إشراقات باهرة من سورة الأنعام 30
إشراقات باهرة من سورة الأنعام
( الفرق بين المؤمن والكافر )
د. فوّاز القاسم / سوريا
(( أو من كان ميتاً فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون )) .
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ; وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء , وتصور كل شيء , وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ ، بل يعرفها فقط من ذاقها . .
والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة ، لأنها تصدر عن الخالق العليم الخبير .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية , التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب ، وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله ، وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال , واستمداد , واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق والاستشراف والاطلاع ، وختم على الجوارح والمشاعر ، وتخبّط في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية , وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
وإن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . .
وإن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود , فهو منقطع الصلة بالوجود .
لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود ، في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
أما الإيمان والصلة بالله ، فهي تصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد .
ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان ، الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج , وفي ثراء من الروابط ، وفي ثراء من "الوجود" الزاخر الممتد اللاحب , الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فتتكشف له حقائق هذا الدين , ومنهجه في العمل والحركة , تكشفا عجيبا . .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . .
مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه ، ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته .
إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . .
بل هو منظومة متكاملة للحياة ، تتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معها الفطرة ، في ألفة عميقة ، وفي صداقة وثيقة , وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ; فتتكشف له حقائق الوجود , وحقائق الحياة , وحقائق الناس , وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:
(( أو من كان ميتا فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?)).
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها , ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . .
ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز , وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء , ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال , وتلتقط الشارد , وتطمئن الخائف , وتحرر المستعبد , وتكشف معالم الطريق للبشر ، وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ; الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة , وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات , لا مخرج له منها ? إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان !