عندما أغضب!

م. محمد عادل فارس

[email protected]

"لا تلوموني، لقد شتمتُه وضربتُه حتى وقعتْ نظّارته على الأرض فحطّمتُها بقدمي... وربّما، لو كنتُ أقوى، لأَلْحقتُ به من الأذى والإهانة أكثر مما فعلت. لقد أغضبني وتحدّاني!"

نسمع مثل هذا الكلام بين الحين والآخر. فهذا يعلل سبب شجاره مع جاره أو زميله أو زوجته، وذاك يعلل سبب فصم علاقة المشاركة التجارية مع شريكه، وآخر يعلل سبب غضبه من ابنه العاقّ...

ولسنا نقول: لا يجوز للإنسان أن يغضب مطلقاً، وعليه أن يكون حليماً كالأحنف بن قيس. إنما نقول: لكل إنسان موازناته، أو تركيبته الشخصية التي تجعله يختار سلوكاً معيناً من بين سلوكات كثيرة، ولكن عليه أن يختار السلوك الصحيح.

لو أنك تعاملت مع هرة فرميتَ لها قطعة لحم، أو توجهت إليها بعصا كأنك تريد أن تضربها... فإنك تجد لها سلوكاً واحداً في كل حالة، قلّما تخرج عنه، فهي في الحالة الأولى تُقبل على قطعة اللحم تلتهمها ثم تتودد إليك لعلها تحظى بقطعة ثانية، وفي الحالة الثانية تهرب مبتعدة عنك طالما أنت تركض وراءها، فإذا توقّفتَ توقفتْ بعيداً عنك تراقب مسلكاً جديداً لك!.

أما عندما تتعامل مع إنسان فإن ردود فعله تتفاوت كثيراً، ويجد الإنسان أمامه طيفاً واسعاً من التصرفات، يختار منها ما يتوافق مع قيمه وأخلاقه وذكائه وقوته...! فإذا تصرف إنسان أمامك تصرفاً سيئاً فقد تتجاهله، وقد تردّ عليه، وقد تُرجئ الرد، وقد تقابل الإساءة بالإحسان!

وإذا تجاهلته فقد يكون ذلك إحسان ظنٍّ منك بأنه لم يقصد الإساءة، أو لم يقصدك أنت بالإساءة، أو يكون ترفّعاً منك عن النزول إلى منحدر الإساءة، على حد قول القائل:

ولقد  أمرُّ على السفيه يسبّني        فمضيتُ ثمّةَ قلت: لا يعنيني!

وقد يكون تجاهلك إياه تجنُّباً لشرٍّ قد يتفاقم، أو طمعاً في استمرار علاقة معه، أنت حريصٌ عليها...

أما إذا رددت عليه فقد تكتفي بنظرة عاتبة، أو كلمةٍ واخزة، أو بسمةٍ ساخرة... وقد تردّ له بإساءة من مثل إساءته، وقد تردّ له الصاع صاعين!.

وإذا أرجأت الرد فقد تفعل ذلك لتعطي نفسك فرصة التروّي لتتخذ القرار المناسب، أو لتعطي صاحبك فرصة كي يراجع نفسه ويعتذر عما فعل، أو لتنتقم منه في موقف قادم، انتقاماً يجعله يعضّ أصابعه ندماً، أو لأنك تعلم أن الزمن يحل معظم المشكلات، فإنك بعد مضيّ دقائق أو ساعات على تصرّف صاحبك تجد نفسك قد هدأتَ وصَفَحتَ أو نسيت.

وقد تقابل إساءته بإحسان، وهذا أفق عالٍ لا يقدِر عليه إلا الأفذاذ }ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليّ حميم، وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم{.

ولسنا نزعم أن ما ذكرناه من خيارات هو كل شيء، بل قد تستطيع أن تذكر خيارات أخرى.

وإذاً فإن السلوك السيّئ الذي صدر من صديقك أو جارك أو زوجك، ليس مسوّغاً بالضرورة لأن تخرج عن اتّزانك، وتتصرف التصرف الأحمق، وتُعلّق ذلك على مشجب هذا الذي أساء.

إنه فعلٌ صدر عن صاحبك، وإن ردّ الفعل منك هو الذي ينبئ عن شخصيتك: عن تماسكك وحلمك وقوتك... أو عما يقابل ذلك من صفات لا نرضاها لك، ولا ينبغي أن ترضاها لنفسك!

ولْنتعلم من سيد المعلمين، فقد روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ضَرَبَ رسول الله r بيده خادماً له قطّ، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله... ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتَى إليه حتى تُنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله"

وأخرج الشيخان عن أنس t أن امرأة يهودية أتتْ رسول الله r بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله r فسألها عن ذلك قالت: أردتُ لأقتلك!. فقال: "ما كان الله ليُسلّطكِ عَلَيّ" قالوا: ألا نقتلها؟ قال: "لا".

وقصة أبي بكر الصديق في تجاوزه عن الغضب، واحتساب الأذى في سبيل الله، قصة عجيبة. وذلك عندما أشاع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول قالة السوء على السيدة الصديقة عائشة بنت الصديق أبي بكر، فيما عُرف بحادثة الإفك، وتلقَّفَ بعض المؤمنين هذه الشائعة من غير تثبّت، وكان من هؤلاء مَسْطَح بن أثاثة، وهو ابن خالة أبي بكر، وكان فقير الحال، يعيش على صدقات أبي بكر t، فلما خاض في قالة السوء هذه، ثم أنزل الله براءة السيدة عائشة، أقسم أبو بكر ألا يعود إلى الإنفاق على مسطح!. وعندئذ نزل قول الله تعالى: }ولا يأْتَلِ أولو الفضل منكم والسَعَة أن يُؤْتُوا أولي القُربى والمساكينَ والمهاجرين في سبيل الله، ولْيعفُوا وليصفحوا. ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم؟{ فقال أبو بكر: بلى يا رب، أحب أن تغفر لي. وعاد ينفق على مسطح!.

ورسول الله r يبين لنا خطر كلمة ينطق بها اللسان في حال الرضا أو الغضب، فهذه الكلمة قد ترفع صاحبها مقامات عالية، وقد تودي به إلى قعر جهنم.

روى الإمامان مالك والبخاري أن رسول الله r قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم"!

وفي صحيح البخاري أن رجلاً قال للنبي r: أوصني. قال: "لا تغضب" فردد مراراً، قال: "لا تغضب".

ومعنى ذلك – كما قال العلماء – أي لا تسترسل مع مشاعر الغضب فتقول أو تفعل، في أثناء غضبك، ما تندم عليه بعدئذ، بل اضبط أعصابك واكظم غيظك.

وهذا الكلام كله ينصبُّ على الغضب للنفس، أو لأمر من أمور الدنيا، وإلا فإن الغضب غريزة ما أوجدها الله تعالى في النفوس إلا لحكمة. فليس كل غضب مذموماً. ونحن نقرأ في كتب الحديث الشريف أحاديث صحيحة كثيرة تذكر أن النبي r "غضبَ حتى بانَ الغضب في وجهه" رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه. فقد كان r يغضب لله وحين تُنتهَك حرمات الله. وقد مرّ بنا حديث عائشة - فيما رواه الإمام أحمد-: "... ولا انتقم r لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تُنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله".

فأين نحن من غضب رسول الله r؟! قد يسمع الواحد منا ويرى ألف اعتداء واعتداء على دين الله وحرماته فلا يكاد يتحرك، بل يكتفي بأسف عابر، وأمنية حالمة! حتى إذا شعر بأن إساءة مَسَّتْه في شخصه أوماله، أو حقٍّ من حقوقه الخاصة، غضب كل الغضب، ونقم كل النقمة وخاصم وعادى، وخرج عن حدود الاتزان، انتصاراً ممن ظلمه، أو ممن حَسِبَ أنه ظلمه، وقد كان حريّاً به أن يكون أقرب إلى التسامح في هذه الأمور، وأقرب إلى الغضب والانتقام في تلك.

إن الله تعالى، الذي زوّد الإنسان بغريزة الغضب، هو الذي أثنى على قوم فقال: }والذين إذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون{، ورسوله r قال: "من كظم غيظاً وهو يستطيع أن يُنْفِذَه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيِّره في أي الحور شاء" رواه أبو داود.

إن للغضب مكاناً واحداً يُحمد المرء إذا أنفذه فيه، وهو أن يغضب لله، وينتصر إذا انتهكت حرمات الله، ويوجّه نقمته إلى أعداء الله.