له سبلها وهذا ما وجدناه في قصة مريم فقد :
- سمعت من يكلمها في وحدتها ويشد من أزرها .
- جرى إلى جانبها جدول ماء عذب شربت منه .
- هزت جذع النخلة فتساقط عليها رطب لذيذة سهلت الطلق والولادة .
- الامتناع عن إجابة المتطفلين ..فهي صائمة عن الكلام . ومن الذي سيتكفل بالإجابة ؟ إنه ولدها الذي يدافع عنها بإذن الله .وسينطقه الله بما يبرئ أمه ويرفع قدرها بين الناس .
وعلى هذا استمدّت قوة وشجاعة ، وعادت إلى قومها تحمل وليدها . وكان ما كان من أمر الناس ، وحق لهم أن يسألوها ، فهي ابنة سيدهم المعروف بدينه وخلقه وأمها مثال الصون والعفاف ، كما أنهم يعرفونها شديدة التدين مشهورة بالعفة والطهارة .
8- الرد المفحم : قد يكون الإنسان صاحب حق ، إلا أنه عيي أو أحمق أو غبي ساذج لا يعرف كيف يستخرج حقه أو يحتفظ به أو يدافع عنه ، فيضيع منه كلّه أو جلّه ، وقد يكون أحدهم مبطلاً لكن لسانه طليق وحجته حاضرة وأساليبه ذكية ، فيسلب حق غيره ويحتال على الضعفاء فيغمطهم نصيبهم . لكن الله تعالى لقّن الوليد حجته ، فكان قوله الفصل وبيانه الفصل
أولاً :عرّف بنفسه . فهو عبد الله . ومن أعلن عبوديته لله فقد عرف ربه وهذه أسمى المراتب
ثانياً : ومن كان عبداً لله تعالى فتح عليه ينابيع العلم وكنوز المعرفة ، وآفاق الحكمة .
ثالثاً : ثم خصه الله بمرتبة النبوة الكريمة ، وهذه قمة الإنعام والفضل .
رابعاً : افاض عليه الخيرات والبركات ، فكان مع الله قلباً وقالباً في حله وترحاله ، ونومه ويقظته ،
خامساً: وأوصاه أن لا يفتر عن ذكر الله وأن يكثر من الصلاة – وهي الصلة بالله – والزكاة – الإحسان إلى عباد الله – وكأنه سبحانه يقول : عبدي أحسنت إليك فأحسن إلى عبادي ، وأحب عباد الله إليه أنفعهم لعياله .
سادساً : والأقربون أولى بالمعروف . وفضل الأم لا يدانى . وقد قرن الله تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين . ثم يكتمل الإحسان بتعميمه على الناس أجمعين .
سابعاً : ويتوج ذلك كله بسلام الله عليه في حياته وفي موته ، وحين يبعث يوم القيامة .
ومن الطريف أن المفسرين يوردون حواراً بين ابني الخالتين ، عيسى ويحيى .
فيقول عيسى : أنت خير مني يا يحيى .
فيقول يحيى : بل أنت خير مني ، أنت من الخمسة أولي العزم .
فيقول عيسى : بل أنت خير مني ، فقد سلمت على نفسي ، فقلت : والسلام عليّ وأنت سلم الله عليك فقال : وسلام عليه .... صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين .