قدوة القيادة في الإسلام 31
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الحادية والثلاثون :
القدوة الجهادية الراشدة
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن من أهم الصفات التي يتميّز بها القائد الناجح ، هي صفة القدوة .
فبها يكسب قلوب جنوده وثقتهم ، وبها يأسر ضمائرهم ، ويقودهم على طريق المكرمات حيث يريد ..
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأصحابه في كل شيء ، وطيلة حياته المباركة .
ولقد رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة ، أنماطاً راقية جداً من القدوة ، ألا وهي قدوة المحن ..
وفي هذا القسم ( الثاني ) منها سنتعرف ، بعون الله ، على أنماط راقية أخرى من قدوته ، ولكن في ساحات الجهاد ، وميادين القتال .
1. قدوته في المواقف الصعبة ، والمنعطفات الخطيرة .
إن من سنن الله الثابتة في خلقه ، أن تضعف النفوس البشرية ، إذا تعرّضت لقوة أكبر من طاقتها ، وهذا أمر طبيعي ومسوّغ ، وليس ذلك بعيب أو منقصة فيها ، بل هي سنة الحياة ، وقانون الوجود .
فالسفن العملاقة تتأرجح في العواصف العاتية ، والجبال الراسخة تهتز في الزلازل والبراكين المدمّرة .
وكذلك النفس البشرية ، فهي جزء من ناموس الحق ، وبعض من قانون الخلق .!
ولقد حدث أن ضعفت واهتزّت ، أشد القلوب ثباتاً ، وأعظم النفوس تربية ، من أصحاب الرسل الكرام ، بمن فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن أراد أن يتعرف على جانب من هذه الحقيقة ، فليدرس القرآن الكريم ، وليعرّج على أحداث السيرة المطهرة .
فلقد وصفهم الله ، وهم خير قرون هذه الأمة ، في لحظات ضعفهم البشري ، بأوصاف يقشعرّ منها البدن .!
* فقال عنهم في أُحد :
_ (( وإذ غدوتَ من أهلك تبوئُ المؤمنينَ مقاعدَ للقتالِ ، والله سميع عليم ، إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليُّهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) . آل عمران (121 )
_ (( وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَّ اللهَ شيئاً ، وسيجزي اللهُ الشاكرين )) . آل عمران ( 144 )
_ (( وكأينْ من نبيٍ قاتلَ معه رِبِّيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا ، وما استكانوا ، والله يحب الصابرين)) . آل عمران ( 146 )
_ (( ولقد صدَقَكُمُ اللهُ وعدَه إذ تَحُسّونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم ، من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة …)) آل عمران ( 152 )
_ (( إذ تُصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرسولُ يدعوكم في أُخراكم، فأثابكم غماً بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ، ولا ما أصابكم ، والله خبير بما تعملون )) . آل عمران ( 153 )
_ (( وطائفةٌ قد أهمتهم أنفُسُهم ، يظنون بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء .!؟
قل إنَّ الأمرَ كلّه لله …)) …إلخ … آل عمران ( 154 )
* وقال عنهم يوم الأحزاب :
_ (( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم ، وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ ، وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً )) . الأحزاب ( 10 )
* وقال عنهم يوم حُنَيْن :
_ (( لقد نصركم الله في مواطنَ كثيرةٍ ، ويومَ حُنَيْن ، إذ أعجبتكم كثرتُكم ، فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرضُ بما رحبت ، ثم ولّيتم مدبرين ، ثم أنزل اللهُ سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها ، وعذّب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين )) . التوبة ( 26 )
إذاً ، أن تضعف النفوس مهما بلغت عظمتها ، وتتغير القلوب ، وتهتز الرجولة ، في ساعات الشدائد والمحن ، خاصة إذا تعرّضت لقوّة أكبر من طاقتها ، فهذا أمر طبيعي ومسوّغ …
ولكن أن تتحول لحظات الضعف العابرة في الأمة ، إلى حالة دائمة من اليأس والقنوط والإحباط .
أو تصبح صفة ملازمة للنفس المؤمنة ، تدفعها إلى الخنوع ، وتقودها إلى الاستسلام ، فهذا ما يرفضه الإسلام ، ويأباه الإيمان .
وهنا يلمع دور القائد ..
فبحضوره ، وشجاعته ، ورسوخه ، وشموخه ، وقدوته ، فإنه يحيل الضعف إلى قوة ، والشرذمة إلى وحدة ، والهزيمة إلى نصر.
فلقد ثبت النبي القائد صلى الله عليه وسلم في محنة أُحد كما رأينا، مع قلة قليلة من أصحابه المتميّزين ، الذين غرس معاني الإسلام في قلوبهم، وأرسى دعائم الإيمان في نفوسهم .
وبثباته ، وقدوته ، استطاع أن يجمع شملهم ، ويعيد تنظيم صفوفهم، ويرفع معنوياتهم ، ثم قادهم هم أنفسهم ، وجراحاتهم تنزف ، فطارد بهم عدوّهم حتى حمراء الأسد .
ثم تكرر الموقف يوم الأحزاب .. فلقد اشتدت المحنة على المسلمين، وعظم الخطب ، وكان كما صور القرآن العظيم بأسلوبه المعجز ، فقال : (( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم ، وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ ، وتظنونَ بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً )) . الأحزاب ( 10 )
ففي مثل تلك الظروف الرهيبة ، التي لم يكن يأمن فيها الرجال أن يذهبوا إلى الغائط ، وقد طوقتهم جيوش الأحزاب من كل جانب ، وانتقضت عليهم بنو قُرَيْظة ، ونجم النفاق ، واشرأبَّت أعناق المنافقين ! برز دور القائد كذلك ..
