يومٌ.. في جوار الحبيب

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

سكونٌ وركونٌ وتسارعُ نبض.. ما ان يطلّ عليك نخيل المدينة حتى تشعر بقشعريرة تسري في حنايا روحك.. وتتخيّل الحبيب عليه الصلاة والسلام وقد دخلها إبان الهجرة فتعالت الأصوات تترنّم بمكنون القلوب: طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع.. وجب الشكر علينا ما دعا لله داع! وتتفجّر المآقي بما يليق في حضرة الذكرى ويحنّ القلب إلى الارتواء من يده الشريفة شربة هنيئة لا ظمأ بعدها ولا نصب!

وتدخل المدينة المنوّرة - طَيْبَةَ الطيِّبَة - لتعيش بين جنباتها حوادث ومحطات.. وتتراءى لك صوراً واقعيّة لِما قرأت أو سمعت.. وتعيش مع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وتتخيّل! هنا في أكناف المسجد النبوي مرّ عمر الفاروق ليترك آثاره العميقة في وجدان الأمّة.. وهنا بكى أبا بكر وناصر حبيبه محمد صلوات ربي وسلامه عليه.. وهنا عاشت أمهاتنا في غرفٍ بسيطة أنارت أخبارها الدنيا من قبل ومن بعد.. وهنا مركز الدعوة.. وهنا قامت أول دولة إسلامية قوية وأُسِّس أول مسجد على التقوى.. وهنا تآخى المهاجرون والأنصار.. وهنا كانت التربية الإيمانية والنفسية والجهادية والاجتماعية على يد أفضل معلّم صلى الله عليه وسلم.. وهنا قباء والقِبلتين والغمامة! ومن هنا انطلقت الغزوات والسرايا.. فكانت بدرٌ وأُحُدٌ والأحزاب والخندق وفتح مكة! ومن هنا انجلى اليهود خاسئين مدحورين!

سلسلة من الأحداث تتزاحم في دقائق تعيش فيها مع ماضٍ جميلٍ ملؤه العزّ والفخار والكبرياء!

وكيف لا ترقص القلوب لزيارة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحبها وقال فيها: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها".. ويلهج اللسان بترداد دعاء الحبيب "اللهمّ حبِّب إلينا المدينة حبّنا مكّة أو أشد". وإنّا والله لنحبها!

وتدخل المسجد النبويّ وتسلِّم على الحبيب عليه الصلاة والسلام وهو على بعد خطوات قليلة منك "اللهم صلِّ على سيِّدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. اللهم شفِّعه فينا وأورِدنا حوضه ولا تفتنّا بعده واجمعنا به في الفردوس الأعلى".. أدعية وصلاة لطالما ردّدناها في بلادنا ولكن هنا لها طعمٌ مختلف كاختلاف طعم فاكهة الدنيا عن فاكهة الجنّة ولمّا نأكلها بعد إلاّ أننا نعي الفرق بينها! إحساسٌ رائعٌ أن تشعر بقربك ممّن تحب وتقتدي.. وهو يردّ عليك السلام ويُكرمك ربك جلّ وعلا بأكثر من ذاك فيلهمك الدعاء والدموع والحنين..

صحبةٌ صالحةٌ تعينك على الطاعة.. وذكرٌ يجلو صدأ النفوس.. وقرآنٌ يُتلى فترتقي الأرواح في مدارج السالكين.. وصلاةٌ وتسبيحٌ تشعر معها كلها وكأنما حيزت لك الدنيا بحذافيرها!

ثم تنطلق إلى قباء فتصلي ركعتين تطبيقاً لسُنّة الحبيب عليه الصلاة والسلام حيث قال: "من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلّى فيه صلاة كان له كأجر عمرة".. أوليس الله بأكرم الأكرمين؟! سبحانه..

