بضاعة المفلسين
بضاعة المفلسين
محمود القلعاوي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
إن المتابع لما يحدث في غزة من أشلاء تملأ الطرقات وقصف وضرب قد يصيب الكثير منا باليأس وسقوط الهمة ، وضعف العزيمة من الخطورة بمكان ، فحين تضعف الإرادة ، وتلين العزيمة ، فإن النفس تنهار ، وحين يفشل مثل هذا الإنسان في موقف أو مجموعة مواقف ، فإنه يصاب باليأس الذي يكون بمثابة قيد ثقيل يمنع صاحبه من حرية الحركة ، فيقبع في مكانه غير قادر على العمل والاجتهاد لتغيير واقعه بسبب سيطرة اليأس على نفسه ، وتشاؤمه من كل ما هو قادم ، قد ساء ظنه بربه ، وضعف توكله عليه ، وانقطع رجاؤه من تحقيق مراده .
إنه عنصرٌ نفسي سيء ؛ لأنه يقعد بالهمم عن العمل ، ويشتت القلب بالقلق والألم ، ويقتل فيه روح الأمل .
أما العبد المؤمن لا يتمكن اليأس من نفسه أبدًا ، فكيف يتطرق اليأس إلى النفس وهي تطالع قوله تعالى :- ( وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ) سورة يوسف :87 ، أم كيف يتمكن منها الإحباط وهي تعلم أن كل شيء في هذا الكون إنما هو بقدر الله تعالى :- ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) سورة الحديد: 22، 23
فإذا أيقن بهذا فكيف ييأس ؟ إنه عندئذٍ يتلقى الأمور بإرادة قوية ورضىً تام ، وعزم صادق على الأخذ بأسباب النجاح .
إن القرآن يزرع في نفوس المؤمنين روح الأمل والتفاؤل :- ( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) سورة الزمر :53
قال بعض العلماء :- لولا الأمل ما بنى بانٍ بنيانًا ، ولا غرس غارسٌ غرسًا .
ولا تيأسن من صنع ربك إنه فإن الليالي إذ يزول نعيمها ألـم تر أن الليل بعد ظلامه | ضـمينٌ بأن الله سوف تـبـشر أن النائبات تزولُ عـليه لإسفار الصباح دليلُ | يُديلُ
لما جاءت إبراهيم عليه السلام البشرى بالولد في سنٍ كبير أبدى تعجبه فقال :- ( قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ )سورة الحجر :54 ، فقالت الملائكة :- ( بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ ) سورة الحجر : 55 ، قال عليه السلام :- ( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ) سورة الحجر :56
إن الأمور وإن تعقدت ، وإن الخطوب وإن اشتدت ، والعسر وإن زاد ، فالفرج قريب :- ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) سورة يوسف: 110 ، ولا يغلب عسرٌ يسرين :- ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) سورة الشرح : 5، 6
ومادام الإنسان حياً يتحرك فلا ينبغي له أن ييأس ، هكذا علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقد دخل عليه حبة وخالد ابنا خالد رضي الله عنهم وهو يصلح شيئاً فأعناه عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم :- ( لا تيأسا من طلب الرزق ما تهززت رؤوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ، ثم يرزقه الله عز وجل)
إن الإنسان معرضٌ في حياته لأنواع من الفشل في بعض التجارب ، وحريٌ أن يوقظ في نفسه روح الأمل ، فيراجع نفسه باحثًا عن أسباب الفشل ليتجنبها في المستقبل ، ويرجو من ربه تحقيق المقصود ، ويجعل شعاره : لا يأس مع الحياة .
أُعلِّلُ النفس بالآمال أرقبها.. ... ..ما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل
إن هذا المسلك خيرٌ لصاحبه من إلقاء اللوم على الآخرين ، مما يترتب عليه سوء الطبع
والاتكالية ، والانهزامية ، ثم اليأس والانعزال .
قال ابن مسعود رضي الله عنه:- ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ) ، وكان الصالحون يتقربون إلى الله عز وجل بقوة رجائهم وبعدهم عن اليأس ، هذا ذو النون المصري كان يقول في دعائه :- ( اللهم إليك تقصد رغبتي ، وإياك أسأل حاجتي ، ومنك أرجو نجاح طلبتي ، وبيدك مفاتيح مسألتي ، لا أسأل الخير إلا منك ، ولا أرجو غيرك ، ولا أيأس من رَوحك بعد معرفتي بفضلك )
علاج اليأس
إن اليأس مرض من الأمراض التي تصيب النفوس فتقف عاجزة عن إدراك المعالي ، ومن هنا فإننا نضع خطوطًا عريضة ونقترح بعض الوسائل التي نرجو أن تكون نافعة في علاج هذه الآفة ، ومنها :-
1- تعميق الإيمان بالقضاء والقدر بمفهومه الصحيح ، وتربية النفس على التوكل على الله ، ونعني بذلك أن يعتمد القلب في تحقيق النتائج على الله مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، وبذل الجهد الممكن للوصول إلى الأهداف المنشودة .
2- تنمية الثقة بالنفس ، والاعتماد على الذات في القيام بالأعمال ، وتحمل المسؤولية عن نتائجها بغير تردد ولا وجل .
3- اليقين بالقدرة على التغيير إلى الأفضل في كل جوانب الحياة ومطالعة تجارب الناجحين في شتى الميادين .
4- قراءة قصص الأنبياء والصالحين الذين غير الله بهم وجه الحياة والتعرف على الصعاب والمشاق التي واجهوها بعزم صادق وقلب ثابت ، حتى أدركوا مناهم بحول الله وقوته .
5- اليقين بأن الاستسلام لحالة اليأس لن يجني صاحبها من ورائها إلا مزيدًا من الفشل والتعب والمرض ، وأن البديل هو السعي والجد وتلمُّحُ الأمل .
إذا اشتملت على اليأس وأوطـأت الـمكاره واطمأنت ولـم تر لانكشاف الضر وجهًا أتـاك عـلى قنوط منك غوثٌ وكـل الـحـادثات إذا تناهت | القلوبوضاق لما به الصدر الرحيبُ . وأرسـت في أمكانها الخطوبُ ولا أغـنـى بـحيلته الأريبُ يـمن به اللطيف المستجيبُ . فـمـوصول بها الفرج القريب |