شُغل القلب بالله سبحانه

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

الحمد لله رب العالمين ، حمدا لك يا رب في أوصافك وأفعالك ، وفي ذاتك وأسمائك وصفاتك ، وفي جمالك وجلالك وكمالك ، وصل اللهم وسلم على سِرِّك الساري نوره ومعانيه في كل عوالم الوجود ، رحمة العالمين من رب العالمين ، إلى العالمين ، نرضى ياربنا بما رضيته لنا فالرضا من الرضى ، ونعوذ بك من أن نختار من عند أنفسنا بما نجهل ، وبما لا يرضيك ، كما نعوذ بك من أنفسنا قول حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) (أشد أعدائك نفسك التي بين جنبيك ) ، ونعوذ بك منك سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثتيت على نفسك ، سبحانك أنت مولانا وما عبدناك حق عبادتك ، عليك توكلنا وإليك مآلنا ومنقلبنا ، وإليك المصير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .

يا رب ..... يا رب ..

منك الجمال ومني اللحن والشادي

 يا خمرة الحب في كاسات إنشادي

أنا الآن أناديك

 وبعد الآن أناديك

 وقبل الآن أناديك

جوف الليل محتملا

 جوع الغرام

 وأشواق الهوى زادي

أناديك والأطياف تدفعني

 في عالم الحب من واد ٍ إلى وادِ

يا خمرة الحب في كاسات إنشادي

اعلم أخي وفقك الله إليه ، أن الشغل به عمن سواه ، ليس عملا هيّنا ، لأن الشغل بالله هو في حقيقته مكابدة المنازل والأهوال ، في طريق السالكين إلى الله رب العالمين ، طريق فيه الجمال بالجلال ، والجلال بالجمال ، والقبض بالبسط ،  والبسط بالقبض ، يتعاقبان تعاقب الليل والنهار، طريق شاق وعر على الأنفس والأهواء ، سهل على القلوب والأرواح لمن سهله الله عليه ، العبد السالك فيه محفوفا بعناية مولاه التي لا ينضب معينها ، ولا يجف ولا ينقص ينبوعها ، فهُم في رحاب الحق على الدوام ، في حضرة القرب بحب وانسجام ، أقرب من حبل الوريد ومن شراك أحدنا ، سبحانه إنه الله رب العالمين .

عبد سالك لربه ، صدق الله فصدقه الله ، وما شاح وجهه ليشيح عنه ، فمن صحّ منه التوجه إلى مولاه ، صحّ من مولاه الإقبال إليه ، فمن جاء إلى ربه ماشيا أتاه ربه هرولة ، ومن جاءه هرولة أتاه سبحانه جاريا مسرعا ،( لو يعلم المعرضون عني )،( إن الله يفرح بتوبة أحدكم) ، بالشكل الذي يليق بكماله فلك الحمد يا رب ، ويَنزل من الليل نزولا  يليق بمقامه ، مخاطبا مَن خلق :( هل من تائب فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه حاجته ؟ .)

انظر يا أخي من أنت ؟ حتي ينزل الله ويخاطبك ، ثم مِن بعد أن تستجيب له يجالسك ، ( أنا جليس من ذكرني ) ( وهو أقرب إليكم من حبل الوريد ) .

 فانظر بربك من أنت ؟ حتى يفعل الحق معك ذلك كله ، وهو الغني عنك ، خيرُهُ نازل إليك وشرك صاعد إليه .

إن شغل القلب بالرب سبحانه ، أعظم من أن تحيط به إشارة أو عبارة أو مقالة ، يقطع السالك إلى ربه من المقامات ما الله أعلم بها ، وتعتريه من الأحوال ما الله أعلم بأسرارها ، تنكشف عنه من الحجب والأستار فيرى ويعلم ، ويجد ويتذوق ، ويدرك ويعاين ، ويجالس ويكالم ما الله به أعلم وأكرم ، فهو القتيل في حبه والغارق في بحور معانيه .

قالت أنصار الدياجي

قل لأرباب الغرام

كل من يعشق محمد

ينبغي ألا ينام

صلى الله وسلم عليك يا حبيبي يا محمد يا رسول الله

يستجيب قلبه لكل نداء ، ولا نداء هنا غير نداء الود فوق الحب ، ويقطع المسافات ويطوف بالعوالم والأكوان ، ( خُض بحر المعاني لعلّك تراني ) فانيا بربه ، يرى كل ما في الوجود لغة للملك المعبود ، وإشارة وآية ( أإلهٌ مع الله ؟) سبحانه ، أتقن فهمها وتأدب مع معانيها ، ولو شاء ربك ما فعلوه ،( وكان فضل الله عليك عظيما ) ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) .

هو بين يديه ، وفي حضرته على الدوام ، من غير انفصال أو انقطاع ، عرش ربه في قلبه ، تطوف فيه الملائكة الزائرون ، كما يطوفون في البيت المعمور ، يُنادى عن قرب وعن بعد فيلبي النداء ، فالقرب بعد والبعد قرب لمن عرف بالدليل والبرهان ، ولا يفهم المعنى إلا من هو معنى وكان معنا ، منشغلا بربه مستسلما له منيبا إليه ، يقلبه كيفما يشاء كما تقلب الأم بحنانها وبحبها طفلها ورضيعها ( قال هل ترون أنها طارحة ولدها في النار ، قالوا لا يا رسول الله )  .

له في كل طَور ٍ من أطوار سلوكه آداب وعلوم وسلوك ، فأحوال الرجال كأمواج البحار ، وطور يسع وطور لا يسع ، وكيف يسع وطعام الولدان لا يصلح للرجال ؟ وهل منهاج المرحلة التأسيسية الابتدائية ، يشبع من تطور إلى المرحلة الثانوية أو الجامعية ؟ فافهم الإشارة إنما اللبيب بالإشارة يفهم .

الحق مشربه ، والله غايته ، والكعبة محطته ، وقُدس القدس موعده ، فهنيئا لكم يا أصحاب القلوب المشغولة بربها .

لا يختار أبدا ، وكيف يختار وربه يخلق ما يشاء ويختار ؟  ( يا داوود : أنت تريد وأنا أريد ، ولا يكون إلا ما أريد ، فإن أردت ما أريد ، أرحتك فيما أريد ، وإن لم ترد ما أريد ، أتعبتك فيما أريد ، ولا يكون إلا ما أريد )

 أخي إني أحبك في الله ، دع عنك التراخي والاختيار ، وشمّر عن ساعد همتك إلى ربك العزيز القهار، واعلم بأنه معك حيث كنت وأينما كنت وكيفما كنت ، فهو في قلبك وبين أضلعك وجوانبك ، سبحانه من غير حصر، ولا تقييد ولا تشبيه ، ولا تجسيد ، هو الذي خلقك بيده ، وصنعك بصنعته ، وجعلك آيته ، ونفخ فيك من روحه ، ثم قال لك عبدي : ها أنا الله ، اطلبني تجدني ( يا موسى إني أنا ربك )

يتعاقب عليه القبض والبسط ، كما يتعاقب عليه الليل والنهار، فهم بين مواهب القبض ومكاسب البسط ، هكذا كل حياتهم بالله ولله ومن الله وإلى الله ، ( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، فإن أصابه خير شكر وإن أصابه شر صبر فكان خيرا له ) .

يرفل ويرتع في آلاء الخيرية المطلقة ، بعموم نعوتها ومعانيها ، ( أهل ذكري هم أهل مودتي )  تتلذذ قلوبهم وأرواحهم بظل عرشه الذي لا يغيب عن بصائرهم ، تتلاقى أرواحهم يقظة ومناما ، فسبحان من ألبس أحبابه تيجان ولايته ، وسبحان من خلع عليهم من أوصافه وأسمائه وجماله ؛ فمنحهم حق التصرف في أكوانه وأفعاله .

( كلما أراد فقد أراد ) ، فحدّثوا بما كائن وما سيكون بتجرد وحسن خلق .

أخي : سلّم روحك لهم ،  وعلّق قلبك بهم ، وتأدب معهم ، علّك تحظى بهم ، وإياك إياك أن تلمهم أو تنكر عليهم ما كان من أحوالهم المنسجمة مع كتاب ربنا وسنة حبيبه ، صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وإن جهلتَ ، فالشغل وصل وحب ولذة ، هم جنة الصالحين ، وهم نعيم المقربين ، وهم رحمة التائبين الراجعين فهلمّ إليهم ، هلمّ إليهم  .