وصية أم

أمك رفاه أحمد مهندس

هذه رسالة كتبتها أم أحمد قبيل ساعات من سفر ولدها أحمد الذي سافر صباح يوم السبت 3/رجب/1430هـ إلى لندن، أودعت في هذه الرسالة نصائحها ووصاياها، وذكرياتها وعواطفها... وقد سافر ابنها البكر أحمد ليتابع دراسته هناك ويتقن لغة القوم... كتبت هذه الكلمات ومزجتها بدموع عينيها... وطلبت منه أن يقرأها في أول صعوده للطائرة، وأن يجعلها منهج حياة له في ديار الغرب، أحببت أن أطلع الإخوة الكرام على هذه الكلمات... راجياً منهم للابن الغالي ولوالديه وأحبابه صالح الدعوات...

مجد مكي

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

إلى أحمد

إلى حبيبي أحمد مع خالص الود وأصدق الدعوات أضع بين يديك قلبي في هذه الكلمات

حبيبي أحمد:

هاتان الكلمتان نطق بهما قلبي، وتدرب عليهما لساني قبل أن أعرف وجهك الجميل بسنتين.

وكنت أكررهما في سري، ثم أَعرضُ نفسي على مرآتي، فأرى أني كنت أزداد جمالاً كلَّما نطقتهما.

حبيبي أحمد:

لقد كانت وداعتك منذ نعومة أظفارك. وكان اللطف والحياء أول ما عرفته فيك.

وأكثر ما كان يحزُنني منك ـ إن ظهرت منك فَظَاظة أو غِلْظة ـ أني كنت أعرف أنها ليست منك، وأنك لست أنت في تلك الساعة!!

حبيبي أحمد: لم أُقدِّم على حبِّك يوماً إلا حب ثلاثة:

ـ حب الله عزَّ وجل الذي ليس في قلبي مثله.

ـ حب رسوله ^ الذي ملك عليَّ فؤادي وحياتي.

ـ حب والديَّ وزوجي، ملآ أركان روحي ونفسي.

حتى ذقت حُبَّك وهو أغلى من روحي

حبيبي أحمد: علمت أنَّ القوت لا يتَّسع لكلِّ شيء، فاخْتَرت أهم المهمات لوقتي، واستخلصت من ساعات نهاره وليلي كل عمل يعود عليَّ بربح ولا يعود عليَّ بخسران أو ندم. فاخْتر لأوقاتك ما يجعلهما فرحاً موصولاً، وخيراً دائماً.

حبيبي أحمد: العُمر مراحل، كلُّ مرحلة لها ما بعدها، فاحسب لكل مرحلة ما وراءه، ولا يَغْرُرْك حال الساعة التي أنت فيها، بل احسب حال الساعات التي تأتي بعدها. تعش السعادة مرتين: مرة في ساعتك... ومرة فيما يأتي بعدها.

ما هو تعريف السعادة ؟

إنَّ من الأغبياء كُثُر يعرّفون السعادة بلذة فانية، أو عرض زائل، أو انغماس في حمأة منتنة.

لكن لا سعادة إلا ما تجلب من ورائها فرحاً وآمالاً، أو ما تفتح لك بِشِفْرتَها أبواب نعيم موصول وقُرَّة عين لا تنقطع.

حبيبي أحمد: سمِّ الله، ولا تشرب إلا لترتوِ، أما إذا شربت لتعطش، فإنما بئست الكأس، وتعس الشراب، اشرب كأس الإيمان واثبت، فإنه دوام الارتواء.

حبيبي أحمد: ضَعْ لنفسك خارطة الأحلام، وكُن على قدر الرجولة، رجلاً يصنع من الحُلُم الحقيقة. ولا ينسى خارطته ولا يهمل خطَّته.

حبيبي أحمد: يتقاطر الأغبياء على أبواب أرباب مصالحهم لينفعوهم، مالاً، سلطاناً، جاهاً، لكنهم لا يستطيعون سَوْق النفع لأنفسهم ولا لآبائهم. فضلاً عن أن يسُوقوا لغيرهم نفعاً وخيراً. يا لتعس الأذلاء أخطؤوا قصد الباب الصحيح.

لا تكن عبداً إلا لله، ارفع هامتك فلا تُعفِّرها بغير الذل له، ولا تطرق إلا بابه.

 أحمد: لا تطرق إلا بابه، قم: صُفّ قدميك عند بابه، وأخْضِعْ جبهتك ساجداً، وقل: يا رب فليس مَنْ يجيب ويعطي إلا هو.

أحمد يا حبيبي: اعرف نفسك: اعرف ما سيعرفه الناس عنك، اعرف ذاتك، وصفاتك، اعرف أخلاقك، ومَحْتدِك، وأصلك

اعرف، وتعلَّم، فليس سراً ما يعرفه الآخرون عنك، لكنه من القبح بمكان أن يعرف عنك الآخرون ما لا تعرفه عن نفسك.

حبيبي أحمد: لا تعتب عليَّ: أزاحم السطور بالكلمات، كأنما لم تكفني الأيام لأزاحمها بكلماتي إليك، لكن هذا قلبي، وهذا قلمي، وهذا قدري معك.

حبيبي أحمد: كن موصولاً بالله، لم يغلق بابه دونك وهو الملك، فلا تغلق بابك دونه وأنت العبد.

 لم يقبض كفَّ العطايا عنك وهو الغنيّ. فلا تقبض كفَّ السؤال إليه وأنت المحتاج الفقير.

كن موصولاً بالله... بيدك ضياعك وهو يحميك، بيدك حرمانك وهو يعطيك...

 تقرّب إليه، فلا تستوحش أبداً، تقرَّب إليه فلا تضيع أبداً، تحبّب إليه بذكره. فهو يحبك ويذكرك.

 نوّر سرّك بالتضرُّع إليه يضيء من حولك النور سراً علناً.

حبيبي أحمد: (يَسْلَملي هالطول... أبوس هالوج ما أحلاه)

نسكت قليلاً حتى نسكب باقي الدموع...

فاصل ونواصل

أحمد: أنت مستقيم على الخير بالفطرة.

اغتنامك للبكور هداية.

 نومك المبكر هداية.

 حبك الزراعة والنبات والحيوان هداية.

 فكن مهدياً هادياً كما سوَّاك ربُّك.

حبيبي أحمد: الصَّلاةَ، الصَّلاةَ، فريضة ربك، وفرج همِّك، وضياء دربك، وصلاح أمرك، فالحفاظ عليها رجولة، وعلى مواقيتها في أولها صدق العبودية لله.

حبيبي أحمد، كما يغسل النورُ وجهَ الصباح.

 كما يغتسلُ الشجرُ تحت المطر.

 كما يستدرّ الرضيعُ الحليبَ.

 كما يستحمُّ بالضياء النَّهَر

توضأ، وقم للصَّلاة في البكور.

 وأعلن خُضوعَك لربَّ البشر.

ورتِّل كتابَ العزيز الرحيم     

يُعزك مولاك أبدَ الدهر

حمُّودة: اشتقت إليك قبل أن تغادرنا فماذا بعد؟

كيف أكفكف دمعي؟ كيف أهوي بنومي إلى مَضْجعي ؟ كيف وكيف؟!

حديثٌ يطول، وجوابه يوم أن تعود.

أحمد يا حبيبي: كلما رأيت الحُسْنَ في الصبايا.

 كلما التمعت بالجمال المرايا

كلما أفصحت عن القلوب النوايا.

 تباهَيْتُ بك فخراً بين البرايا.

 وتحسَّستُ قلبي بين الحنايا.

 يا رب بزواج أحمد تمّم مُنايا.

طَمْئن قلبك يا حبيبي فحبُّك في سويداء القلب حِبُّه.

طَمْئن قلبك يا حبيبي فما طار حب زِغْبٍ قط طار سِرْبُه

قبلة على خدِّك مع كل صلاة.

 قبلة على خدك عند كل استحمام.

 قبلة على خدك عند كل استعلاء على معصية.

قبلة على خدك عند كل تلاوة.

 قبلة على خدك ـ يا خد الورد ـ عند كل سانحة تستلهم فيها الرجاء والدعاء.

كن جواداً يا أحمد، كن سخياً بكلِّ خير، بكل ما تستطيع في وجوه الخير والبر والإحسان.

 تخيّر لنفسك الطيب من الطعام، واللباس من غير سَرَف.

 وابقِ على كل خير فيك فأنت أنت يا أحمد.

لا خَيْرَ فينا إن لم نكن هُداةً دعاةً لرب ودين

ننشر نورنا في الخافقات ونعلن دينه في العالمين

تمسَّك بإسلامك تنال احترام من حولك، وإن لم تفعل فلا خير فيك.

يجربك أعداؤك: في صدق قولك، وفي أمانة عهدك، في نظافة يدك وجيبك، وفي ولائك لأمتك، فإن لمسوا فيك هوادة في أحد هؤلاء، هانت نفسك عليهم،فما تقوم لنا بعد الهوان قائمة.

احفظ عيناك بنورهما، يحفظ ا لله لك نورهما حتى يريهما كل خير وعزّ

احفظ لسانك، يحفظ ا لله لك طلاقته في الحق، ويجريه لك بكل  صواب.

احفظ قلبك عن اتِّباع الهوى أنت أولى بنبضاته، احرص عليه وجنِّبه العثرات يحفظك الله ويُجنِّبك العَثَرات.

حبيبي أحمد: تخير إخوانك فهم جزء من هُويتك.

 إن سألوا الناس عنك سألوا  عنهم، وإن حُمدتْ أخلاقهم  حُمدتْ أخلاقُك، وإن نسبوا الشرَّ إليهم نالك شرر مما لحقهم، وإن كان لهم عطرٌ نَفَحَوُك ريحه وتطيَّبت بما تطيَّبوا به.

أحمد يا حبيبي.

قل لي: مَنْ مِن الناس التقيته فبهرك فيه تكامل شخصه؟؟

لابد من أنه إن أعجبك فيه وصف، ساءك منه أوصاف، وإن أُخذتَ منه بجانب صُددتَ عنه بجوانب، أو إن بدا لك منه خلق خفيتْ عنك منه أخلاق إلا مَن؟

إلا رسول الله ^

فاعلم يا حبيبي...أنه ما دقّ وصف بشر في كل كلمة قالها، أو فعل فعله، أو نظرة نظرها، أو سكوت صمت فيه، أو نية أخفاها، أو عتاب أظهره، أو سر أسرّه، أو خطاب أعلنه كما كان في توصيف رسول الله ^ فما كان أخير في البشرية منه.

واعلم يا حبيبي:  أنه ^ رحمة للعالمين في كل زمان ومكان، يمكنك أن تجعله قدوة تقتدي بها، وأسوة تتأسى بها، ولا تظن أن اختلاف الزمان والمكان يغير صفات الخير والشر فإن الصدق والعدل والرحمة والإيثار صفات الخير في كل زمان رغم اختلاف أساليبها أو رغم تنوع تطبيقاتها.

ارفع رأسك يا أحمد، حتى ولو بهرتك مظاهر حضارتهم، ارفع رأسك يا حبيبي عالياً فما دالت الدولُ علينا إلا لما خفض أبناؤهم رؤوسهم، وأنزلوا راياتهم وما دالت الدول لهم إلا لما نامت أمجادنا على كتف التاريخ لم تعش بذاكرة أبنائها.

الأرض تحنُّ إليك فاسجد واقترب...

حروف التَّسبيح تعشق أن ينطقها لسانك... فسبِّح ورتِّل وأَعْلِ صَوْتَك، قف بقامتك إلى الصلاة ـ ناجِ مولاك فأنت عبده، بحاجة إلى رحمته... وفي غربتك... ولو كنت بين أهلك.

أحمد يا حبيبي: فكرّ قبل أن تقدم على أي عمل.. كما عوَّدتني من نفسك... فكّر برضوان ربك... فكّر بشفاعة حبيبك لك... فكر بدعاء أبيك وتضرُّعه

فكّر بأمك وقلبها الذي كاد أن ينخلع.

 فكِّر وتأمل: خطوك صحيح، وعقلك راجح، لأنك أحمد.

أدخل إلى غرفتك وأنت نائم كل ليلة، أُقبِّل رأسك، أقرأ وأدعو ثم أمضي..

يدخل والدك عند الفجر يوقظك ويخبرك أخبار الليلة وبرامج اليوم الجديد، إلى أن تصلي صلاة الفجر، ثم يبدأ يومك الحافل.

 نم كما أنت واستيقظ كما أنت، وانبعث كما أنت.

صافياً نقياً، واثقاً تقياً.

أبداً أبداً يا حبيبي.

قبيل فجر السبت 3/رجب/1430

27/6/2009