رحلةٌ.. إلى أعماق النفس

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

كأنَّهُ حُلُم.. منذ أيامٌ قلائل شددتُ الرحال في سفر.. وفي طريق العودة حسبتني لم أخرج بعد حتى أعود! يا له من عُمُرٍ تتسرّب دقائقه من بين أصابع الزمن في غفلة منّا فلا ننتبه إلا وقد أتى الموت ليطبِّق حكم القضاء فنذعن له راضخين..

كانت سياحة روحيّة.. يحتاجها كلُّ أحدٍ ليرتقي في فضاءات علويّة يسبح في أنوارٍ ربانيّة عند زمزم والمقام.. وروضةٍ يستقي من شهد الصلاة فيها معانٍ يفتقدها في غمرة الانشغال والضغوط.. إلاّ أنّها في هذه المرة كانت – إضافةً إلى ما سبق – رحلة تأمّلٍ في أعماق النفس إذ سبرتُ أغوارها فتكشّفت سوءاتها وتعرَّت فكانت بضاعتي المزجاة وسيلتي إلى التذلُّلِ وكان كنزي عينُ العجز والضعف أمام ربّي جلَّ في علاه..

ليست بالرحلة السهلة أن تشقَّ جيوب النفس وتتفهّم التيارات التي تتجاذبها يمنة ويسرة وإلى أعلى وأسفل.. وليست بالمسألة الهيّنة مواجهة هذه النفس بعيوبها وكشف حسابها.. ولكنها سعادةٌ غامرة تجتاحك حين تصل معها إلى صك تفاهمٍ فتنقاد لك وتطيعك.. حتى وهي تنتفض بكل قواها لتلفظ القيود التي تحاول بها السيطرة على نزواتها والتحكم بلجامها.. وفي خضمّ هذه الرحلة الداخليّة قد تتعثَّر بمحطاتٍ تشلّك عن الحركة! فهذا مصابٌ لم تصبر عليه.. وتلك رغبةٌ سيطرت عليكَ أياماً وذاك ذنبٌ تمرّد عن الخضوع وتيك معاصٍ استولت على القلب فأردَته عبداً لها ردحاً من الزمن.. وقد تكون بين الزوايا قصص وحكايات حين تنفض الغبار عنها تصيبك في مقتل.. وتتردّد في طيّات نفسك أسئلة  تتكرّر: لِم فعلت كل هذا وكيف؟ وتتصلّب شرايينك حنقاً عليك وخوفاً من المآل إن لم تصبك رحمة من ذي الجلال والرحمة.. وقد تأخذك الصدمة هنيهاتٍ قبل أن تستعيد أنفاسك وتطرحَ كل هذا على بساط صلاتك أو في طوافك أو في خلوةٍ بينك وبين الله جلّ وعلا في زاوية بيته المحرّم – وهو يعلم كل ما بسطتَ إليه – وتنطق دموعك متحسِّرة أن قد عصيت.. وأخطأت.. وتجاوزت.. وقصَّرت.. وقد نتقني ذنبي فأردى.. وأنت تعلم حتى ما لا أعلم ممّا أصبت.. ولكني على يقينٍ أنك الرحمن العفوّ القادر.. وأنني في ضيافتك أنعُم وهذا بحدّ ذاته فضل منك.. أن تستضيف العاصي وتُكرِمُ!

هل شعرتَ من ذي قبل أن الرحمة تتنزّل عليكَ مدراراً فتغسل قلبك كما تغسل الثوب بالماء فيطهر؟! هل تحسَّستَ يوماً انتفاخ أوداجك غضباً فتوضأتَ بماءٍ زلالٍ ذاكراً ربّك فاستويت على كرسي السكينة ونسيت ما قد كان فيك؟! هل ضاقت عليك الدنيا يوماً بما رحبَت فسجدتَ سجوداً أطلتَه وبكيت وبكيت وبكيت حتى ارتويت فخرجت من تلكم الركعة كيوم ولدتكَ أمّك؟!

وهل وقفتَ يوماً بين يدَي الله جلّ في علاه فعرضتَ نفسك للبيع برغم تفاهتها وقلتَ له: هذا أنا قد سلّمتُ الأمر إليك فاقبلني بكرمك.. ليس لي إيّاك! فتحسَّستَ حينها الصعود وحلَّقت كحمائم الحرم فوق مآذنه؟!

قد أتقنّا جلد الذات سنينَ طويلة.. فكنّا نعتقد – لجهلٍ منا – أننا كلما حطّمنا النفس بعد ذنبٍ اقترفناه كان ذلك أحرى بنا وكلما كان القصاص أنجع كأنّنا نتشفّى من عدوٍ لنا لدود!.. وبذلك تذبل الروح مع الوقت وتذوب.. ولربما تموت بذرة الأمل بإعادة الحياة إلى قلبٍ اعتاد الأنين والتعب والانسحاق.. فهو كلّما حاول الصعود وجد جلد الذات يهوي به في وادٍ سحيقٍ من الألم.. ولربما وصل في نهاية المطاف إلى الانهيار التام كلّ ذلك تحت مسمّى دفع ثمن الذنوب.. وقد غفلت تلك النفس أنّ الله جلَّ في علاه هو غافر الذنب وقابل التوب.. وأنّ الله جلّ وعلا يكفيه أن يسمع أنين العبد التائب الذي تيقّن أن له رباً يغفر الذنوب ليغفر له! وقد فاتَ تلك العاتية التي أتقنت فنون جلد الذات أنّها لو لَم تُذنِب لذهب الله جلّ وعلا بها ولجاء بقومٍ يذنبون ويستغفرون الله فيغفر لهم.. فالمفتاح كلمة: اللهمّ أستغفرُكَ وأتوب إليك! بصدقٍ وخضوعٍ وتذلُّل وعزمٍ على عدم العودة أبداً.. فحينها فقط تكون الراحة والطمأنينة.. وحين تلتزم النفس بهذا المسلك فكم تكون قد خفَّفَت عن هذه الروح وهذا الجسد من مآسٍ واضطرابات وتعب.. وأطلقَت خيول الهمّة لمهمّاتٍ قيِّمة..

“اللهمَّ إني سقيم فاشفِني” يا له من دعاءٍ يجلو القلب وأنت تطوف بين جنبات هذه الكعبة التي أنعم الله جلّ وعلا علينا بها.. إني سقيم في بدني ونَفسي وبيدك الشفاء وأمرك بين الكاف والنون.. فتعطَّف.. “اللهمّ اجبر كسر قلبي” فَكَم لاقى من الخطوب حتى ما عاد يقوى على الصبر والتصبُّر.. ولكنك أنت الأعزّ الأكرم.. فتلطّف.. “اللهمَّ أرضِني” فكَم أرَدْنا الحصول على ما فاتنا ولم نرضَ.. بل تعلّقت أحلامنا بسرابٍ حسبناه ماءاً.. ويكأنّه لا يحلو بأعيننا إلا ما هو ليس بين أيدينا فنحسب وهج السعادة فيما هو بعيد عنا بُعد المُحال.. وكلما بعُد عنا الحُلُم ساقنا ذلك إلى الانزلاق في مدارك الحزن.. ولو وقفنا عند حديث الحبيب صلى الله عليه وسلّم أنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن أمر المسلم كله له خير لكُفينا!

أدعيةٌ متناثرة في زوايا الروح تقذفها حمماً من عينيك قبل حنجرتك وأنتَ تفيضُ بما قد خبَّأت في جعبةٍ ما عاد فيها متّسع للاستيعاب فكان في هذا القدوم والسعي سلوة لك وجلاء لهمومك.. والربّ أرحم..

وقد يعتقد المرء أنّ نقطة التغيير تنطلق من تلك البقعة المباركة إن مكّة أو المدينة.. وهي وإن كانت أقرب للحقيقة كونَ الإنسان في خلوةٍ مع ربه جل وعلا بعيداً عن الماديات التي تحيط به في حياته العادية إلاّ أنّه ليس بالشرط الأساس لتحقيق الرغبة في التغيير والتوبة والإياب.. فالهروب إلى تلك البقعة كلّما جنّ الألم ليس إلا هروباً من النفس ليس إلاّ.. وإنّما الخطوة الصعبة تكون في تلك المواجهة بين النفس وذاتها وعرض أمورها ونواقصها والتوكّل على الله جل وعلا في عزمٍ صادق على التغيير إلى الأفضل وطرح كلّ ما لا يليق بمسلمٍ يبتغي رضا ربّه جل وعلا والجِنان..

ومسك ختام الرحلة في الأعماق وبسط البضاعة المزجاة أمام الخالق جلّ وعلا.. يتمتم القلب بكلماتٍ وقد أناخ مطيّته بباب عفوه وكرمه.. أن يا الله.. ارزقني حبّك.. فأنا أتوق لأن أحبك حباً يملأ عليّ كياني.. ويُنسيني كلّ أَحَد.. إلاّك! أريد أن أعبدك لا خوفاً من نارك ولا رغبةً في جنّتك وإنّما لأنك ربٌّ تُعبَد.. أريد أن أعرفك أكثر! فدلّني عليك!

ومن هنا.. تبدأ رحلة التفتيش عنه جلَّ في علاه.. ولن ينعم القلب براحةٍ حتى يعرفه معرفةً تسوقه إلى التقوى في أعلى مراتبها.. فلم يعد يروي الروح ما استقر في أعماقها من معرفةٍ قد يشغلها عن ربّها جل وعلا أي طارئ أو انشغال.. أفلم يأن الوقت لزلزالٍ يدمِّر كل شهوةٍ ومعصية لتعود أرض الطاعة والخضوع مبسّطة سوية؟! فما نحن في هذه الحياة إلا كما قال الحبيب عليه الصلاة والسلام: “ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”.. وقد أقسم الجَنانُ أن لن يبرحها إلا بقلبٍ سليم ونفسٍ مطمئنة.. بإذن ربي.. وليأبَ من أبى!