قدوة القيادة في الإسلام 34
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الرابعة والثلاثون : حبّ القائد لجنوده
د. فوّاز القاسم / سوريا
لقد كانت العلاقة التي تربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأحبابه وجنوده ، مثالاً فريداً ، ونموذجاً رائعا ، لعلاقة القائد مع جنوده ، والداعية مع إخوانه ، والمربي مع أتباعه .
ولقد سجلت صفحات السيرة المطهرة ، أنماطاً من هذه العلاقة ، كان يعزُّ على البشرية مجرّد تصوّرها ، لولا أنها حدثت فعلاً وواقعاً وسلوكاً .
ولقد كان من أعظم ثمار تلك السيرة العطرة ، وتلك العلاقة المباركة،
أن خرَّج النبي الكريم ، صلى الله عليه وسلم ، ذلك الجيل القرآني الفريد ، الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً ، والذي غيَّر بتضحياته خارطة العالم ، وعدَّل بجهاده مسار التاريخ .
ولعل من أهم مظاهر تلك العلاقة الكريمة :
حبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وجنوده ، ورحمتُه بهم ، وحرصُه عليهم ، ونصحُه لهم ، واستغفارُه لهم :
لقد رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة ، حب الرسول صلى الله عليه وسلم لقومه عموماً ، وحرصه على هدايتهم ، ونصحه لهم ، وصبره على أذاهم ، ولطالما وقف يخاطب قومه ويقول : (( ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليَّ كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلَّغتكم رسالات ربي ، ونصحتُ لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردُّوه عليَّ ، أصبر لحكم الله ، حتى يقضيَ بيني وبينكم )). بوطي ص ( 112 )
ولقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم ، في المرحلة المكية ، ذاخرة بالمواقف الرائعة ، التي تدلل على عمق العلاقة بينه وبين قومه .
ومن باب أولى ، أن يكون حبه لأصحابه أشدّ ، وعلاقته بهم أعمق ، فلقد كان صلى الله عليه وسلم عظيم الحب لجنوده وإخوانه ، شديد الحرص عليهم ، كثير الاستغفار لهم ، وكذلك كانوا هم أيضاً .
ولقد سجل القرآن العظيم ، أشكال تلك العلاقة النبيلة ، بعشرات الآيات البيّنات منها :
_ (( لقد منَّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) . آل عمران ( 164 )
_ (( محمَّدٌ رسولُ الله والذين معه ، أشدَّاءُ على الكفَّر رحماءُ بينهم،
تراهم ركَّعاً سُجَّداً ، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً )). الفتح(29)
_ (( فبما رحمةٍ من الله لنتَ لهم ، ولو كنتَ فظَّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا من حولك ، فاعفُ عنهم ، واستغفرْ لهم ، وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله ، إنَّ الله يحب المتوكلين )).
آل عمران (159)
_ (( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم ، عزيزٌ عليه ما عنتّم ، حريصٌ عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم )). التوبة (128)
ولقد كانت السيرة العطرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم ، ترجمة حية لمعاني الوحي تلك .
ولقد شهد له بذلك التاريخ شعراً ونثراً ، فلقد قال فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته الرائعة :
عزيزٌ عليه أن يجوروا عن الهدى حريصٌ على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوفٌ عليهم لا يُثَنّي جناحَه إلى كنفٍ يحنو عليهم ويَمهدُ .
ولقد كان هذا الحب ينعكس منه صلى الله عليه وسلم ، في كل حركة من حركاته ، وفي كل سكنة من سكناته ، و في كل كلمة تصدر عنه، وفي كل همسة تخرج منه ، وكان يطفح في تعامله اليومي مع كل فرد فيهم ، ويتجلَّى أكثر في قيادته لغزواتهم ، وفي تسييره لسراياهم، و في إرساله لدعاتهم ، وفي استقباله لوفودهم .
كان إذا أرسل وفداً من أصحابه لمهمة دعويه أو جهادية ، يظل يرقبهم في قلق ، ويدعو الله أن يوفقهم ، حتى يعودوا إليه .