فبحضوره ، وشموخه ، ورسوخه ، وقدوته ، تحول الضعف إلى قوة ، والضيق إلى فرج .
ثم تكرر الموقف يوم حُنَيْن ، حيث فاجأ المشركون المسلمين بكمين لم يكونوا يتوقعونه ، وأخذوهم على حين غرّة ، فانكفأ الرجال ، وانهزم الأبطال ، وولّوا مدبرين لا يلوون على شيء ، حتى قال قائلهم : لن يوقفهم إلا البحر ، وذلك كناية عن شدّة هزيمتهم .!!!
وهنا لمع دور القائد أيضاً …
فلقد ثبت النبي القائد صلى الله عليه وسلم كالطود الشامخ ، وتطاول بهامته الشريفة وسط جموع المنهزمين ، وراح يرتجز فيقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب .!
إليَّ إليَّ ، يا أصحاب العقبة ، إليَّ إليَّ ، يا أصحاب بيعة الرضوان.
وبثباته ، وشموخه ، ورسوخه ، وقدوته ، تحول الفِرار إلى كرّ ،
وتحولت الهزيمة إلى نصر …
ولقد نهل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النبع الطهور ،
واقتدوا في سيرتهم بهذه المدرسة الرائدة .
فثبت الصدِّيق رضي الله عنه يوم الرِّدة كالطود الشامخ ، وقال مخاطباً أصحابه الخائفين : ( والله لو منعوني ( أي المرتدين ) عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لجاهدتهم عليه حتى تنفرد سالفتي ). وجهَّز أحد عشر جيشاً لقمع الرِّدة ، وعقد لكلٍ منها لواءً ، وجعل عليه قائداً …
ويكفي لكي ندلِّل على مدى صرامة الصدِّيق رضي الله عنه ، ومدى جدّيته في هذا الأمر ، أن نذكِّر بأن جيشاً واحداً من هذه الجيوش ، وهو جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه ، كانت عدَّته عشرة آلاف مجاهد ، وهو الذي كان فيما بعد نواةً لفتح العراق كلِّه …
وها هو ذا المثنى بن حارثة الشيباني ، رضي الله عنه ، وقد آلت إليه قيادة المسلمين يوم ملحمة الجسر ، في ظروف عصيبة للغاية ، حيث استشهد قائد المسلمين أبو عُبيد بن مسعود الثقفي ، وسبعة من أركان قيادته العليا وآل بيته رضوان الله عليهم أجمعين ، واستشهد من المسلمين قرابة أربعة آلاف شهيد .!
وكست الدماءُ الأرضَ ، وهبطت معنويات الناس ، حتى تواثبوا في نهر الفرات من الدهشة ..
فمات منهم من لم يصبر ، بينما أسرع القتل فيمن صبر .!!!
في مثل هذه الظروف العصيبة ، تؤول القيادة إلى المثنى العظيم ، فيثبت كالطود الراسخ ، ويتطاول بهامته الشامخة وسط جموع المنهزمين ، وينادي بصوت جهوريّ لا ينعكس عليه جزع الموقف في قليل أو كثير ، ويرسل بكلماته الهادئة ، لتكون رسول ثبات وطمأنينة إلى جموع الخائفين ، والتي تستحق أن تسجل في متاحف البطولة والجهاد بأحرف من نور ، فيقول :
( أيها المسلمون ، أنا دونكم ، فلا تجزعوا ، واعبروا الجسر المعقود خلفكم على هيّنتكم ، ولا تدهشوا فتغرقوا أنفسكم ، فإنا والله لن نُزايل ( أي لن نترك أماكننا ) حتى نراكم من ذلك الجانب سالمين )) . الإصابة ( 287 ) ، فتوح البلدان ( 625 )
وشكل مع مجموعة من جنوده الأبطال ، فرقة استشهادية ، حمت مؤخرة المسلمين ، وسهّلت مهمّة انسحابهم على الجسر الذي نصبه لهم ، وكان هو آخر المنسحبين ، فأنقذ بموقفه الرائع ، جيش المسلمين من مذبحة محقّقة .
ولم يكتف هذا العظيم بهذه المواقف المشرّفة ، بل راح يصل الليل بالنهار ، ويعدُّ العدة ليوم الثأر ، فهون من مصاب جنوده ، ومسح جراحاتهم ، وكفكف أحزانهم ، وأعاد تنظيم صفوفهم ، ثم قادهم أنفسهم ، فدخل بهم معركة الثأر ، وهي معركة البويب ، التي حصلت بعد ملحمة الجسر بأقل من شهر، وفيها سحق المثنى رضي الله عنه ، الفرسَ ، ودقَّ عظمهم ، وقصم ظهرهم ، وجعلهم جُثاً ( ميت الجراد ) .!
حتى إن الرواة قالوا : لم تكن هناك معركة كانت أبقى رِمَّة منها ، لكثرة من قُتل من العجم فيها ، ولقد حذروها ، بمائة ألف قتيل .!!!
طبري /4/74 /س ش س / ، أحمد عادل كمال / 1 /435 /