ثمّ تمرّ على مسجد القِبلتَين.. وقد كان الحبيب عليه الصلاة والسلام ينتظر أمر الله جل وعلا بتحويل القِبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرّمة.. يقول الله تعالى: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا" ثم ينزل الأمر الإلهي ويأمر الحبيب عليه الصلاة والسلام بالتوجّه نحو الكعبة "فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ".. ويُروى أنّ الصحابة صلّوا في هذا المسجد ركعتين باتّجاه بيت المقدس ثم أتاهم الخبر أن القِبلة قد تحوّلت فحوَّلوا القِبلة وهم في الصلاة ليُصلّوا الركعتين الباقيتين من صلاة العصر باتّجاه الكعبة فسُمِّيَ المسجد بذي القِبلتين.. لم يتردّدوا لحظة في تنفيذ أمر الله جل وعلا ولم يتأخرّوا في تطبيق ما أُنزِل! عرفوا الله فأطاعوه وباعوه الأرواح فاشترى.. وليس كسلعة الله جل وعلا مثيلا!

ثم تصِل إلى أُحُد.. الجبل الذي يحبّنا ونحبّه! عليه وقف الحبيب عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر وعمر وعثمان فرجف بهم.. فقال له الحبيب "اثبت أُحُد.. فإنّما عليك نبيّ وصدِّيق وشهيدان".. تعشق أُحُداً وهو جمادٌ لا ينطق! إلا أنّ حجارته قد تكون حيّة أكثر من قلوبنا إذ ارتجفت لمجرد وقوف الحبيب عليها من محبتها له فمتى يمتثل القلب ويُذعِن لتعاليم الحبيب ويتّبع سنّته؟! اللهمّ أعِن واغفر وتكرّم!

وتدور أمامك غزوة أُحُد بتفاصيلها ودقائقها.. تلك المعركة التي فرّقت منذ بدايتها بين المؤمنين والمنافقين الذين ولّوا مع سيدهم ابن سلول.. وتلك المعركة التي كُتِب للمسلمين فيها النصر حتى إذا ما خالف الرماة أمر الرسول صلوات ربي وسلامه عليه ونزلوا عن الجبل ليشاركوا بالغنائم التفّ عليهم الكفار فكانت لهم الغلبة.. فويحي كم خالفنا من أمورٍ وتعاليم ثم لا زال ربّنا جلّ وعلا يمدّنا ويُكرمنا برحمته وفضله!

على هذه الأرض كان الحبيب عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً يقف ليُدير المعركة.. هنا كسر المشركون أنفه الشريف ورُباعيّته وشَجُّوا وجهه الكريم فتفجّرت منه الدماء.. هنا وقى طلحة بيده عن الحبيب فشُلّت و"أوجب طلحة".. وهنا ذبّت نسيبة بنت كعب عن الحبيب فأصيبت بجراح كثيرة غير آبهة بما أصابها فسلوتها أن لا يُضام الحبيب!.. وهنا انحنى أبو دجانة عليه صلى الله عليه وسلم فوقعت النبل على ظهره فحمى منها حبيبه.. وهنا تترّس أبو طلحة الأنصاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجفة منادياً: "نحري دون نحرك يا رسول الله".. وكذا كان حال كل الصحابة الذين التفوا حول الرسول لحمايته.. فيا الله ما أعمق معاني الحب والتضحية التي سطّرها هؤلاء في محبة الحبيب عليه الصلاة والسلام بينما قد لا يعدو حبّنا له مجرد كلمات نردِّدها من دون فِعل أو اتّباع!!

ثم تمرّ على قبر سيد الشهداء حمزة ومَن معه وراء السور.. وتدعو: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".. وتذكُرُ فضلَ حمزة وشجاعته وإقدامه وحزنَ الحبيب عليه الصلاة والسلام العميق عليه بعد استشهاده وشهقته حين رأى تمثيل الكفار به.. وتتمنّى لو كنت شعرة في صدر حمزة بعد أن تشعر بحقارة عملك أمام هؤلاء الأبطال!

ويلفتك في طيّات هذه الذكرى حرصَ الكفار والمشركين على القضاء على الإسلام ومجيئهم في الحرّ الشديد للقضاء عليهم.. فلا باصات مكيّفة ولا ماء وفير أو زاد كثير بل إنّ أحدهم قد يمشي بدون راحلة على رجليه ويقطع بضع مئات من الكيلومترات ليبلغ هدفه الخسيس.. فكيف بنا أهل الإيمان لا يحرّكنا إيماننا ويقيننا بالله جل وعلا لنعمل على القضاء على أهل الكفر نصرة لديننا وشرعنا؟ وما الذي يُقعِدنا عن العمل لإعادة الخلافة المجيدة لجمع الأُمّة بعد شتات ولإعادة عزّنا بعد موات؟ وما الذي يملكه هؤلاء على كفرهم ولا نملكه نحن؟ أهي الهمّة العالية؟ أم الإيمان بالهدف؟ أم ماذا؟ أتراه الركون إلى الدنيا ونسيان الآخرة الذي جعلنا في دركٍ أسفل؟!

حريٌّ بنا أن نعود إلى الأصول.. ونتدارس الأسباب والعوامل التي جعلت من المدينة قاعدة قوية للدولة الإسلامية.. ونحاول تطبيقها مبتدئين بتغيير أنفسنا أولاً.. فلا يغيِّر الله جل وعلا ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ولذلك فلنبدأ من الذات ولنهجُر العلائق ولنترُك الذنوب والمعاصي.. ولنعُد إلى الله جل وعلا مخلصين له الدِّين ونلزم القرآن الكريم والسنّة المطهّرة.. ولندعُ الله تعالى أن يهدينا السبيل ويعرِّفنا عليه فمن عرف لزم وأحبّ وأطاع.. ثم لندعُ إلى الوحدة ونبذ الخلافات والتفرّق.. ولنسعَ إلى الإلتفاف حول بعضنا البعض راغبين بتطبيق شرع الله جل وعلا في كل أمورنا نافضين عن أنفسنا حب الدنيا والرضا بالضعف والذل والهوان.. ولنحيي من جديد مبدأ الولاء والبراء لتكون لنا العزّة.. ولنحرص على تبليغ الدعوة بالحسنى ولنكن صورة مشرقة للمسلم يرغب من يراها في الدخول بالإسلام لا الإعراض عنه..

وعودةٌ إلى الحرم النبوي الشريف.. ووقفةُ إجلال أمام القبّة الخضراء واستشعارٌ لصاحب المقام الرفيع من جديد.. ودعوة أن يغفر لنا ربنا تقصيرنا في حمل الأمانة ورجاءٌ أن لا نكون ممّن يقال فيهم عند الحوض حين يريد النبي لهم الشفاعة: دعهم.. "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"..

وصلاةٌ خفيفةٌ في الروضة الشريفة.. وددتُ لو تطول لولا تدافع الزائرات لهذه البقعة الطاهرة.. وتخيّلٌ للحبيب صلى الله عليه وسلم بين بيته ومنبره والصحابة من حوله.. وأملٌ أن يجمعنا في الفردوس الأعلى..

وحلمٌ.. أن تكون المنيّة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.. فقد قال الحبيب: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشهد لمن مات بها".. وقد كان دعاء الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم".. وقد كان.. صدق الله جل وعلا فصدقه!

ويؤذّن مؤذِّنٌ أن يا أيها الجمع قد حان وقت الفراق.. فتلملمُ روحك المتناثرة فوق القبَّةِ وجنبات الحرم.. وتحضن ذكرياتك وتجمع شتات نفسك وتلهج بالدعاء الأخير: اللهمّ لا تجعل هذا آخر عهدي بمكة والمدينة.. وتقبّل مني الصلاة والقيام والدعاء.. وتكرّم عليّ فتكون هذه العمرة نقطة تحوّل وتغيير في نفسي لأكون كما تحب وترضى.. حتى تتوفّاني وأنتَ عنّي راض! في المدينة.. فمَن يدري؟!