صفات المؤمنين وجزاء المتقين
رضوان سلمان حمدان
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ
ابتدأت السورة الكريمة بذكر أوصاف المتقين، وابتداء السورة بالحروف المقطعة {الم} وتصديرها بهذه الحروف الهجائية يجذب أنظار المعرضين عن هذا القرآن ، إِذ يطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظٌ غير مألوفة في تخاطبهم ، فينتبهوا إِلى ما يُلقى إِليهم من آياتٍ بينات ، وفي هذه الحروف وأمثالها تنبيهٌ على "إِعجاز القرآن" فإِن هذا الكتاب منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم ، فإِذا عجزوا عن الإِتيان بمثله ، فذلك أعظم برهان على إِعجاز القرآن .
يقول العلامة ابن كثير رحمه الله : إِنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السورة بياناً لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، مع أنه مركَّب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وهو قول جمع من المحققين ، وقد قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف ونصره أتم نصر، وإِليه ذهب الإِمام "ابن تيمية" ثم قال : ولهذا كلُّ سورة افتتحت بالحروف ، فلا بدَّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن ، وبيانُ إِعجازه وعظمته مثل {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ} {المص* كِتَابٌ أُنزِلَ} {الم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} {حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} وغير ذلك من الآيات الدالة على إِعجاز القرآن .
ثم قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} أي هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم.
ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها.
قال ابن عباس: إِقامتُها: إِتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال.
قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إِلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي يصدقون بكل ما جئت به عن الله تعالى {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي ويعتقدون اعتقاداً جازماً لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا.
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يتصفون بصفات المؤمنين وينالون جزاء المتقين.
يقول صاحب الظلال – رحمه الله تعالى – " إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب , والقيام بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة ، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ، ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة ، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام .
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا . .
(الذين يؤمنون بالغيب). . فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا الوجود ; ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي , ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود , وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ; فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ; ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ـ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول .
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان , وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض , فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة , تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجملها , على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول . فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها , دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول . . فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا , ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثه لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال . . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى ، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل ; وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ; وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ; وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن , والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين .
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان , كجماعة الماديين في كل زمان , يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا "تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة ، صفة : (الذين يؤمنون بالغيب)والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين !
(ويقيمون الصلاة). . فيتجهون بالعبادة لله وحده , ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد , وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد ; والقلب الذي يسجد لله حقا ، ويتصل به على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق . . وهذا كله مصدر قوة للضمير , كما أنه مصدر تحرج وتقوى , وعامل هام من عوامل تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ، ربانية الشعور ، ربانية السلوك .
(ومما رزقناهم ينفقون). . فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم , لا من خلق أنفسهم ; ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق , والتضامن بين عيال الخالق , والشعور بالآصرة الإنسانية , وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح , وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن , وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر , وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس , لا بين أظفار ومخالب ونيوب !
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله [ ص ] بإسناده لفاطمة بنت قيس " إن في المال حقا سوى الزكاة " . . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) . . وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة , وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية , والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية , ووحدة دينها , ووحدة رسلها , ووحدة معبودها . . قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . . قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام
(وبالآخرة هم يوقنون) . . وهذه خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء ; والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا , وأنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى ; وأن العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئن قلبه ، وتستقر بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ، وإلى عدل الله روحمته في نهاية المطاف .
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب . بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا الحيز الصغير المحدود .
وكل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة الإنسانية , ومن ثم كانت هي صفات المتقين . وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا ، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة . فالتقوى شعور في الضمير ، وحالة في الوجدان ، تنبثق منها اتجاهات وأعمال ; وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة ; وتصل الإنسان بالله في سره وجهره . وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلي الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة ، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول . ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن ، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة ، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه . ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها ، وجعلها صلة بين العبد والرب . ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا بالإخاء . ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق ، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة . ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين . . وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك , مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما . شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها . ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة البشر جميعا . . ومن ثم كان هذا التقرير:
(أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون). .
وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا . والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم .