حسن البنا وتربية الرعيل الأول

الإمام الشهيد حسن البنا

ذ. منير الركراكي

من خلال كتاب "وسائل التربية عند الإخوان المسلمين، دراسة تحليلية تاريخية"، نتعرف مفهوم التربية عند أبناء حسن البنا رحمه الله:

"التربية هي الأسلوب الأمثل في التعامل مع الفطرة البشرية توجيها مباشرا بالكلمة، وغير مباشر بالقوة، وفق منهج خاص، ووسائل خاصة، لإحداث تغيير في الإنسان نحو الأحسن"

(د. علي عبد الحليم محمود، وسائل التربية عند الإخوان المسلمين: دراسة تحليلية تاريخية، ص 15).

و"المنهج" هو الطريق الواضحة المعالم والخطة المرسومة بدقة، وهو المنهاج كذلك، قال تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (المائدة، 48)، أي طريقة إلهية يتحاكم إليها الناس"

(نفس المرجع، ص 16).

من هنا يتبين أن الرجل كان يعتمد منهاجا خاصا في تربية الإخوان المسلمين، وأن هذا المنهاج مستقى من النبع الصافي، كتاب الله وسنة رسوله، لكن بعقل يقظ وفهم نير نافذ هو من الله عطاء ونور، وهدى وفرقان، وبإرادة جهادية بنائية تغييرية.

ومن هنا كان الإجماع، أو كاد، على أن الرجل كان مجددا مجتهدا، ولم يكن فقط عابدا زاهدا، أو داعية حركيا مجاهدا.

فكانت جماعته، نتيجة لذلك، دعوة سلفية، وطريقة سنية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.

مع هذا كله كانت حقيقة صوفية: "لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله والارتباط على الخير"

(وسائل التربية عند الإخوان المسلمين، ص 98).

أما مراحل هذه الدعوة الجامعة، كما تحدث عنها الإمام، وفصل القول فيها، فهي ثلاث:

التعريف والتكوين والتنفيذ.

ويعنينا، في ما نحن بصدده من هذه المراحل، مرحلة التكوين التي قال عنها الإمام في حديثه عن الطاعة بما هي ركن من أركان البيعة:

"التكوين باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة في هذه المرحلة:

- صوفي بحت من الناحية الروحية.

- وعسكري بحت من الناحية العملية.

"وشعار هاتين الناحيتين، دائما، (أمر وطاعة)، من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج. وتمثل الكتائب الإخوانية هذه المرحلة من حياة الدعوة (...) والدعوة فيها خاصة لا يتصل بها إلا من استعد استعدادا حقيقيا لتحمل أعباء الجهاد طويل المدى كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد (كمال الطاعة).

"وواضح أن المقصود بهذه المرحلة في تاريخ التربية عند الجماعة مرحلة الانتظام في أسر، بعد أن يكون الفرد قد مر بمرحلة التعريف التي تعد فيها الدعوة (عامة)."

(المرجع السابق، ص 160-161).

الوسائل التربوية التي اعتمدها البنا في البناء

حتى إذا ما رجعنا إلى الوسائل التربوية التي تعتمدها الجماعة في تنمية أفرادها وتقويمهم وتكوينهم وإعدادهم للمهمات الجسام، ألفيناها متفقة كلها على حضور الجانب الروحي بكثافة ضمن أهدافها ومفردات برنامجها التطبيقي العملي وبخاصة ما يتعلق بالأسرة والكتيبة.

وبرجوع القارئ الكريم إلى كتاب "وسائل التربية عند الإخوان المسلمين" عند حديثه عن هاتين الوسيلتين، سيقف على هذه الحقيقة وقوفا دقيقا وعميقا وموثقا.

وسنكتفي هنا بذكر بعض ما ورد في الكتاب فيما يتعلق بالكتيبة فقط؛ لأن نظامها، من بين مختلف أنظمة التكوين، "يعد نظام التكوين المركز، وأسلوب التربية العميق المباشر؛ لأنه، وحده، هو النظام الذي يجد فيه الموجه والموجه نفسيهما متجردين متفرغين، كل منهما للآخر وجها لوجه، لا تشغل أيا منهما عن نفسه ولا عن صاحبه شاغلة، فيكون القلب والعقل معا في أسمى حالات التهيؤ للتلقي والإلقاء. وبالتعبير الحديث: للاستقبال والإرسال"

(المرجع السابق، ص 221)

"ونظام الكتائب نظام فريد مبتكر، لعل الأستاذ حسن البنا، رحمه الله، قد اشتقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجمع المؤمنين به في ذلك الوقت المبكر –وكانوا قلة- فيبثهم ما عنده، ويقضي إليهم بذات نفسه، ويأخذهم بأسلوب من التربية الروحية العالية، حتى خرج من تلك الدار المتواضعة من كانوا أعلام الهدى، ومن حملوا مشعل النور الإسلامي فأضاءوا به جنبات الدنيا."

(المرجع السابق، ص 221).

الكتيبة إحدى أهم وسائل تربية الإخوان المسلمين وتكوينهم

"الكتيبة تعني أسلوبا خاصا في تربية مجموعة من الإخوان. يقوم هذا الأسلوب على تربية الروح، وترقيق القلب، وتزكية النفس، وتعويد البدن والجوارح على الاستجابة للعبادة بعامة، وللتهجد والذكر والتدبر والفكر بصفة خاصة".

(المرجع السابق، ص 220).

"وكان في نية الأستاذ المرشد أن يتدرج في إنشاء الكتائب حتى يسلك فيها كل إخوان المركز العام، على أن يقوم هو بنفسه بدور التوجيه والتربية.

فبدأ أول خطوة فيه بأن جمع من الرعيل الأول أربعين أخا، وكانوا هم الكتيبة الأولى، ثم ما لبث أن جمع أربعين آخرين، فكانوا الكتيبة الثانية.

وكان النظام يقتضي أن تتم كل كتيبة أربعين أسبوعا.

