حتى الكوخ احترق  !! .

حتى الكوخ احترق  !! .

محمود القلعاوي

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

[email protected]

هبت عاصفة شديدة على سفينة فى عرض البحر فأغرقتها.. ونجا بعض الركاب .. منهم رجل أخذت الأمواج تتلاعب به حتى ألقت به على شاطئ جزيرة مجهولة و مهجورة ما كاد الرجل يفيق من إغمائه و يلتقط أنفاسه .. حتى سقط على ركبتيه و طلب من الله المعونة والمساعدة و سأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم .. مرت عدة أيام كان الرجل يقتات خلالها من ثمار الشجر و ما يصطاده من أرانب ، و يشرب من جدول مياه قريب و ينام فى كوخ صغير بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل و حر النهار .. و ذات يوم  أخذ الرجل يتجول حول كوخه قليلا ريثما ينضج طعامه الموضوع على بعض أعواد الخشب المتقدة ، و لكنه عندما عاد فوجئ بأن النار التهمت كل ما حولها ..

فأخذ يصرخ :-  لماذا يا رب ؟ .. حتى الكوخ احترق .. لم يعد يتبقى لي شيء في هذه الدنيا و أنا غريب في هذا المكان .. والآن أيضاً يحترق الكوخ الذي أنام فيه .. لماذا يا رب كل هذه المصائب تأتى علىّ  ؟!!  ..

و نام الرجل من الحزن وهو جوعان ، و لكن فى الصباح كانت هناك مفاجأة فى انتظاره .. إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة و تنزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه .. أما الرجل فعندما صعد على سطح السفينة أخذ يسألهم كيف وجدوا مكانه فأجابوه :- لقد رأينا دخاناً، فعرفنا أن شخصاً ما يطلب الإنقاذ !!! .. فسبحان من علِم بحاله ورأى مكانه.. سبحانه مدبر الأمور كلها من حيث لا ندري ولا نعلم.. وصلتنى هذه القصة من خلال رسالة على بريدى الإلكترونى ..

قاعدة عظيمة

نعم قاعدة عظيمة لحياتنا ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ... ) سورة البقرة 216 .. فتقدير الله كله لنا خير وإن ظهر فى أوقات أنه شر .. فسبحانه الرحيم بنا .. فكم من محنة كانت في حقيقتها منحة وكم من بلاء تجلى بعد ذلك عن نعماء لذلك ختم الله الآية بقوله ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون )  ..  وصدق الشاعر حين قال :-

ربَّ أمـرٍ تـتـقيـه *** جـرَّ أمـراً تـرتضـيه

خـفي المحـبوب منـه *** وبـدا المكـروه فيــه

حكم وأسرار ومصالح للعبد

فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب .. والمحبوب قد يأتي بالمكروه .. لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة .. ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب ..

فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد .. وأوجب له ذلك أموراً :-

منها :- أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه الابتداء .. لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح .. وإن كرهته بنفسه فهو خير لها وأنفع ..

وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه .. فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب .. وخاصية العقل تحتمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير .. واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل ..

فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غايتها .. والعاقل الكيس دائماً ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها .. فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة .. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل ..  فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم .. ويرى الأوامر كدواء مرّ كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء ..وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول .. من كلمات الدكتور عائض القرنى ..

أليسَ هذا أسوأ شيءٍ يُمكن أن يحدثَ لي  ؟

يُروى أن عجوزاً حكيماً كانَ يسكُنُ في إحدى القُرى الريفيةِ البسيطة .. وكان أهلُ هذه القرية يثقونَ بهِ وبعلمهِ  .. ويثقونَ في جميعِ إجاباتِهِ على أسئلتهم ومخاوفهم ..

وفي أحدِ الأيام ذهبَ فلاحٌ مِن القرية إلى هذا العجوز الحكيم وقال له بصوتٍ محموم :- أيها الحكيم.. ساعدني .. لقد حدثَ لي شيءٌ فظيع.. لقد هلكَ ثوري وليس لدي حيوانٌ يساعدني على حرثِ أرضي!!..

أليسَ هذا أسوأ شيءٍ يُمكن أن يحدثَ لي ؟

فأجاب الحكيم : ربما كان ذلك صحيحاً وربما كان غير ذلك .. فأسرعَ الفلاّح عائداً لقريته .. وأخبر الجميع أن الحكيمَ قد جنّ، بالطبع .. كان ذلك أسوأ شيءٍ يُمكن أن يَحدُثَ للفلاّح .. فكيف لم يتسنَّ للحكيم أن يرى ذلك !!.

إلا أنه في اليومِ ذاته .. شاهدَ الناس حصاناً صغيراً وقوياً بالقُربِ مِن مزرعةِ الرجل .. ولأن الرجلَ لم يعُدْ عِنده ثورٌ لِيُعينهُ في عملِهِ .. راقتْ له فكرةُ إصطياد الحصان ليَحلَّ محل الثور.. وهذا ما قام به فعلاً.

وقد كانت سعادة الفلاحِ بالغةً.. فلم يحرث الأرضَ بمِثلِ هذا اليُسر مِن قبل .. وما كان مِن الفلاّح إلا أن عاد للحكيم وقدّم إليه أسفهُ قائلاً :- لقد كنتَ مُحقاً أيها الحكيم.. إن فقداني للثور لم يكُن أسوأ شيءٍ يُمكن أن يحدثَ لي .. لقد كان نعمةً لم أستطعْ فهمها، فلو لم يحدث ذلك لما تسنّى لي أبداً أن أصيد حِصاناً جديداً .. لابد أنك توافقني على أن ذلك هو أفضل شيءٍ يُمكنُ أن يحدث لي!!!

فأجاب الحكيم : ربما نعم  .. وربما لا ..

فقال الفلاح لنفسه  :- لا .. .. ثانيةً  !!

لابد أن الحكيم قد فقد صوابه هذه المرة  .. وتارةً أخرى لم يُدرك الفلاّح ما يحدث .. فبعد مرورِ بضعة أيامٍ سقط إبن الفلاح مِن فوق صهوة الحصان فكُسرت ساقه .. ولم يعُدْ بمقدوره المساعدة في أعمال الحصاد ..

ومرةً أخرى ذهب الفلاّح إلى الحكيم وقال له :- كيف عرفتَ أن اصطيادي للحصان لم يكنْ أمراً جيداً؟؟.. لقد كنتَ أنتَ على صواب ثانيةً، فلقد كُسرت ساقُ ابني ولن يتمكن مِن مُساعدتي في الحصاد... هذه المرة أنا على يقين بأن هذا أسوأ شيءٍ يُمكن أن يحدثَ لي، لابد أنك توافقني هذه المرة...

ولكن.. وكما حدثَ مِن قبل، نظرَ الحكيم إلى الفلاّح وأجابه بصوتٍ تعلوه الشفقة:- ربما نعم.. وربما لا

استشاط الفلاّح غضباً مِن جهل الحكيم وعاد مِن فوره إلى القرية، وهو غيرُ مُدركٍ لما يقصده الحكيم من عبارته تلك ..

وفي اليوم التالي..قدم الجيش واقتاد جميع الشباب والرجال القادرين للمشاركة في الحرب التي اندلعت للتو، وكان ابن الفلاح الشاب الوحيد الذي لم يصطحبوه معهم لأن ساقه مكسورة.

ومِن هنا كُتبت له الحياة في حين أصبح مصير الغالبية من الذين ذهبوا للحرب أن يلقوا حتفهم