نصر الله قريب
م. محمد عادل فارس
[email protected]
ندبنا الإسلام إلى
النظر في الأنفس والآفاق، للتعرف على سنّة الله في المجتمعات وفي الكون، ورؤيةِ قدر
الله تعالى، وأثر كلمته وإبداعه وعلمه وقدرته، ومعرفة أن الحياة والموت، والنصر
والهزيمة، وبسط الرزق وقبضه، والنّفع والضرّ...
كلها بيد الله وحده... فلا الجهاد
والبذل والإنفاق تنقص من الأعمار والأرزاق، ولا
الجبن والقعود والإمساك تزيد في
الأجل والرزق المقدَّرين! أو تدفع البلاء.
هذه المعاني تُعَدُّ
من مسلّمات العقيدة الإسلامية، تنطق بها آيات القرآن الكريم:
}الله
الذي خلقكم ثم رزقكم، ثم يُميتكم
ثم يُحييكم. هل من شركائكم من يفعل من
ذلكم من شيء؟{
سورة الروم: 40.
}فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون{.
سورة الأعراف: 34.
}وفي السماء رزقكم وما توعدون{.
سورة الذاريات: 22.
وجاءت السنة الشريفة
مؤكّدة هذه الحقائق الإيمانية العظيمة. من ذلك ما رُوي من طرقٍ عدة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: "إن روح القدس نفث في رُوعي أن نفساً لن
تموت حتى تستكمل أجلها،
وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في
الطلب، ولا يحملن أحدَكم استبطاءُ الرزق أن
يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا
يُنال ما عنده إلا بطاعته".
الجامع الصغير للسيوطي.
فإذا كان العبد لا
يفارق الدنيا وقد بقي له فيها ذرة هواء لم يستنشقها، أو حبة قمح لم يأكلها، فلماذا
الجزع والهلع؟ وهل يُقْدم عاقل – تمكّن الإيمان من قلبه – على معصية الله بتحصيل
الرزق مما لا يحلّ؟ أو هل يرضى لنفسه منزلة القاعدين، وقد علم أن الناس جميعاً لو
اجتمعوا على أن يضرّوه لم يضُرُّوه إلا بشيء قد
كتبه الله عليه؟!
وغنيٌّ عن البيان أن
هذه العقيدة لا تتنافى مع طلب الرزق والسلامة والعافية... بطرقها الشرعية، إنما
تتنافى مع الحرص على الدنيا وزينتها من طرق الغش والسّرقة والتدليس والجبن والإخلاد
إلى الأرض.
إن سلوك سبيل الحرام
يُغضب الرب ولا يزيد في الرزق.
وفي مضمار الدعوة لا
يُريد الإسلام منّا الاندفاع والتهوّر، بل يأمرنا بسلوك طريق الحكمة والموعظة
الحسنة والحيطة والحذر... دونما خوف أو جبن:
}ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة
الحسنة{
سورة النحل: 125.
}يا أيها الذين آمنوا خذوا حِذركم
فانفِروا
ثُباتٍ أو انفروا جميعاً{.
سورة النساء: 71.
وسيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
حافلة بالمواقف التي تترجم هذه المعاني شجاعة وسخاءً، وبذلاً وعطاءً،
وحكمةً وأناةً، وصفحاً وحذَراً...
وقد يخلط بعض الناس
بين الحكمة والجبن، على ما بينهما من اختلاف
وبُعْد!. فالجبن يُثمر القعود عن
الدعوة وعن الجهاد في سبيل الله، أما الحكمة فإنها
تُنير سبيل العاملين، فيَمضون
على بصيرة من غير أن يُخالج قلوبهم شكٌّ أو خوف...
يمضون مُجدِّين على الطريق لا
تزيغ بهم الأهواء، ولا تردّهم المحن والعقبات، في
حُنكة وعقل، وثقة بالله تعالى، لا
تَضعُف ولا تخبو على مدى الأيام.
وما
أروع قول المتنبي
إذ يعيب على الجبناء فلسفتهم فيقول:
يرى
الجبناءُ أن العجز
عقلٌ وتلك خديـعةُ الطبعِ اللئيم
إذا
غامرتَ في شرفٍ
مَرُوم فلا تقنـع بما دون النجوم
فطعم
الموت في أمـر
حقير كطعم الموت في أمرٍ عظيم
وفي
ظل الظروف
الإقليمية والعالمية التي يعيشها المسلمون، يتسلل اليأس إلى بعض النفوس فتستبعد
النصر، أو تراه مُستحيلاً. وهذا علامة ضعف الإيمان، أو غياب شيء من المعاني
الإيمانية عن هؤلاء. فالله سبحانه
}ذو
القوة
المتين{
لا يُعجزه شيء،
}إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له
كُن، فيكون{،
والنصر من عنده وحده
}إن
ينصرْكم الله فلا غالبَ لكم{.
}وما
النصر إلا من عند الله{.
وقد وعد الله عباده بالنصر
الأكيد
}إنّا
لننصر رسلَنا والذين آمنوا في الحياةِ
الدنيا ويومَ يقوم الأشهاد{.
سورة غافر: 51.
فما
ينبغي لمؤمن أن
يقنط أبداً. ولقد أحسن من قال:
ما
بين طرفة عينٍ
وانتباهتها يغيّر الله من حال إلى حال
ولقد
مرَّ على الإسلام
والمسلمين سنون حَسِبَ الجاهلون أنه لن تقوم بعدها
للإسلام قائمة، وأن هيبة الإسلام
اختفت إلى غير رجعة، ثم عاد الإسلام بعدها قويّاً
عزيزاً، ينساح في الأرض، ويُثلج
صدور المؤمنين، ويغيظ أعداءه الشانئين، وتتهاوى
أمامه الحصون المنيعة، وتندحر أمامه
الجيوش الجرّارة... لأن الله تعالى أنزل هذا الدين
ليفتح له القلوب والحدود: }هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحق
ليُظهرَه على الدينِ كلّه ولو كره
المشركون{.
سورة الصف: 9.
لقد
وَعَدَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المسلمين وبشّرهم بفتح بلاد، فَفُتِح
بعضُها في زمن الصحابة رضوان الله
عليهم، وفُتح بعضها في قرون لاحقة، وسيُفتح باقيها
في قادم الأيام، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم: }لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي
يوحى{.
روى
الإمام أحمد وغيره
أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: "ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغَ الليلُ
والنهار، ولا يترك بيت مَدَر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز، أو
بذلّ ذليل، عزّاً يُعِزُّ الله به
الإسلام، وذلاً يُذلّ الله به
الكفر".
وروى
الإمام أحمد
أيضاً – بإسناد صحيح – عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن حول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نكتب، إذ سئل
صلى الله عليه وسلم:
أيُّ المدينتين تُفتَح أولاً:
قسطنطينية أو
رومية؟ فقال: "مدينة هرقل تفتح أولاً".
أي
أن القسطنطينية
تُفتح قبل روما، وقد فُتحت يوم الثلاثاء 20 من
جمادى الأولى عام 857هـ الموافق لـ29
من أيار 1453م.
ولا
غرابة أن يتم فتح
روما بالقلم واللسان، وتَفتح أوروبا ذراعيها
للإسلام.
وروى
مسلم بن ثوبان
قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها
ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها...".
ومعنى
زوى لي الأرض أي
ضمّها وجمعها له
صلى الله عليه وسلم
حتى يراها جملة واحدة.
****
وقد
يبقى في النفس
شيء: كيف حَدَثَ في بعض مراحل التاريخ أن انتصر التتار والمغول والصليبيون على
المسلمين؟! ولو أنهم اندحروا بعد حين من الدهر، وكيف تنتصر بعض دول الكفر على
المسلمين في بعض المعارك في هذا العصر؟!
والجواب،
باختصار، هو
أن الله تعالى ينصر المسلمين طالما تمسكوا بدينهم،
ونصروا الله على أنفسهم
وأهوائهم، وكان الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في
سبيله، أحبّ إليهم من أنفسهم
وأهليهم وأموالهم... فإذا نكصوا ونَكَلُوا وأخلدوا
إلى الارض وشهواتها، سلّط الله
عليهم عدوّهم، فإذا راجعوا أنفسهم، وعادوا إلى
ربهم، نصرهم ومكّن لهم في الأرض.
والآيات
القرآنية
الدالّة على هذه المعاني كثيرة جداً، يكفي أن نذكر منها قوله سبحانه:
}ولينصُرنّ
الله من ينصره. إنّ الله لقوي عزيز{.
سورة الحج: 40.
وقوله
سبحانه: }إن تَنْصُروا الله ينْصُرْكم ويثبّتْ
أقدامكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي
ينصركم من بعده{.
سورة آل عمران: 160.
وقوله
سبحانه: }إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا
ما بأنفسهم{.
سورة الرعد:11.
اللهم
إنا نسألك الفرج
القريب، والنصر العزيز، والفتح المبين.