الاغتراب الروحي لدى المسلم المعاصر
الاغتراب الروحي
لدى المسلم المعاصر
بقلم: أديب إبراهم الدباغ
(1)
لا أود أن اخدش حس التفاؤل والأمل في نفوسكم الكريمة، بحديثي عن غربة المسلم واغترابه الروحي في هذا العصر العصي الذي يبدو وكأنه مدسوس على الدنيا في حين غرة من أهلها. ليهدم بمعاوله كل منارات الهدى، ويطمس على كل ما يمكن للجنس البشري أن يسترشد به من معالم الحق والعدل والخير، فالتفاؤل والأمل هو ينبوع قوة المسلمين وسرّ استعصائهم على ضربات الزمن الوجيعة، وهو النور المسكوب من وجدان الغيب ليشرق بسنائه فوق ليالي اليأس والحزن والألم. لذا أبادر فأقول: إن اغتراب المسلم وغربته ليسا دليل ضعف دائما، وليسا دليل رغبة بالانكفاء والانفصام عن عالمه المحيط به، بل هما – في كثير من الأحيان – علامة على الصحة والقوة، وآية على الائتلاف الحميم بينه وبين إيمانه وعقيدته. فكلما زادت غربة المسلم، وعمق اغترابه، كان ذلك إشارة إلى حياة إيمانية سليمة، إن كانت اليوم مستعصية على الفهم بعض الشيء، إلا أنها توشك غدا أن تصبح الروح الذي يحيي موات الإنسان، ويوقظ قلبه وينير عقله.
والغربة في روح المسلم وعقله، إنما هي نتاج مصارعته للتمزق والانشطار بين الوجوب والنفي، بين وجوده الإيماني وعدمية هذا الوجود، بين سلبيات الدنيا ولاشيئيتها وإيجابيات الآخرة ويقين حقيقتها، وهي ثمرة ذلك القلق الممض بين أن يكون أو ألا يكون، وهو قلق يخصب الفكر، ويغني الوجود، ويفتح منافذ الخيال والوجدان على حقيقة الإنسان وهو قمين بنفوس المتميزين من رجال العقيدة والإيمان.
(2)
وتظل هذه الغربة هاجس المسلم الدائم، وقدره وقضاءه. يلازمه ولا ينفك عنه مادام حيا يتنفس أنفاس الحياة فوق أديم هذه الأرض... صحيح إنه يسكن الأرض ويدرج فوقها، إلا أنها ليست المحط الذي يمكن أن يحط عليها رحاله، ولا المكان الذي تنتهي إليه آماله، ولا الوطن الذي يملأ عليه خياله أو يحتوي عظمة روحه... هذا الروح الذي لا تزن الأرض كلها إلى جانبه اكبر من ذرة هباء غبية، تعجز عن فهم أشواقه، وتضيق عن استيعاب ما يضطرم به فؤاده من توق وحنين إلى العالم الأخروي... عالم المعرفة المطلق الذي تحيا فيه الحقائق خالصة من غير لبس ولا وهم...
إنه يمكن أن يملك الأرض، وان يعمرها، ويحكمها بالعدل، ويقيم فوقها شرع الله... غير أنها تبقى ملك يمينه يأخذها إلى الأقوم والأحسن والأفضل، بينما يظل قلبه مغلقا دونها، فلا يخلد إليها، ولا يطمئن لها، بل يحس بالوحشة والخوف منها، لأنها وطن الموت والفناء والعدم، ففي كيانه وفي كل ذرة من دمه نزوع إلى عالم هو الوجود كلها، ووطن هو الخلود كله وأرض هي الحياة كلها، لا يتهددها موت ولا يكتنفها زوال أو عدم... إنه ذلك العالم القدسي الذي أُبعدَ عنه أبوه آدم عليه السلام بسبب عصيانه المعروف... فالعصيان شر والشر موات وعدم، ومحال أن تستنبت بذرة الموت والعدم فوق أرض الحياة والوجود، لذا نزل بالأرض أم الموت والعدم، لأن شبيه الشيء منجذب إليه، فصارت الأرض دار غربته، ووطن وحشته، لا يسكن إليها ولا يطمئن بها، وقد أورث أبناءه من خاصية ذاته، مرارة الغربة، ولوعة الحنين إلى الموطن الأول، فذاكرة الإنسان الباطنة، وحافظة وجدانه تخفي في تلافيفها جذور ذلك الاغتراب الآدمي، وأصول ذلك النـزوع إلى عالم الأب الأول.
ومما يثير الدهشة أن يغدو حرص آدم عليه السلام وزوجه على البقاء الدائم والخلود الأبدي – وهما في دار الخلود والبقاء – المنفذ الذي نفذ منه الشيطان إليهما بوسوسته: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ( الأعراف:20) مما يدل على أن الآدمية مفطورة على هذا التوق، وأن في أصل خلقة كل آدمي نزوعا عارما إلى البقاء والخلود، ففعلت وسوسته معهما فعلها، ودفعت بهما إلى اقتراف المعصية بأكلهما منها ففقدا بذلك سر الخلود، وسلبا إكسير الحياة، الذي قال الله تعالى فيه (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ( العنكبوت:29).
(3)
إن ما يعتلج في نفوسنا من توق إلى الخلود والبقاء، ونفور من الموت والعدم دليل على وجود البقاء والخلود خارج عالمنا – اكبر من كل دليل وأعظمه – لان الإنسان – كما هو معلوم – لا يشتاق إلى عدم لا وجود له، ولا يرتبط معه بسبب من الأسباب، فنحن نحسه في تجليه على أرواحنا بأنواره وأندائه في لحظات صفاء الروح وفي أوقات استضاءة القلب بنور الله لذا فسيظل القلق الحاد يعتور "النفس الإنسانية" ويؤرق وجودها بسبب ذلك الإحساس المبهم بالوحشة، والشعور الغامض بالاغتراب في هذا العالم، وهو حس عميق الغور في النفوس، لا يسهل الخلاص منه أو الانفكاك عنه، لأنه يشكل جانبا مهما من جوانب الوجدان البشري.
غير أن الشعور بالاغتراب الفكري والروحي، رغم ما يخلفه من آلام وأحزان، يشكل عامل تحريك لقوى النفس، وتنشيط لخلايا الفكر والروح. فالابداعات الفكرية الإيمانية مدينة إلى هذا الشعور بالاغتراب عند المبدعين وإحساسهم بأنهم غرباء في أوطانهم وأزمانهم بغربة ما يملكون من فكر لم تتهيأ الأوطان والأزمان بعد لقبوله، والتواصل معه، إلا أنهم يمضون في أداء رسالتهم على أمل أن يأتي ذلك الزمان الذي يحسن الفهم عنهم والتلقي منهم. وما من أذن مهما بلغ بها الصمم إلا وهي جائعة إلى الكلمة الناضحة برحيق الروح، والندية بعسل القلب، حين يتفجر بها لسان صدق يريد أن يرأب بها ما أحدثه الناس في نفوسهم من صدوع، ويرمم ما خلفوه فيها من شروخ، ومهما قام بين المسلم وزمانه من سدود الغربة والاغتراب، وجدران الخلف والاختلاف، إلا أن القلب المفعم بإيمانه، والعقل الزخار بفكره، والروح الجبار بقوته، قادر على تحطيم السدود، وخرق الحدود، والوصول إلى شغاف القلوب، ولباب الأرواح والعقول.
(4)
ورغم علمنا أن الحقيقة – أية حقيقة – قادرة على الدفاع عن نفسها، وشق طريقها في الحياة مهما كانت العوائق، إلا أننا – للأسف الشديد – قد نشكل بعض هذه العوائق من غير قصد منا... فهناك مساحة شاسعة بين ما نطمح إليه، وبين الجهد الذي نقدمه في سبيله... بين القمة الشامخة التي تنتصب فوقها حضارتنا وبين قزمية الأفكار التي نجعلها سلمنا للارتقاء إليها... إننا في الحقيقة بنا حاجة إلى بُنَى فكرية شامخة تطول شموخ حضارتنا، وعقول إيمانية كبيرة شمولية جامعة تجمع الشتيت، وتقرب البعيد... وسنكون سعداء غاية السعادة ونحن نقف إزاء عقل عميق يرفد عقولنا بجليل الأفكار، ويغني وجودنا بعظيم الآراء... وسوف نكون اكثر سعادة ونحن نصغي إلى هتاف روح سام متجرد لله، يشحذ أرواحنا، ويرهف ضمائرنا، ويسكب فينا من روحه قوى حية تدفع بنا إلى التغيير والتجديد... وهذا هو الرجل الذي سنمنحه الكثير من حبنا واحترامنا، لأنه إن كان عظيما من يستطيع تفجير طاقات المادة وتحويلها من صورة إلى أخرى، فان الأعظم منه من يستطيع تغيير العقول والنفوس من حال إلى حال.
(5)
غير انه ومنذ دخول العالم الإسلامي شتاءه الحضاري القاسي، وعقل المسلم لم يعد عقلا فاعلا، انه في حالة استرخاء دائم، لم يعد ذلك العقل المستوفز المشدود اليقظ، والمستعد دوما لالتقاط إيماءات، واستلام إشارات الطبيعة، ولم يعد عقلا مغامرا يستهويه المجهول، ويفتنه المستور، حتى لكأنه يخاف الحقائق ويستهولها، فيتحاشاها ويهرب منها، وبذا لم تَعُد حياتنا الإيمانية وحدها مهددة باليبس والنضوب، بل غدا إدراكنا نفسه مهددا بالشلل والجمود، إن دم إسلامنا الطيب الطهور يسري في عروقنا، ولكنه دم خامل هامد، به حاجة إلى عملية فصد لكي يتجدد ويستعيد حيويته ونشاطه، ولن يقدم على عملية الفصد هذه إلا واحد من مفكرينا، يمتشق قلمه، ويجعل منه مشرطا حادا يغوص عميقا في عقل المسلم وروحه، ليحرك سكونهما، ويستفز همودهما، وهذه هي السبيل التي لا مناص منها لكي تنشط عقولنا، وتتجدد قلوبنا وأرواحنا، وهذا المفكر آت لا أشك بمجيئه، لان زلزالا فكريا رهيبا يعصف اليوم بعقول مفكري هذه الأمة، ويوشك أن ينجلي عن منجم إيماني عظيم يعد المسلمين بكل نفيس وجديد من الأفكار، انه المفكر المنتظر، ذو العقل الموسوعي، والحس الحضاري، المتفتح على تجارب الحضارات، فيعرف منها وينكر، ويقبل منها ويرفض.
(6)
كانت "أوروبة" في إبان حضارتنا قد آنست نارا عظيمة في الشرق، فقالت لأهلها: (امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (طه:10 ). فلما جاءتها قبست من نورها أقباسا، وذهبت بهذه الأقباس فأنارت بها عقول أذكياء أبنائها فإذا بهذه القبسة الحضارية تنمو وتكبر، وتبلغ من النضج ما يشاء الله لها أن تبلغ، ثم تعود إلينا من أبوابنا المشرعة، وتتعرض لنا بسحرها ومفاتنها، فإذا بنا نعرف منها وننكر، فهي قريبة إلى نفوسنا في بعض جوانبها وغريبة بعيدة عنا في بعضها الآخر... نعرف منها روحها المغامر الطلعة، لأنه روحنا المفقود، ونعرف منها شغفها بالمجهول، وشوقها إلى كشف الأستار عن المعارف والعلوم لأنه شغفنا وشوقنا الموءود...
ونعرف منها علومها في الحياة والفلك والطب والنبات والحيوان، لان جذور هذه العلوم ممتدة في عقول الافذاد من علماء حضارتنا الماضين، ولكننا ننكر منها عقلها المغرور الجحود، وقلبها المتفسق، وجسدها الذي يغلي بالحسيات... فهذه جوانب منها ليست منا، ولسنا منها، فهي غريبة عنا، ونحن غرباء عنها.
(7)
فمن المعلوم أن "الدين" هو الذي يقود مسيرة الحضارات في فجرها الصادق، ويهيمن عليها، ويعمر ضميرها، ويرسي قواعد سلوكياتها وأخلاقياتها، حتى إذا قويت واشتد ساعدها، وعلا ضحاها، ودلفت إلى ظهيرة عمرها، جاء دور العقل لينشر سلطانه فوقها، ويستحكم فيها، ويتحكم بها، وربما صار وثنا يتعبد له الناس من دون الله تعالى... ثم تمضي في سيرها حتى تميل شمسها نحو الزوال ثم الغروب، فإذا بالعقل يتخلى عن عرشه ويتركه للحس ليتربع فوقه ويصبح هذا الحس سيد العقل وسلطانه بعد أن كان خادما له، ولا يعني هذا التقسيم الاعتباري لأدوار الحضارات أن هناك حواجز وفواصل ظاهرة وحادة بين دور ودور. فقد تتداخل الأدوار بعضها ببعض غير أن طابعاً عاماُ يظل يميز الأدوار ويدفعها بشارته ويعطي كل جزء زمني منها صفته الغالبة عليه. والدور الحسي الذي يطغى اليوم على حضارة الغرب. قد فجر حسيات الإنسان إلى آخر مداها وطاقاتها، وفجر مع ذلك حس الأرض والسماء، وأثار خفايا الأرض بترابها ومائها وهوائها، فإذا بها تتزلزل وتلقي بأثقالها وأسرارها بين يديه ليبتني من عناصرها مدنيته الحسية الباردة والمفتقرة إلى دفء الروح وشفافية الدين والإيمان. ولعل ثمار هذه الحسية ترجع في جذورها إلى ذلك التصور الحسي للألوهية والربوبية في العقيدة التي يدين بها أبناؤها.
(8)
أما الإسلام، أو بالأحرى حضارة الإسلام، فهي وحدة واحدة، تبدأ بالعقيدة وتنتهي إليها، فالروح والعقل والحس يتداخل بعضها في بعض، وتمشي جميعها جنبا إلى جنب في جميع مراحل تطورها، فالسمع والبصر والفؤاد والعقل، كل هؤلاء موضع الخطاب القرآني، وهي مناط التكليف في الدنيا، والمسؤولية في الآخرة، فحضارة هذا شأنها وإن غابت عن حس المسلم، ولم يعد يتلمس وجودها في واقع حياته إلا أنها حاضرة قائمة في عقله وروحه، شاخصة في خياله وذاكرته، فسماء ذاته ما أقفرت يوما من خفقات نجومها، وومضات كواكبها ورغم انه يعاني اليتم، وكوالح الاغتراب، إلا أنه سيبقى متشبثا بها، متعلقا بأمراسها، وأبدا لن يشد للرحيل عنها الرحال، لانها تمتزج بأجزاء نفسه، وتجري في مجاري روحه.
(9)
إن قوة الفكر الذي تحتاجه هذه الحضارة لتنهض من جديد قمين بعقول عظماء الرجال ممن عانوا الاغتراب الفكري ووقفوا على مشارف الخطر المحدق بها من خلال البنى الفكرية التقليدية المكرورة، والتي فقدت وهجها وحرارة تأثيرها. فظهور هذا الفكر بين ظهرانينا هو منعطف تاريخي مهم في حياة الإسلام والمسلمين والسعي إليه فرض عين على كل صاحب قلم يحرص على وجودها كما يحرص على ماء عينه وإذا كنا نصر على أن يكون للفكر الإسلامي مكان مرموق في عالم اليوم، فلابد أن ينجم من بين فحول مفكرينا فكر رجولي جديد يتسم بالأصالة والقوة والحيوية، ليغزو كيان المسلم المعاصر وهو على أبواب العقد الثاني من القرن الخامس عشر. إن التجديد الذي تحدث عنه الأثر النبوي الشريف والقائل بأن الله سبحانه وتعالى يبعث على راس كل مئة سنة من يجدد هذا الدين هو أحد مفاخر ديننا، بل هو اعظم مفاخره، ففيه إشارة إلى ذلك الالتحام الأبدي بين ديننا وبين صيرورتي الزمان والمكان، وهو سر خلود هذا الدين وبقائه ما بقي الزمن والمكان.
(10)
وليس من همي هنا أن استطرد في وصف هذا الفكر وما ينبغي أن يكون عليه، إلا أنني لا أرى ما يمنع من الإشارة إلى بعض ما نريده منه، لاسيما وانه قد ومضت منه ومضات عند البعض من مفكري الإسلام وعلمائه المُحدَثين... فنريده كالعاصفة المنطلقة من سجنها يوقظ هاجع الأفكار في جميع الأذهان. ويعصف بقبور العقول ومدافن النفوس لتقذف بأموات أفكارها، وظلمات أرواحها بعيدا عنها ونرجوه فكرا كونيا شموليا يربط ربطا محكما بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، ويصل ما بين قلب الكون وقلب الإنسان، ونتمناه حارا دافقا يهدر بالأفكار كما تهدر شلالات الطبيعة، ليس فيه برودة الأكاديمية وجفافها ولا ضبابية الإنشائية، وتهويماتها، وانما هو مزيج من فيض الروح ودفقه، ووقدة القلب وضرامه، وحرارة العقل وجلاله. إنه باختصار فكر قرآني يمنح الإنسان قدرة على فض أختام العالم، وحل لغز الوجود، وتمزيق ما تحجبت به الحياة من قمط النواميس والسنن وقوانين الأسباب والمسببات، فيأخذ بيده مخترقا مفازات هذه الحُجب ليوقفه بين يدي خالقه وبارئه، تاركا العوالم كلها وراء ظهره في عبودية خالصة مخلصة لرب العالمين.