"ويتلخص نظام الكتيبة وبرنامجها، سواء تلك التي أنشأها الإمام البنا، رحمه الله، مع الرعيل الأول أو تلك التي تفرعت عنها في:

1. المبيت الجماعي ليلة في الأسبوع، والأفضل أن يكون يوم صيام. هذا مع تناول الإفطار أو العشاء معا، طعاما رمزيا دون إسراف.

2. فكلمة الافتتاح من أمير الكتيبة، أو من يكلفه الأمير عن أعضاء الكتيبة، ويستحسن أن تشتمل هذه الكلمة على عظة، وتذكير بآداب الكتيبة وأهدافها.

3. تلاوة القرآن الكريم، قارئ يتلو ويسمع الباقون. وقدر التلاوة جزء من القرآن على الأقل. ويمكن أن يقرأ كل واحد في مصحفه أو من ذاكرته جزءا من القرآن، بصوت يسمعه القارئ ولا يزعج من بجواره. ولو وزع القرآن كله على عدد أعضاء الكتيبة فختموا القرآن كله في هذه الليلة لكان ذلك أكثر بركة للمجلس حيث قرئ فيه القرآن الكريم كله.

4. تلاوة الوظيفة الكبرى "المأثورات"، كل على حدة، إلا إذا دعت الضرورة لتلاوتها في جماعة.

5. قيام جزء من الليل.

6. التهجد ببعض الركعات قبل الفجر بوقت كاف.

7. الاستغفار والذكر والدعاء.

8. 9. 10. 11. دروس وكلمات في التفسير والسيرة وتاريخ الدعوة والدعاة، والتربية والتكوين.

12. كلمة في ختام اللقاء يلقيها أمير الكتيبة، أو من ينيبه، يؤكد فيها على معاني الأخوة والحب في الله والعمل والجهاد في سبيله. ثم دعاء ختم المجلس."

(المرجع السابق، ص 240-241).

والناظر الممعن، والقارئ المتفحص لهذا الذي سطرناه بتلخيص، نقلا عن كتاب أحد الخبراء المعتبرين والمعتمدين في التعريف بجماعة الإخوان المسلمين وبرامجها التنظيرية المختلفة، يتبين بما لا يدع مجالا للشك، أن حسن البنا وأبناءه من الرعيل الأول، إنما صنعوا صناعة ربانية وبنوا بناء روحيا وفق منهج تربوي روحي معلوم، وطريق سلوكي مرسوم، وبرنامج تكويني موسوم بملامح صوفية بارزة، منضبطة بضابط الكتاب والسنة.

فهناك الاجتماع على الخير في مكان واحد وزمان واحد يضم الأمير وأتباعه، وهناك الوظيفة الصغرى والكبرى (المأثورات) ذكرا وتلاوة، وهناك أيضا القيام والتهجد، وهناك التذكير والتعليم والوعظ والتربية والتكوين.

وكلها داخل في أعمال تعبدية الاجتماع عليها رحمة، وتعاون على البر والتقوى، وتسابق بالخيرات وتنافس فيها. والمؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوته، لو وكل إلى نفسه في خلوته لأكل وقته العجز والكسل، وجبن عن مواجهة مغريات النفس ووساوس الشيطان وفتن العادة فبذل وتبذل.

هذا في ِأن العبادات الفردية التي يملك الإنسان أن يؤديها وحده إذا قويت إرادته وسمت همته، فكيف بالأعمال التي لا يملك يقوم بها وحده إلا أن يعينه عليها مذكر ناصح، أو مساعد صالح، أو مرب معلم فالح، أو جماعة مؤمنة. لاسيما إذا تعلق الأمر بتعلم علم نافع، أو القيام بعمل جهادي بنائي تغييري تدفع به المضار، وتتحقق بموجبه المنافع.

عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ".. ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده."

(حديث رواه مسلم في باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر).

وعن شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث عن الأغر أبي مسلم أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله، عز وجل، إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده."

(رواه مسلم في نفس الباب).

وعن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقل حديثا مني وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا. قال: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله، عز وجل، يباهي بكم الملائكة."

(رواه مسلم في نفس الباب).

إنه الاجتماع على الخير، الخير تلاوة ودراسة، والخير ذكرا، والخير مذاكرة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليجتهد المجتهدون، وبمثل هذه القربات الجماعية فليعمل العاملون، وليتقرب المتقربون.

أما المغبون المفتون، أما المغبونون المفتونون ففضل الله يحجرون، ومن خرج عن سنة اجتماعهم يتهمون، ومن لم يتقيد بما قيدهم به فهمهم الحصرمي، وتأويلاتهم الضيقة، وعقلياتهم الذرية التبسيطية، وفقههم المنحبس، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، فهو كافر أو بدعي أو مشرك، أو من الفرق الضالة، وما شئت من أحكام متعسفة جائرة، ممن حرم الحكمة ولم يحذر الآخرة.

ولا يجادل أحد في أن الاجتماع على الخير يشرف بشرف المكان الذي تم فيه. ولو خيرنا وخير المحاصرون أمثالنا بين الاجتماع على العلم والدراسة والذكر والمذاكرة في بيت الله وبين الاجتماع في بيت من بيوت المؤمنين لما كان لنا إلا أن نختار بيت الله على كل بيت وكل مكان.

ولكن الدعوة الصادقة تستخلص اجتماعاتها ولقاءات أعضائها من بين فرث ودم، مثلما كان يجتمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع صحابته، في بدء دعوته قبل هجرته، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويتنعم من يعجب الكفار نباته ولا يغيظهم زرعه في الدور والقصور والمساجد الضرار، همهم الذي ليس لهم هم غيره، "علم هو بالجهل أشبه، إذ يعمدون إلى الكتاب والسنة يستنطقونهما بذهنية لم تستكمل وسائل العلم، فهي تنظر إلى ماضي القرون الفاضلة النيرة بحنين ومحبة، حتى إذا دعوا لمواجهة الحاضر وتخطيط مستقبل الإسلام انكفأوا عن كآبة الحاضر وشره، وانغلق فهم التاريخ عليهم، فلعنوا، واستعاذوا بالله، وبرروا بلعناتهم الانزواء.

