ولنصبرن على ما آذيتمونا

عبد العزيز كحيل

[email protected]

يجب الاعتراف أن استفزازات الأقلية العلمانية الليبرالية وعدوانيتها ومكائدها لا يصبر عليها إلا أولو العزم من الرجال ولا يحجم عن الانسياق في الرد الفوري العنيف عليها إلا من ثبتت قدماه على مبادئ العمل البصير وانخرط في سلك الدعوة الربانية الهادئة.

   وإن العاقل ليكاد يفقد رزانته وهو يرى في كثير من البلاد الإسلامية أقلية متغربة متفسخة تستحوذ على الإدارة والإقتصاد وتمسك بمقاليد الإعلام تسخر من ديننا ولغتنا وتتآمر على توجهات الشعب واختياراته وتؤجج نار الفتنة و تدق إسفين الفرقة وتتبجح بالمساندة الغربية السافرة، وقد أغرى كل ذلك فئة من الناس ركبها الحماس فانبرت للمنازلة وهي على غير دراية كافية بخيوط المؤامرة وموازين القوى وأبعاد المخطط العلماني المحبوك منذ مدة غير قريبة فكان الاستدراج للرد العنيف على المجموعة الحاكمة سلاحا إضافيا في يد تلك الأقلية تشوه به صورة الإسلام و دعاته ومشروعه الاجتماعي كما حصل في الجزائر مع الأسف

أجل.. يصعب الصبر في هذه المواطن ، ولذلك ينال الصابرون جزاءً لا نظير له"إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"وقد مرّ بمثل هذه المحنة موكب الأنبياء الكرام فتحلوا بالصبر بمعناه الإيجابي المشتمل على عنصري التحمل والسعي من أجل التغيير فتحملوا الأذى المادي والنفسي من الفئات التي أعماها الصلف والرئاسة والمكاسب الدنيوية وواجهوا ذلك بالشعار الرباني المتألق"ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون".

ولم يكن الصبر ذلة وانهزاما وإنما كان زادا لعمل تغييري دؤوب عميق شامل من شأنه اجتثاث الداء من أصله، فلما صدق الربانيون في الصبر وفي السعي لم يعد يعنيهم تهديد البغاة ووعيدهم بل كان ذلك آخر تخطيط لهؤلاء قبل البوار"وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا".

بهذه الوقاحة وهذا الصلف تخيّر الشرذمة الزائغة المعادن الأصيلة بين التنازل عن المبادئ والنفي..فما أشبه الليلة بالبارحة  لكن عند هذا الحد من الطغيان والغطرسة تأخذ السنّة الإلهية مداها"فأوحى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين ولنسكننّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد "

جاء النصر إذاً وانقلبت الموازين لتأخذ وضعها الطبيعي بعد مصابرة ومثابرة كان للدعاة فيها    -كما هو مبين في آي الذكر الحكيم- استمساك وثيق بحبل الله وعمل واعٍ بصير على هدي من سنن الله في الأنفس والمجتمعات وإعراض واضح عن ردود الفعل الآنية التي كثيرا ما تخالطها حظوظ النفس فتكون غير ذات جدوى أو تفضي إلى عواقب وخيمة تصيب الدعوة ورجالها ورموزها وجماهيرها، واللبيب لا يعمد إلى الصخرة الضخمة المتجذرة يضرب بالمعول لكسرها- ولا يستطيع- وإنما يجنح إلى إحاطتها بالحفر العميق الكبير فتتزحزح بعد ذلك بعناء قليل.

إنه عمل هادئ متواصل وصبر ساعةً ثمّ يفرح المؤمنون بنصر الله وتتجرع الحثالة الباغية غصص الخزي والندم، وهو ذا القرآن الكريم يصف كيد بطانة السوء ثم يوجه المؤمنين بهذا الهدي الرفيع"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط"

نتعلم من سير موكب الأنبياء الكرام الذي بينه الله تعالى في كتابه أن عواطف الإيمان ضرورية من غير شك لكنها لا تنفع إلا إذا ضبت في إناء التربية الربانية وأبردها العقل الحصيف المهتدي بمعالم الكتاب والسنة فذلك يحضن دعاة الإسلام من ردود الأفعال التي كثيرا ما يستدرجهم إليها خصومهم لينهكوا قواهم ويشغلوهم بمخطط هم الذين وضعوه أساسا لبلبلة الصف المؤمن والإجهاز عليه من خلال تصيد الأخطاء وتضخيم الهفوات وبث الإشاعات ، والعاقبة للمتقين بلا ريب لكن من التقوى العمل وفق سنن التغيير  " ولن تجد لسنة الله تبديلا " ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبر في مكة على عداوة المشركين وفي المدينة على كيد المنافقين واليهود ويرفض الإستدراج  ( لا أريد أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) والإستعجال ( لقد كان فيمن قبلكم يمشك بالأمشاط ما بين لحمه وعظمه لا يرده ذلك عن دينه ولكنكم تستعجلون ) ويضبط سير أصحابه الكرام بضوابط الشرع فلا تحنحون إلى العمليات القيصرية وإنما يصبرون ويثبتون ويضحون بالوقت والمال والأهل والأنفس حتى يتكون جيل رباني يتولى بنفسه هدم الأصنام التي كان يعبدها مرددا مع النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " ، ولو بدؤوا بتكسير الأصنام كرد فعل على تعظيم المشركين لها لما قامت للإسلام قائمة

قال الله تعالى" وإن تتقوا وتصبروا لا يضركم كيدهم شيئا "

فهل من فقه عميق  لمعاني الصبر والتقوى؟