(11)
والله سبحانه وتعالى قد دل على وجوده بجموع هائلة من الآيات الآفاقية والانفسية، إلا أن أعظم آياته، وأكثرها ظهورا، وأبهرها إعجازا بعد القرآن الكريم، إنما هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بصفاء جوهره، وكريم عنصره، وعظم خلقه، فهو المعنى الجليل الذي انتدبت البشرية إلى فهمه، وهو القلم الذي علم الإنسان ما لم يعلم من معاني الإيمان والتوحيد، ووضع النقاط المضيئة فوق حروف الوجود لكي يمكن قراءته والتعرف على معناه ومغزاه، فما من قلم في يد مسلم إلا وهو يستمد فكره من هذا النبي الأمي عليه افضل الصلاة والسلام، ويتعلم منه ويسترشد به، لأنه مرآة القرآن الكبرى، يعكس على العالم افكاره وآياته ومعانيه عبر حركة الزمان المتجدد، وهو بين الأنبياء والرسل عليهم السلام، اعظم مجدديهم، واكثرهم نجاحا فيما انتدبوا له من مهام، فقد جدد ما رثَّ من تعاليمهم، وخَلُقَ من أفكارهم، وحُرّفَ من رسالاتهم، وهو الذي أحيا عقيدة التوحيد الخالص وبعثها من رمسها، وأناط بها خلاص الجنس البشري من الشقاء الأبدي، فالإسلام – قرآنا وسنة – وإن كان قد نسخ شرائع ما قبله، إلا انه – بحد ذاته – تجديد لأصول هذه الشرائع وأساساتها التي هي محور كل دين الهي، فالتجديد إذن قد بدأ في تاريخنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يتوقف في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
(12)
وكل ما هو غير مطروق ولا مألوف من الأشياء والأفكار جديد يتوجس منه الجامدون خيفة، وكل مجدد غريب في قومه ووطنه، منكر بينهم لا يكادون يفقهون عنه، أو يسمعون منه، وقد عاش رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة والتسليم غريبا في قومه بمكة ثلاث عشرة سنة، لأنه جاءهم بما لم يألفوا أو يعرفوا من الدين والإيمان، ومن هنا بات المسلم رهين غربتين: غربة مكانية حسية ورثها عن جده آدم عليه السلام، وغربة فكرية إيمانية ينـزع فيه إليها عرق روحي تمتد جذوره عميقا إلى غربة رسوله المكية الأولى. وبين طوايا هاتين الغربتين في وجدان المسلم، تتشكل بصمت قواه الروحية، وتستكمل شخصيته عناصر تفردها وتميزها، ليصبح من بعد نوعا إنسانيا متفردا قبالة الكم البشري العادي، وهو وان كان غريبا في نظر هذا الكم، ولغزا مبهما لا يعرف كيف يفسره ويفهمه، إلا أنه مع ذلك يحس بأنه يضرب بعرق في كل نفس. ويمت بصلة إلى كل قلب، وربما رأى فيه تكفيراً واعتذاراً عن تخلفه وعجزه عن التفرد والتميز. فهو غريب لكنه مستطاب الغربة، بعيد لكنه اقرب ما يكون من الأرواح الحبيسة المعذبة في سجون أجسامها، واسمع ما يكون إلى أنين الإنسان وصراخه المفجع في دياجير الضلال، وأندى ما يكون على النفوس العطشى في بلقع الهوى الرهيب. وهو بعد هذا وذاك سلّم الراسبين في قرارة الوحل والطين من الراغبين في الصعود إلى ذروة الشرف الباذخ، شرف الإيمان والإسلام، وهو حاسة الأمة السادسة التي تتلمس من خلالها دربها إلى الصراط المستقيم، وهو بُعدها الرابع الذي تنفذ من خلاله إلى أغوار روحها الموار بخوالج الإيمان الدفينة، وهو عقلها الذي يفكر لها إذا ما اعتل عقلها، وداءت نفسها، وهو صبح اليقين الذي يجلوها من غياهب الشبهات. وان تشأ مزيدا من الوصف يزدك معرفة به، فاعلم أنه الحزن الهادئ الصموت، الذي وصف الرسول الكريم عليه السلام نفسه به حين قال: (والشوق مركبي، والحزن رفيقي، وقرة عيني في الصلاة) وهو الشجن الهامس العميق والوجد اللاهف المنيف، كل ذلك في إطار من جمال الروح، وجلال الفكر، وهيبة النبل والطهر، حتى لكأنه بصفاته هذه اثقل من أن تتحمله طينة الأرض، وأوسع من أن تحتويه دنيا الناس، واشد تماسكا وقوة من أن يجرفه زبد سيل العالم، وهو الغريب نفسه الذي وصفه من أُوتي جوامع الكِلمْ "صلى الله عليه وسلم" فقال في حقه وفي أمثاله مبشرا: (بدأ الإسلام غريبا وسعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء).