إني جاعل في الأرض خليفة
عبد العزيز كحيل
لا يختلف عاقلان في أن الله تعالى – وقد أوكل إلى الإنسان مهمة الخلافة - قد زوده بكل لوازم أداء المهمة على الوجه الأكمل فأمده بالقدرات العقلية والروحية والبدنية الكافية للنجاح في وظائف الخلافة والعمارة والعبادة ولولا هذه القدرات الممنوحة لكان تكليف الإنسان بالمهمة الضخمة تعجيزا تتنزه عنه الحكمة الإلهية ،لكن ثقافة عصور التخلف بدل أن تركز على رفع إنسانية ''الخليفة''إلى أعلى الدرجات ركزت على صفات العجز والضعف والفناء ،وتوالى ذلك أحقابا حتى أصبح المسمون يرون أن هذه هي صفات الإنسان الأصلية والأبدية ،ومنشأ الخطأ هو مقارنة الإنسان بالله تعالى بحيث أدى الإقرار بصفات الكمال للخالق إلى نفيها نهائيا عن المخلوق ، وهذه مغالطة واضحة لأن المقارنة في حد ذاتها لا محل لها عقديا وواقعيا ،وكل ما في الأمر أنه محكوم بقاعدة النسبية بمعنى أن الإنسان عاجز بالفعل مقارنة بقدرة الله عز وجل وضعيف أمام قوة الله وفان إذ لا بقاء إلا لله ولكن هذا لا ينفي أن للإنسان قدرات عظيمة باعتباره إنسانا وبالمقارنة إلى محيطه الدنيوي والوظيفة التي نيطت به ،فهل يعقل أن تؤول الخلافة إلى عاجز فقير هزيل فان؟ ألم يقرن الله تعالى تحرك الأنبياء والمتدينين بالقوة؟ قال الله '' يا يحيى خذ الكتاب بقوة '' '' خذوا ما آتيناكم بقوة '' ، وهي قوة العلم والعواطف والجوارح التي بها تثبت إيجابية الإنسان بل إنسانيته ،فلماذا الإصرار على أدبيات الصوفية المغالية في العزلة وعقائد الجبرية وهذا الكتاب والسنة وكليات الإسلام تسبح بعظمة الإنسان وقدرته وفعاليته المستمدة من صفات الله عز وجل الذي أمرنا أن نتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم '' كان خلقه القرآن '' ، فالمسلم يستمد قوته من قوة الله وغناه من غنى الله وهكذا ...إلا أن بعض المدارس الإسلامية صادرت الفعل الإنساني لمصلحة الفعل الإلهي إلى درجة تجعل من تكليف الإنسان تعجيزا أو عبثا ، فلا بد من إثبات الفعل الإنساني الذي يصب في الفعل الإلهي بعيدا عن العلمانية التي تنكر أحد الفعلين والجبرية التي تنكر الآخر وهذا لا يكون إلا بالتركيز على خصية الإنسانية التي غمطها كثير من المسلمين حقها لإفراطهم في إثبات الربانية وحدها وكأن أي الخصيتين لا تثبت إلا بنفي الأخرى.
إن الخلافة التي سجدت لها الملائكة تحمل كل معاني القوة والإبداع والفعل ،والله تعالى لم يخلق الإنسان ليقهره بالعجز ولكن ليرتقي به إلى مصادر القوة والقدرة والعلم ،ومثبطات الهمة الحضارية لا وجود لها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لكنها نبتت مع الفكر الجبري وترعرعت مع الواقع التعس الذي رأينا فيه غير المسلمين ينسجمون مع مقتضيات الخلافة أكثر من المسلمين ،ولا بد إذن من التحرر من الفكر الديني الجامد المبني على تصور عبورية الحياة الدنيا وتعجيز الفعل البشري فحد من التفاعل مع الكون وجعل من الخلافة فكرة مجردة باهتة ومن العبادة أشكالا معينة ومن العمارة حلما ورديا أو فعلا فكريا ، إن قول الله تعالى '' إنا جعلناك خليفة في الأرض'' يقتضي أن يحقق المسلم كمالاته ويفجر قواه بالوعي والممارسة وهذه هي العبادة الحق ،ولا تأخذ هذه الفكرة حقها كاملا إلا إذا تحرك المسلم عمليا لا نظريا فقط وفق الأصول الذهبية مثل '' الأصل في الأشياء الحل وفي الأفعال الإباحة '' وتحرر من القيود المفتعلة التي أورثته التحفظ والتهيب المفرطين والقناعة بالتحرك الرمزي الرديء