فلقد أرسل معاذ بن جبل ، مع مجموعة من إخوانه ، إلى اليمن ، فما زال يوصيهم بأهل اليمن خيراً : (( يسِّروا ولا تعسِّروا ، وبشِّروا ولا تنفِّروا )) . وكذلك فعل مع أهل اليمن أنفسهم ، إذ أرسل إليهم رسالة يوصيهم فيها بأصحابه وأحبابه ، ويعلمهم فيها بمدى حبه لهم ، وحرصه على سلامتهم ، فلقد أورد ابن هشام في رسالته الشهيرة صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قوله : (( أما بعد ، فإن رسول الله ، محمداً النبي الأمّي ، أرسل إلى زرعه ذي يزن ، أن إذا أتاكم رسلي ، فأوصيكم بهم خيراً ، معاذ بن جبل وأصحابه ، فلا يَنْقَلبُنَّ إلا راضين )). هشام 2 ( 590 )
ولما غدرت قبائل عُضَل والقارة وبعض قبائل نجد ، بإخوانه من أصحاب الرَّجيع وبئر معونة ، حزن الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم حزناً عظيماً ، وصار لا يهدأ له بال ، ولا يغمض له جفن ، ويعدّ العدّة ليثأر لهم ، إلى أن أرسل سراياه لتأديب تلك القبائل فعلاً .
وظل يدعو على تلك القبائل في قنوته شهراً كاملاً .
وكان يسامح من يخطئ من أصحابه ، ولا يحقد عليه ، بل يدعو الله أن يسامحه ، ويغفر له .
ويفرح كثيراً لتوبة الله على أحد من أصحابه ، أو براءته ..
قال ابن إسحاق يروي قصة توبة الله على أبي لُبابه :
حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط : أن توبة أبي لُبابه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السَّحَر ، وهو في بيت أم سلمة ، قالت : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السَّحر وهو يضحك . قالت : فقلت : ممَّ تضحك يا رسول الله ، أضحك الله سنَّك؟
قال : تيب على أبي لُبابه ؛ قالت : قلت : أفلا أبشِّره يا رسول الله ؟
قال : بلى ، إن شئت . هشام 2 (237)
وكذلك فعل عندما تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا في تبوك .
فلقد أورد ابن إسحاق أيضاً ، عن كعب بن مالك ، وهو أحد أولئك الثلاثة ، ما مختصره : قال : فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ووجهُه يبرق من السرور : أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمك . هشام 2 (536)
ولقد فرح لبراءة عائشة رضي الله عنها ، مما رماها به أصحاب الإفك ، فرحاً لا يُوصف ، فلقد أورد ابن هشام ، عن عائشة رضي الله عنها وهي تقص خبر هذه المأساة الفاجعة ما مختصره :
قالت : ثم سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدَّرُ منه مثل الجُمان ، في يوم شات ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقولُ فرِحاً : أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك. هشام2(301)
ولم يكن حبه وعطفه ، صلى الله عليه وسلم ، يقتصر على الأحياء من أصحابه ، بل كان يتعداهم إلى الأموات أيضاً .
فلقد أورد ابن إسحاق ، وهو يتحدث عن بدء شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم ، في مرضه الذي تُوفي فيه ، قال :
فكان أول ما ابتدئ به من ذلك ، فيما ذُكر لي ، أنه خرج إلى بقيع الغرقد ( مقبرة المدينة )، من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح أبتُديء بوجعه من يومه ذلك . هشام ( 642 )
ولا أستطيع أن أُنهي هذه الفقرة ، وأنا أتحدث عن حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وفرحه بهم ، حتى أعرض هذه اللقطة المدهشة ، التي صورت مشاعر النبي الكريم ، صلى الله عليه وسلم ، وهو يصارع سكرات الموت :
قال ابن إسحاق : وقال الزهري : حدثني أنس بن مالك : أنه لما كان يوم الاثنين ، الذي قبض الله فيه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، خرج إلى الناس ، وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر ، وفتح الباب ، وخرج فوقف على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم ، حين رأوه فرحاً ، وتفرَّجوا ( أحدثوا فرجة له ليتقدم ) ، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم ؛ قال : فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سروراً لما رأى من هيأتهم في صلاتهم ، وما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن هيأة منه تلك الساعة . هشام 2 ( 653 )
ولقد كانت هذه الإطلالة منه صلى الله عليه وسلم ، بمثابة نظرة الوداع الأخيرة ، حيث كانت آخر العهد بينه وبين أصحابه .
اللهم نشهد بأن رسولك الكريم قد بلّغ الرسالة ، ونصح للأمة ، وكان بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فجازه اللهم خير ما جازيت نبيّاً عن أمته ، وهيء لنا من العلماء العاملين ، والقادة المجاهدين ، من يسلك فينا سبيله ، وينهج نهجه ، ويجاهد جهاده، ويسير على دربه.