غلامُ تجيب
وعي مبكر
عدنان عون
لم يغن العرب اجتماعهم على حرب محمد (صلى الله عليه وسلم ) و رميهم له عن قوس واحدة ، فقد استطاع الاسلام أن يضرب بجرانه في أرض الجزيرة و أن ينتصر على العرب ، فجاءته وفودهم تعلن الإسلام ،وتقدم الطاعة لله ورسوله،ولم يكن في وفود العرب أوعى ولا أعقل ولا أحسن مقدماً من وفد (تجيب) ،وهم بطن من كندة .
وقد وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) باسلام صادق وإيمان مخلص وسلوك مهذب ،يسوقون بين أيديهم ،"حق الله في أموالهم". فلما قال لهم رسول الله "ردوها إلى فقرائكم" قالوا :"يا رسول الله،ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا ".
أعجب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ،بهم، وسر سروراً عظيماً، فأحسن ضيافتهم ، وأكرم منزلتهم ، ثم سألهم : "هل بقي منكم أحد ؟ " قالوا : نعم غلام خلفناه في رحالنا
هو أحدثنا سناً. فقال (صلى الله عليه وسلم ) : " أرسلوه إلينا " . انطلق الغلام يلبي دعوة الرسول ،ويطفئ برؤيته ولقائه ظمأ الشوق إلى مقابلته . فلما دخل عليه، قال :يا رسول الله اقض حاجتي .. قال : وما حاجتك ؟ قال :يا رسول الله حاجتي ليست كحاجة أصحابي ،وإني ـوالله ـ ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله ، أن يغفر لي ويرحمني ، وأن يجعل غناي في قلبي ألا ما أعظم أمني العظماء ،وما أبعد غاياتهم .إن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة ، فكيف يكون لهم مطلب من مطالبها ؟
أكبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) الغلام ،ودعا له : " اللهم اغفر له وارحمه ، واجعل غناه في قلبه " ترى من جعل الله غناه في قلبه ،هل تستهويه الدنيا ،ولعاعاتها ؟
وعاد وفد "تجيب" إلى قومهم يسمعونهم ما سمعوا من توجيهات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وتمضي الأيام ، ويشتاق القوم إلى رسول الله ،فيوافونه في الموسم ،فيسألهم : ما فعل الغلام ؟ قالوا : ما رأينا مثله ،ولا أقنع منه بما رزقه الله ،ولو أن الناس اقتسموا الدنيا ، ما نظر نحوها ، ولا التفت إليها ..سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) شهادة القوم بالغلام ،فقال : "الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعاً . .فقال أحدهم :أو ليس بموت الرجل جميعاً ؟ فقال (صلى الله عليه وسلم ) ـ يشرح مدلول كلمته ـ : " تتشعب أهواؤه ، وهمومه في أودية الدنيا ، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية ، فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك "
اللهم اجمع علينا أمرنا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ،ولا مبلغ علمنا ،واجعل غنانا في قلوبنا ،واختم لنا بخاتمة السعادة.