وعلم هو الشر حين تكون النصوص سلاحا لتكفير المسلمين وتضليلهم" (عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 212)، حسدا أن قعدوا وجاهد الرجال، وغفلوا وذكر الرجال، وعزف الناس –إلا جاهل أو حسود- عن الاجتماع بهم والانضمام إلى جماعتهم وإمامهم، إن كان لهم جماعة أصلا وإمام، وأقبل الناس على دعوة الله مجسدة في جماعات مؤمنة صادقة، وقيادات قوية أمينة يجمعها –وإن تفرقت بها سبل التعبير والتغيير- هم الله والاهتمام بأمور المسلمين ورفض إعطاء الدنية من الأنفس طوعا وكرها.

لسنا هنا في معرض الانتصار لدعوة البنا وجماعته، وإنما قصدنا من هذا الذي سطرناه –يعلم الله- أن نبين أن الدعوات والحركات والجماعات والجمعيات والمنظمات الإسلامية منذ البنا، رحمه الله، أبي الصحوة الإسلامية إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هم أحرص الناس على أخذ دينهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم.

حسن البنا الداعية الرباني بكلمة جامعة

لقد استحق حسن البنا، رحمه الله، بما قدمه بين يدي آخرته من علم وتربية وجهاد أن يندرج في سلك الدعاة الربانيين أهل التقوى والإحسان، يقول الدكتور عبد الله صالح علوان:

"لاشك أن الداعية الرباني حين يكون على هذا المستوى العظيم من التقوى والفهم والروحانية، وحين يتحلى بهذه القيم العالية من الإخلاص والصدق وحرارة الإيمان والدعوة، فإنه ينطلق في ميادين الدعوة والتبليغ والجهاد.

ولو أردنا أن نستقصي أخبار هؤلاء الذين أثروا وأصلحوا وغيروا لرأيناهم أكثر من أن يحصوا، وأعظم من أن يستقصوا؛ بل إنهم كثير وكثير، كأمثال الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الحسن البصري، والإمام الفضيل بن عياض، والإمام معروف الكرخي، والإمام الجنيد البغدادي، والإمام سعيد النورسي، والإمام حسن البنا.

فهؤلاء الأئمة الربانيون هم الذين حملوا خلال العصور إمامة الدعوة، ورسالة الإصلاح، ومسؤولية الهداية؛ وهم الذين جمعوا بين العبادة والجهاد، ووفقوا بين حق الله وحق العباد، وهم الذين أعلنوا صوت الهدى والحق أمام المستبدين الظالمين، ووقفوا ببسالة فائقة أمام المستعمرين الغاشمين.

وهم الذين جددوا بدعوتهم وصحبتهم ميثاق الإسلام، وأدخلوا الناس في السلم فقها وعملا بعد أن دخلوا فيه وراثة وعادة، وأذاقوا مريديهم وتلامذتهم حلاوة الإسلام ولذة الإيمان. وهم الذين أخرجوا أصنافا من البشرية من سلطان الهوى ورق الشهوات، واستحواذ حب الدنيا، إلى نور الحق وهدى الإسلام، ولذة الطاعة والمناجاة."

(د. عبد الله ناصح علوان، مجلة المجتمع، ع 680، ص 40-41).

يقول أحد تلامذة الشهيد البررة، الأستاذ عمر التلمساني، في شأن القائد القدوة الذي تطلبه الدعوة وفي ِشأن التربية الروحية أس البناء، وعمدة بقائه وارتقائه، في مقال بعنوان: "بين القيادة والجندية على طريق الدعوة" وهو يستحضر سيرة الشهيد ومسيرته القيادية الرائدة.

قال، رحمه الله، يتحدث عن تجربته:

"على القيادة أن تولي الجانب التربوي، على كل المستويات، الاهتمام اللائق به. فالتربية هي الأساس في قوة البناء وتماسكه، وهي تعد الأجيال التي ترث الأمانة، وتتحمل الأعباء وتواصل العمل والتضحية والجهاد في جو من الأخوة والحب ودون مشاكل أو خلافات."

(مجلة الدعوة، ع 98، ص 9).

إلى أن يقول: "يجب أن تحترز القيادة من الاستغراق في الإداريات على حساب الجانب الدعوي والروحي الذي هو الأصل، وإلا تحول العمل إلى رسميات وشكليات لا روح فيها، وقد يحدث ذلك جفوة بين الأفراد العاملين، إذ أن الناحية الروحية هي التي تغذي جو الحب والتعاون."

(المرجع نفسه، ص 12).

ومثل هذا الكلام في قولة للشهيد سيد قطب، بعثها من وراء القضبان إلى شقيقته أمينة قطب بين يدي تنفيذ الحكم عليه بالإعدام من قبل قوى الظلم والظلام، مختزلا فيها تجربته الدعوية بكلمة جامعة رائعة، تؤكد أن القادة الربانيين، كانوا ولا يزالون وحدهم المؤهلين لتجديد الدين، بما خصهم الله به من طاقات روحية فائقة، أين منها الطاقات الفكرية التي يكتسبها المختصون العلوميون.

يقول الشهيد:

"نحن في حاجة ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة، ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك (...)

"ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يوجهون الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق.

"إن الرواد كانوا دائما، وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة. هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف، وينكشف في ضوئها طريق الرحلة، مزود بكل هذه الجزئيات قوية بهذا الزاد، وهي تغذي السير نحو الهدف السامي البعيد.

"هؤلاء الرواد هم الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في العلم، والفن، والعقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحدا منها ولا يرفعونه فوق مستواه (...)

"إنهم قليلون. قليلون في تاريخ البشرية؛ بل نادرون، ولكن منهم الكفاية. فالقوة المشرفة على هذا الكون هي التي تصوغهم، وتبعث بهم في الوقت المقدر المطلوب."

(سيد قطب، رسالة إلى أختي المسلمة، ص 26-30).

ونختم الكلام عن ربانية حسن البنا والرعيل الأول من جماعة الإخوان المسلمين بمقتطف من مقدمة كتاب للدكتور يوسف القرضاوي، حفظه الله ورعاه، عن التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا بمناسبة مرور ثلاثين عاما على استشهاد الإمام. ولا ينبئك عن الرجل ومدرسته التربوية التجديدية مثل خبير عاشر الإمام وصحب الجيل الأول من الإخوان وذاق في رفقتهم حلاوة الإيمان، وظل وفيا لأيام المأثورات. حتى إذا ما جمع العلم من كل أطرافه، وحاز الجاه والحظوة لدى الناس، التفت إلى البناء المتشامخ على ذلك الأساس وقد زال طلاؤه أو كاد وامتدت إليه أيدي الأعداء والحصاد على حين غفلة من الأحفاد فكتب وأعاد، عن التربية الربانية أهم جوانب التربية وأشدها خطرا، وأعمقها أثرا.

فكان مما كتبه سلسلة جديدة عنونها بالطريق إلى الله ضمنها خلاصات تجاربه ودروسه التي تلقاها في مدرسة البنا التي قال عنها في مقدمة كتابه المذكور أعلاه:

"ولست أكتب هذه الصحائف مؤرخا لحركة الإخوان ومبلغ تأثيرها في الحياة المصرية والعربية والإسلامية، فهذا جهد ينوء به فرد مهما تكن قدرته ووسائله. وإنما هو واجب الجماعة الذي فرطت فيه حتى اليوم، وإن كانت الضربات المتلاحقة التي أصابت الجماعة في العهود، تجعل لها بعض العذر لا كله.

"إنما أكتب هنا عن جانب واحد من جوانب هذه الحركة الضخمة؛ وهو: جانب التربية، كما فهمه الإخوان من الإسلام، وكما طبقوه.

"ولست أحاول هنا الاستقصاء والإحاطة، وإنما أكتفي بإبراز المعالم وإعطاء الملامح، التي تكفي لإيضاح فكرة الجماعة عن التربية، وجهودها في ممارستها، ونقلها إلى واقع حي يتمثل في بشر أحياء.

"ولا يخفى على دارس أو مراقب أن حركة الإخوان تمثل – في الدرجة الأولى- مدرسة نموذجية ناجحة للتربية الإسلامية الحق. وأن أهم ما حققته هو تكوين جيل مسلم جديد يفهم الإسلام فهما صحيحا، ويؤمن به إيمانا عميقا، ويعمل به في نفسه وأهله، ويجاهد لإعلاء كلمته، وتحكيم شريعته، وتوحيد أمته.

 

"وقد ساعد على هذا النجاح جملة عوامل:

1. إيمان لا يتزعزع بأن التربية هي الوسيلة الفذة لتغيير المجتمع وبناء الرجال، وتحقيق الآمال. وكان إمام الجماعة الشهيد حسن البنا يعلم أن طريق التربية بعيدة الشقة، طويلة المراحل، كثيرة المشاق، ولا يصبر على طولها ومتاعبها إلا القليل من الناس من أولي العزم.

ولكنه كان يعلم كذلك علم اليقين، أنها وحدها الطريق الموصلة لا طريق غيرها، فلا بديل لها، ولا غنى عنها. وهي الطريق التي سلكها النبي، صلى الله عليه وسلم، فكون بها الجيل الرباني النموذجي الذي لم تر عين الدنيا مثله، والذي تولى بعد ذلك تربية الشعوب وقيادتها إلى الحق والخير.

2. منهاج التربية محدد الأهداف، واضح الخطوات، معلوم المصادر، متكامل الجوانب، متنوع الأساليب، قائم على فلسفة بينة المفاهيم، مستمدة من الإسلام دون سواه.

3. جو جماعي إيجابي هيأته الجماعة، من شأنه أن يعين كل أخ مسلم على أن يحيى حياة إسلامية عن طريق الإيحاء والقدوة والمشاركة الوجدانية والعلمية. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته. فالجماعة قوة على الخير والطاعة، وعصمة من الشر والمعصية. "وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

4. قائد مرب بفطرته، وبثقافته، وبخبرته. وهبه الله شحنة إيمانية نفسية غير معتادة، أثرت في قلوب من اتصل به، وأفاض من قلبه على قلوب من حوله، وكان أشبه بـ "المولد" أو "الدينامو" الذي ملأ منه الآخرون "بطاريات" قلوبهم. والكلام إذا خرج من القلب دخل القلوب بغير استئذان، وإذا خرج من اللسان لم يجاوز الآذان. فصاحب القلب الحي هو الذي يؤثر في مستمعيه ومريديه. أما صاحب القلب الميت فلا يستطيع أن يحيي قلب غيره، ففاقد الشيء لا يعطيه، وليست النائحة كالثكلى.

5. عدد من المربين المخلصين، الأقوياء الأمناء، آمنوا بطريقة القائد، ونسجوا على منواله، وأثروا في تلاميذهم، ثم أصبح هؤلاء أساتذة لمن بعدهم ... وهكذا.

"ولست أعني بالمربين هنا خريجي المعاهد العليا للتربية، أو حملة الماجستير والدكتوراه فيها. وإنما أعني أناسا ذوي "شحنة" عالية من الإيمان، وقوة الروح، وصفاء النفس، وصلابة الإرادة، وسعة العاطفة، والقدرة على التأثير في الآخرين ... وربما كان أحد هؤلاء مهندسا أو موظفا بسيطا أو تاجرا أو عاملا، ممن لا علاقة به بدراسة أصول التربية أو مناهجها.

6. وسائل مرنة متنوعة، بعضها فردي، وبعضها جماعي، بعضها نظري، وبعضها عملي، بعضها عقلي، وبعضها عاطفي، بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، من دروس إلى خطب، إلى محاضرات، إلى ندوات، إلى أحاديث فردية، ومن شعارات تحفظ، إلى هتافات تدوي، إلى أناشيد تؤثر بكلماتها ولحنها ونغمها.

ومن لقاءات دورية لمجموعات مختارة في البيوت على القراءة والثقافة والعبادة والأخوة. سميت مجموعة منها "أسرة" إيحاء بمعنى الألفة والمودة بين أبناء العائلة الواحدة، إلى لقاءات أخرى في شعبة الجماعة غالبا، موعدها الليل، تتجدد فيها العقول بالثقافة، والقلوب بالعبادة، والأجسام بالرياضة. وسميت هذه "الكتيبة" إيحاء بمعنى الجهاد، إلى غير ذلك من الوسائل والطرائق التي تهدف إلى بناء الإنسان المسلم المتكامل."

(د. يوسف القرضاوي، التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا، ص 3-6).

تلكم كانت مذكرات من الرجل، وخلاصات عن فكرته، دالة على أنه كان إلى الله وبه ومعه وله، فكتب لدعوته الاستمرار، وكتب لها في القلوب وأرجاء الأرض القبول.

إنها صفحات على قلتها وقصورها وتقصيرها في الإحاطة بحياة من أبلى شبابه في طاعة الله، وأفنى عمره في الجهاد في سبيل الله، فهي شاهدة على رجل عاش طاهرا ومات طاهرا، وعلم بحياته وربى بموته رجالا وأجيالا صنعوا الحياة كما صنعوا الموت. شهادة بين يدي من يحمل عنهم قصب السبق، ويواصل مشوار البناء ليصنع التاريخ، ويعيد للأمة سابق عزها الذي افتقدته منذ حل العض محل الرشد، وانتقضت بحلوله عرا الإسلام عروة عروة من الحكم بما أنزل الله إلى الصلاة.

ولئن كانت هذه الصفحات بغير حاجة إلى التعليق لما فيها من أفكار واضحة، ومواقف صريحة، ومعاني ناصحة، وكلمات ناطقة معبرة عن روحانية الصديقين وطهارة الشهداء، وطاعة الصالحين، ناضحة راشحة، فإننا لا نعدم بيننا من يقرأها بعين كليلة، وعقلية عليلة، وقلوب بالغل مغلولة. هذا إن وجدت من يقرأها، وإلا فآفتنا القادحة أننا لا نقرأ، ونحكم قبل أن نتبين.

كما لا نعدم بين ظهرانينا من يقرأها قراءة نوعية تسبر غورها، وتكشف سرها، وتمكن أصحاب الحويصلات الضيقة من جواهرها المكنونة وكنوزها الدفينة.

حتى لا يضيع الدرس من بناء الإمام وجماعته بين جهل الجاهلين وتأويل المؤولين

يعلق الأستاذ عبد السلام ياسين على هذه الصفحات المشرقة من عمر الرجل وفكره وحركته التجديدية التربوية الجهادية بقوله: "كان (يعني الأستاذ البنا) صوفيا صحب الرجال وبايع الشيخ وتتلمذ للذاكرين وسافر مع الذاكرين وزار أضرحة الأولياء، وجالس المؤمنين، وحظي بدعوات الصالحين، وفصل كل ذلك في مذكراته.

"وكان بعدئذ مربيا صوفيا وضع لجماعته مأثورات يتلونها وظيفة في مجالس الذكر، واتخذ لهم وردا. وألح في كل مناسبة على الرابطة الروحية بين أعضاء الجماعة. وهذا ما لا يكاد يدركه حتى أصحاب البنا أنفسهم، لأن من رفقه، رحمه الله، ومن حسن اجتهاده أنه كان يعرف جماعته بأنها جماعة إسلامية ثقافية رياضية وما يشبه هذا من ضروب النشاط، ويجعل النعت الصوفي واحدا من نعوتها من بين صفات أخرى يفهمها الناس بلغة العصر على أنها حركة وجهاد وعلم ونشاط ومشاركة في الحياة العامة.

"كان من رفقه، رحمه الله، ومن حسن اجتهاده أنه تنصل من جل المصطلحات الصوفية، ليتجنب مواطن الغلط في ذهن أصحابه ومريديه الذين لا يعرفون من الصوفية إلا تكايا الانعزال، وحرفة أصحاب الأسمال.

"ورجع، رحمه الله، للكتاب والسنة، فيما يخطب ويكتب، ليتكلم بلغة جهادية هي لغة القرآن، طاويا تاريخ الإيمان والإحسان في زمن الفتنة الذي أصبح الصوفية أثناءه –القاعدون منهم- يتحدثون بلغة المناقب، وتأمل كرامات السابقين، يكتبها اللاحقون بغير دراية، فتفوتهم العبرة في حياة الأولياء من حيث تزكيتهم لأنفسهم وطلبهم لربهم بالفرض والنفل والاستقامة على الطريقة."

(ذ. عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص 449-450).

ثم يقول: "ودعا الأستاذ البنا بعد هذا لالتقاء العلماء والواعظين بالصوفية، ليبحثوا عن منهاج ليردوا الأمة إلى سواء السبيل، وتفاءل خيرا. لكن من يسميهم بعض الناظرين "صوفية الحقائق" هؤلاء الذين يتكلمون الكلام المعمي، ويدخلون الشك في عقائد المسلمين، لا تزال لهم سوق رائجة كما للمحترفين في الأدعياء، أولئك بضاعتهم الاسم والشارة والسبحة والعمامة، وكل يسبحون في فلك الكسل والجهل والمرض المزمن في هذه الأمة، مرض حب الرئاسة والظهور.

"وكأني بمن يقرأ مذكرات البنا وأخباره عن زمان إرادته وسلوكه الصوفي، يعتقد أنه يقرأ تاريخا طواه البنا يوم قام للدعوة. وإنك لتقرأ ما كتبه الإخوان المسلمون في مجلاتهم وكتبهم فلا تقرأ عن الصوفية إلا أحكاما سلبية تنبئ عن إغفال روحانية البنا ومصدرها ومصرفها في النظام التربوي للإخوان."

(الإسلام غدا، ص 451-452).

وقد أفاد الشهيد، رحمه الله، من تجربة الصوفية كثيرا من الأساليب التربوية الفعالة التي ضمنها نظامه التربوي، معبرا عنها بلفظ غير اللفظ، وهادفا إلى تحقيق معاني أسمى مرتبة وأبعد مرمى.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

"كان يبدأ بمبايعة تتضمن قراءة الأوراد والوظيفة إلى جانب الشروط الجهادية العامة.

بعد نحو عشر سنوات من قيام الدعوة نشر البنا منهاجا يلخص ما كان فصله في رسالة التعاليم.

يقول: الواجبات العشر: 1. حمل شارتنا، 2. حفظ عقيدتنا، 3. قراءة وظيفتنا، 4. حضور جلستنا، 5. إجابة دعوتنا، 6. سماع وصيتنا، 7. كتمان سريرتنا، 8. صيانة وصيتنا، 9. صحبة إخوتنا، 10. دوام صلتنا.

وكل هذه الواجبات يجمعها مفهوم الصحبة والجماعة، وهي تفصل شروط الصحبة والجماعة. فترى كيف ذهبت مصطلحات الصوفية في التعبير عن آداب المريد من الشيخ والفقراء. وحل محلها تعليم أكثر تفتحا على الحياة العامة، وأكثر جمعا لمعاني المحبة والنصيحة والتضامن والولاء الجماعي.

" (...) لاشك أن ما بناه الشاب المجاهد وما أصابه من نجاح وتوفيق كان كفاء لصدق الروحانية، وكفاء لعمل الليل والنهار، وكفاء للمحبة التي وصلت قلب مؤمن زكي بقلوب مساكين كانوا يعملون في بحر الظلمات قبل أن يرتفع لهم نور الهداية في طلعة البنا"

(المرجع السابق، ص 456-455).

إنها كلمات شاهدة بالحق إنصافا من رجل قرأ المذكرات قراءة متفحصة وأمينة، وقراءة تحليلية عميقة، وقفت بنا على مشرب البنا، رحمه الله، الصوفي الذي كان وكانت فكرته نسخة من نماذج أهل الله ودعواتهم منقحة من الانزوائية والانعزال، ومزيدة بالجهاد في سبيل الله، منطلقها ومقصدها طلب وجه الله على شرعة الله ومنهاج رسول الله لإعلاء كلمة الله في إطار عمل جماعي منظم ومدعم برباط روحي محكم أساسه المحبة.

والمحبة هي أًل شجرة الإيمان الثابت، وإلا فهو المنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

يقول الأستاذ حسان حتحوت متحدثا عن هذا المعنى عند الشهيد حسن البنا:

"وكان من الاصطلاحات الشائعة جدا على ألسنة أتباعه" المهم: الحب في الله". وكان يردد في درسوه: "سنقاتل الناس بالحب"، بل كانت البيعة التي صاغها لهم أن يعاهدوا الله على الاستقامة والمحبة والثبات على الدعوة"

(من مقال حول حسن البنا، حسان حتحوت، مجلة الأمة، العدد 55، ص 28).

هذه المحبة أو الصحبة بين الأستاذ وتلامذته المعززة بذكر الله اجتماعا عليه وانجماعا، هي كانت روح العمل، وكانت الجماعة جسده، وكانت الأصول العشرون عقله الضابط، والرسائل والوصايا في التعليم.

ويبقى السؤال الجوهري والجهوري في الآن ذاته، هل يملك جسد بلا روح أن ينمو، وعقل بلا روح أن يضبط، وجوارح بلا روح أن تنشط وتنفذ؟ إلا أن يكون هذا النمو اصطناعيا لا طبيعيا، ما يلبث أن يصبح انتفاخا ورميا وزبدا رابيا، ويكون هذا الضبط استجابة اضطرارية أو إكراهية أو مصلحية نفعية، بعيدا عن رقابة الله وخشيته. ويكون هذا النشاط حركة جوفاء وجعجعة بلا طحن، وتعبا ونصبا بلا طائل.

عودة إلى العنوان من جديد

والذي نأسف له أشد الأسف أن "مذكرات" البنا ورسائله قرئت قراءات أفقية سطحية أو انتقائية جزئية، بعقلية تأويلية أو تبريرية مصانعة لم تنفذ منها إلى بيت القصيد، أو ذهبت بها مذهبا آخر غير ما كان يروم الشهيد وغير ما كان يريد. فإذا كان الأعداء، من داخل مصر وخارجها، قد عملوا وسعهم على التشويش على دعوة الشهيد والتحريش ضدها بمكر الليل والنهار، فإن حساده كانوا، عن وعي منهم أو عن غير وعي، عونا لأولئك الأعداء على الشهيد، إن بشيطنة خرساء، أو بكذب وافتراء، أو بعداء واستعداء.

والمطالع في بعض الصحف والمجلات والكتب المسطرة بأقلام هؤلاء المكرة الحاسدين، أو ما نقل عنها في مذكرات الشهيد، رحمه الله، وبعض كتب الإخوان ومجلاتهم، سيلفي نفسه أمام ما يحز في النفس من نسل هذا الحسد الذي لا يحد، وسيف هذا الحقد الذي لا يغمد، وسيل هذا العداء الحالق الذي لا يرد، ولا ينفع معه رد.

يقول الدكتور توفيق علوان، مبينا كيف واجهت جماعة الإخوان المسلمين إشاعات المغرضين، بإيعاز من مرشدها الذي دعاهم إلى:

"الإعراض عن تفاهات مبشري الفتنة ومروجي التخاذل، والإعراض عن دعاويهم وأوهامهم، والانصراف إلى ما هو أنفع للإسلام وأجدى لنصرة الرسالة، وباختصار اعتماد سبيل المواجهة العملية، لا المواجهة الكلامية فحسب (...) بل إنه (يعني حسن البنا رحمه الله) حذر أشد التحذير من استفراغ الجهد والطاقة في تتبع المشاغبات التي يلجأ لها هؤلاء، إذ هم في شغل عظيم بوضع العراقيل، وإثارة الفتن. كأن شغلهم الشاغل هو إيقاف مسيرة الجماعة، دون أي تبرير أو سبب لكل ما يصنعون. بل ربما لجأوا لألد أعداء الإسلام يستنصرونهم على فعلهم الأثيم.

"فأنت إن شئت إقناعهم، أو مقارعتهم، فأنت تحرث في الماء، وتستنبت البذور في الهواء. فإن كنت جادا في السعي لنشر رسالتك، ماض لا تردد لأمر ربك، كان عليك ألا تضيع الوقت فيما لا طائل وراءه، بل اغتنمه واقتنصه فيما هو نافع مجد على الهدف الأصلي.

"يقول الإمام في مذكراته:

"تتعرض الدعوات في سيرها إلى كثير من الإشاعات والأكاذيب يطلقها المغرضون الذين امتلأت قلوبهم بالحسد والغيرة من العاملين للإسلام. فلا بد من اعتماد قاعدة مهمة في سير الدعوة العملي، وهي أن الإشاعة والأكاذيب لا يقضي عليها بالرد أو بإشاعة مثلها، ولكن يقضى عليها بعمل إيجابي نافع يستلفت الأنظار ويستنطق الألسنة بالقول، فتحل الإشاعة الجديدة وهي حق، محل الإشاعة القديمة وهي باطل"."

(د. توفيق علوان، نجم الدعاة حسن البنا، ص 121-122).

من هنا كان شق عنوان هذا الكتاب "حسن البنا بين ظلم حساده".

وأما أبناء حسن البنا، وهم من صحبوه، وعنه أخذوا، وفي حجر تربيته تلقوا دفء المحبة، ورضعوا لبان العلم النافع المنشئ للعمل الصالح، وتنسموا عبير اليقين في النبأ العظيم، وسمعوا صوت الحق الدال على الصراط المستقيم، فقد تدثروا بنعمة تلك الصحبة المباركة وحدهم، وشربوا كؤوسها خفيفة حلوة، حتى ارتووا وطعموا منها وانتشروا يسعون بنورها ويفيضون، وهي جارية في عروقهم جريان الماء في الجداول والكهرباء في الأسلاك.

وجزى الله خيرا الدكتور مازن فزوخ الذي أعد كتيب "ثوابت العمل الإسلامي عند الإمام الشهيد حسن البنا" مقدما له بكلمات، ومضمنا إياه، من كلام الشهيد، جملة من الأصول والرسائل والمذكرات، دالة على أن الرجل لم يكتب له القبول في ميدان الدعوة وقلوب الدعاة، إلا لأنه صحب وذكر، وجمع على الله قلب من هاجر وقلب من نصر، فربى وعلم وجاهد وغير.

يقول:

"فقد انتشرت الكتب الإسلامية الفكرية الحركية والدعوية في الأٍسواق وفي أيدي الناس، وكثرت، بالتالي، الآراء المطروحة حول المنهج السليم للعمل الإسلامي، ونسبت بعض تلك الآراء –عن حسن قصد- إلى الإمام الشهيد حسن البنا، مما أدى إلى حدوث بعض الالتباس عند بعض شباب الحركة الإسلامية، حتى إن بعضهم أخذ يحاكم قيادته إلى تلك الآراء، ويرى عدم تطبيقها انحرافا عن منهج الحركة الإسلامية الأًول، فكان لابد، بالتالي، من أن تقوم الحركة ببذل بعض الجهد في محاولة إخراج فكر الإمام الشهيد لأبنائها مجردا من الاجتهادات الشخصية والآراء الفردية، فكانت هذه الدراسة حول ثوابت العمل الإسلامي عند الإمام حسن البنا.

"إن المادة التي تحتويها هذه الدراسة ليست جديدة، وإنما هي خلاصة فكر الإمام الشهيد مقتبسة من مذكراته ورسائله وما نقله عنه ودونه بعض الإخوان القريبين منه".

 (ثوابت العمل الإسلامي عند الإمام الشهيد حسن البنا، إعداد الدكتور مازن فروخ، ص 5-6).

وأهيب بالقارئ الكريم أن يعود إلى الكتاب، ففيه ما يشفي الغليل، ويقف بك على آراء الإمام في مختلف القضايا والمسائل بأمانة ودقة دون تأويل أو تبديل أو زيادة أو نقصان. من هنا جاءت فكرة الشق الثاني من العنوان "وسهو أحفاده".

لو استقبلت من أمري ما استدبرت

وإذا كان حسن البنا قد قال في آخر أيام حياته قولته المشهورة: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت بالإخوان المسلمين إلى أيام المأثورات"، فلأنه علم علم يقين أن "المترفين أصحاب المنصب والثروات لا يتحركون إلا في آخر الركب، ويلتمسون مع ذلك الصدارة والرئاسة، ويفسدون العمل الصالح بنياتهم المترفة (...).

"كان أتباع البنا الأول من المساكين، من العمال والفلاحين، يبدأون بتواضع تلمذتهم للشيخ، يتعلمون الوضوء والصلاة يجمعون القروش ليبنوا لله بيتا. ولقد كاد البيت يكون أمة منبعثة لولا أن هب مترفو الفكر والمال والجاه يجرون خلف الزعيم الناجح، ويرهقون جهاده.

وكان رجل دعوة ليس له أن يستعمل وازع السلطان، ليعيد تربية المترفين (...) وكانت المطالبة السياسية بديل الأسف عن تلك التربية المتكاملة التي أنِشأها مجدد هذا القرن (الرابع عشر) وإمامه، رضي الله عنه، وجازاه عن المسلمين خيرا (...).

"ولا يزال عمل البنا وأصحابه خميرة ونموذجا عمليا يصرخ فينا أن الإسلام الفكري إسلام مبتور، وأن ذكر الله وصحبة أهل الله هي المنهاج، إن أقامها العلم على منهاج الجهاد والدعوة على بصيرة".

(الإسلام غدا، ص 457).

رحم الله حسن البنا، ورحمنا بذكره، ونفعنا بعلمه، وجعلنا على أثره وقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأحبابه، لنكون على شرعة الله ومنهاج نبيه. ورد الله كيد أعدائه في نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، ونبه حساده وحساد جماعته إلى صفاء القلب وفضيلة العدل والإنصاف، والتبين والاستيضاح، والشهادة بالقسط وعدم غمط الناس حقوقهم، وبخسهم أشياءهم، والنظر إليهم بأعين الأعداء أو استعداء الظالمين عليهم بالمكر والدهاء "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" (فاطر، 43) "ومكر أولئك هو يبور" (فاطر، 10).

وهدى الله أحفاد الشهيد للعودة إلى كتبه وسيرته، ومذكراته وأقواله ورسائله، للتعرف على شخصيته عن قرب، ومعاينة فكرته عن كثب.

وليتبين لهم أن الدعوة إلى الله تربية وعلم وجهاد، وأنها نسبة قلبية إلى أهل الله المؤمنين المتقين المبشرين الذاكرين وسط الغافلين، القائمين وسط النائمين، الصائمين وسط المتخمين، المجاهدين وسط القاعدين، الصادعين بالحق وسط الشياطين الخرس الصامتين، الرجال المحسنين الذين سبقت لهم من الله الحسنى فاستيقظوا، وإلى الله عادوا، ثم أحسنوا فنالوا الحسنى وزيادة، وتابوا واستغفروا، وذلوا لله وانكسروا، واعترفوا بذنوبهم وأقروا، واضطروا إلى الله وفروا، وسارعوا إليه وبادروا، ثم عبدوا الله بالفرض والنفل تقربا، وجاهدوا أنفسهم حملا لها على ما تكره من ترك فضول الكلام ابتغاء البهاء، وعن فضول المزاح ابتغاء الهيبة، وعن الاشتغال بعيوب الغير ابتغاء إصلاح عيوب النفس، وعن حب الدنيا ابتغاء حب الآخرة، وعن التجسس في كيفية الله تعالى ابتغاء البراءة من النفاق، كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه.

إننا نريد من قراء هذه الشهادات عن الإمام ومنه، أن يقرأوها بعيون قلوبهم لا بشحمة أبصارهم، لكي توقد في جنانهم وسنان الإيمان، وتوقد في جنوبهم جذوة الإحسان، علنا نهب ملتاعين، علنا نخرج إلى صعدات العمل المضني الشاق على النفس نجأر خائفين طامعين، سائلين الله أن يقيض لنا مثلما قيض الله حسنا البنا للإخوان المسلمين حسن البناء الخبير المنيب، الصادق الذاكر المنعم عليه، الجليس الصالح، الخليل الفالح، الرفيق الناصح، الدليل المنهض، العالم العامل المجاهد.

ويا سعادة من بحث فوجد، وزرع فحصد، وعرف ما قصد فهان عليه ما وجد، وإلا فإن كنت عالما مستغنيا، ووليا سويا، فالكلام مع غيرك من الفقراء المحتاجين إلى من يأخذ بأيديهم إلى الله، ومن مات ولم يفز بالله فلا نهاية لحسرته.

نسأل الله أن ينزل على حسن البنا شآبيب رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعله من الخالدين في نعمة النظر إلى وجهه. وأن يجلسنا وإياه على منابر من نور على سرر متقابلين في أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين.

ونسأله تعالى أن يقيض لأمة خير البشر رجالا في هذا القرن الخامس عشر على التجديد أقدر، وبه أجدر. وإننا في هذا الواقع المنكر لأمام عقبات كأداء، وتحديات كبيرة، والله أكبر.

كما نرجوه، سبحانه، أن يجعلنا على قدم أحبابه، وأن يجمعنا وإياك، أخي القارئ، مع أوليائه وأصفيائه، مستخلفين قائمين لله بالحق، شاهدين بالقسط، مؤمنين أقوياء أمناء ثابتين في رباطهم لا يتزعزعون عن جادة الحق مهما كانت العقبات. وأن يستعملنا في دعوته لتغيير ما بأنفسنا إحسانا، وتغيير ما بالأمة عدلا، بما يناسب العصر وعقباته، وتحدياته ومستحقاته. إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير. نعم المولى ونعم النصير.

والصلاة والسلام على خير الورى، من نبت في أم القرى فأوثق الله به العرا، محمد أفضل من مشى فوق الثرى. وعلى آله البررة وخلفائه وباقي العشرة المبشرة، وصحبه أولي السبق والهجرة والنصرة، وإخوانه وحزبه إلى يوم الدين.

والحمد لله رب العالمين

انتهى بفاس يوم الخميس فاتح جمادى الأولى 1418هـ.

حسن البنا حسن البناء

حـسـن البناء وفي فؤادي iiلوعة
وفـسـوق  حـساد رموك iiببدعة
وجمعت إخوان الصفاء على التقى
أنـجـبـت أبـناء سعدت ببرهم
لـكـن  أحـفادا نسوك وما iiدروا
خـل عـلـى دين الخليل إذا iiوفا
لـو  أنصفوا لاستقبلوا من iiأمرهم
جـددت  ديـنـا للعباد من iiالبلى
يـا  لـيت شعري من يجدد iiديننا
حـسـن  الـبناء وسيدا قطبا iiبه
عـودا  عـلـى بدء الهداية iiبعثة
ثـم الـصـلاة عـلى النبي وآله











مـن  كـيـد ظـلام وخسة حاقد
أن  فـزت بالإحسان صحبة iiعابد
وعـلى  الفداء وكنت خير iiمجاهد
والابـن  يـشـرف إذ يبر iiبوالد
أن  الـمـعـيـة لا تكون iiلجاحد
لـيـس  الـخليل إذا أخل iiبراشد
مـا  استدبروا من صحبة ومحامد
فـسما وعاد إلى الصفاء كما iiبدي
لـخـلافـة أخـرى بقومة iiشاهد
نـحيي الورى بمثال حكم iiراشدي
بـأعـزة شـم الأنـوف iiأمـاجد
والصحب ما حن المشوق إلى iiغد