تهنئة غزة بالشهادة في سبيل الله
من صحيح البخاري
رضوان سلمان حمدان
هنيئا لكم أهل غزة أن اتخذ الله منكم شهداء فزتم والله بالحسنيين النصر والشهادة وما أغلاه من فوز، يُحرمه الجبناء والمرجِفون
ما أعظم الشهادة إنها جائزة الله تعالى إلى من يحبهم، فيجتبيهم ويكرمهم، أولئك الذين بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله إنها مكانة ومنزلة يتمناها الأنبياء وهم خير خلق الله { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } آل عمران140
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله "وساعة تسمع كلمة " وَيَتَّخِذَ " هذه؛ اعرف أنها اصطفاء واختيار"
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى مبينا فقه التعبير العجيب في قوله تعالى:
{ ويتخذ منكم شهداء }..
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون. يختارهم الله من بين المجاهدين, ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء, وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة, ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه.
ثم هم شهداء يتخذهم الله, ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة. يؤدونها أداء لا شبهة فيه, ولا مطعن عليه, ولا جدال حوله. يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق, وتقريره في دنيا الناس. يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به, وتجردوا له, وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا, فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس, وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس.. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون. وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت. وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال!
وكل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لا يقال له إنه شهد, إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها. ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها. ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله. فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله.. ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله. ولا يعتمد مصدراً آخر للتلقي إلا هذا المصدر..
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض, كما بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس, والذي بلغه عنه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء. فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله, فهو إذن شهيد. أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها. واتخذه الله شهيداً.. ورزقه هذا المقام.
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
{ ويتخذ منكم شهداء.. }..
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومقتضاه.. لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع!
تمني الشهادة.
* أبو هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل).
* أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح له، وقال ما يسُرنا أنهم عندنا). قال أيوب: أو قال: (ما يسرهم أنهم عندنا). وعيناه تذرفان.
فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم.
وقول الله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} /النساء: 100/. وقع: وجب.
* أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت ملحان قال:
نام النبي صلى الله عليه وسلم يوما قريبا مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: (أناس من أمتي عرضوا علي، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة). قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (أنت من الأولين). فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا، أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشأم، فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
من ينكب في سبيل الله.
* أنس رضي الله عنه قال:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا: قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومَؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا أعرج صعد الجبل - قال همام: فأراه آخر معه - فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ: أن بلغوا قومنا، أن لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا. ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحا، على رعل، وذكوان،
وبني لحيان، وبني عصية، الذين عصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* جندب بن سفيان:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد، وقد دميت إصبعه، فقال: (هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت).
من يجرح في سبيل الله عز وجل.
* أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك).
قول الله تعالى: {هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} /التوبة: 52/. والحرب سجال.
* عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس أخبره: أن أبا سفيان أخبره:
أن هرقل قال له: سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة.
قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} /الأحزاب: 23/.
* أنس رضي الله عنه قال:
غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين. ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين: ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى، أو نظن: أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}. إلى آخر الآية.
وقال: إن أخته، وهي تسمى الربيع، كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
* زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة ابن ثابت الأنصاري، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين، وهو قوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}.
عمل صالح قبل القتال.
وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم.
وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} /الصف: 2 - 4/.
* البراء رضي الله عنه يقول:
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل وأسلم؟ قال: (أسلم ثم قاتل). فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلا وأجر كثيرا).
من أتاه سهم غرب فقتله.
* أنس بن مالك:
أن أم الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب - فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك، اجتهدت عليه في البكاء؟ قال: (يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين