حاجتنا إلى قافلة الفقهاء ( 2 )

عمر حيمري

انطلاقا من هذا الفهم للفقه ، كانت مسؤولية الفقهاء عظيمة ، وأعظم منها الصدع والجهر بالحق وتبيانه للناس ، وعدم كتمانه من أجل عرض الدنيا ، كالجاه ، أو المنصب ، أو المال ، أو التقرب إلى السلطان ... ومن يفعل ذلك يلق أثاما ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ويصدق عليه قول الحق سبحانه وتعالى : [ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولائك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ] ( سورة البقرة آية 174 ) .

على الفقيه باعتباره وارث النبي ، أن يكون مستعدا في كل زمان ومكان للمهمات والمسؤوليات الصعبة ، والتضحية بما يملك من مال وجاه وأهل وبنفسه التي بين جنبيه ، خصوصا إذا تعلق الأمر بنجدة المسلم ونصرته ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من امرئ مسلم يخذل امرئ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يجب فيه نصرته وما من امرئ ينصر مسلما في موضوع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضوع يحب فيه نصرته ) ( رواه أبو داود ) .

 فالفقيه ضمير الأمة ، وحارس سلوكياتها الأخلاقية ، وهو القائم على شؤونها الدينية ، والمرتب لأمورها الدنيوية . ومن ثم فهو المؤهل لمواجهة التيارات العلمانية الإلحادية ، ومحاربة الفساد ، وكشف وتعرية الفكر التخريبي الإلحادي أو السحري الخرافي وفضحه وبيان تهافته ، وهو المكلف شرعا قبل غيره بنشر الوعي والثقافة والمعرفة الدينية ، والعمل على تحقيق الحاكمية لله وحده ، دون عنف ، أو تطرف ، أو إقصاء للآخر ، أو حمله على قول أو فعل لا يريده ، بأي شكل من الأشكال . لقوله سبحانه وتعالى : [ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ] ( البقرة آية 256 ) وقوله سبحانه وتعالى [ ... فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ] ( سورة الغاشية آية 21 ـ22 ـ 23 ـ24 ـ 25 ـ 26 ) فالمسؤولية هنا محدد في الدعوة ، أما ما بعد الدعوة من استجابة ومساندة أو رفض ومعارضة ، فمرتبط بما في علم الله عن قلوب العباد واستعدادهم للهدي ، أو الضلال ، وليس للداعية شأن فيه ، فهو مكلف بوظيفة التذكير ، والتبليغ ، وغير مسؤول عن النتائج أو العاقبة ، لأن القلوب مملوكة لله وحده يقلبها كيف يشاء . ( إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء .) ( صحيح مسلم ) وهذا لا يتم إلا من خلال شقين : أحدهما نظري ، وهو المتعلق بخطب الجمعة ، ودروس الوعظ والإرشاد ، وتقديم النصيحة والمشورة ، والإصلاح بين الناس ، والتأليف بين قلوبهم والجمع بالخير بينهم ، والتحبب والتقرب إليهم بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة ، وبالتسامح والعفو وخفض جناح الذل لهم ... والآخر عملي تطبيقي جهادي نفسي ... وكل من الشقين ، يحتاج إلى أخلاق عالية ، وإلى امتلاك رؤية اجتماعية ، سياسية ، وإلى معرفة تدبيرية اقتصادية ، شرعية مرتبطة بالواقع ومتغيرة بتغير النوازل ، التي تجد في حياة الناس ، وفي الزمان والمكان وتتبدل وتتحول بتبدل الأحداث والوقائع . ( نموذج الإمام الشافعي : اختلاف اجتهاده في الفروع نتيجة مراجعته لأصوله في الاستنباط وإعادته الاجتهاد بناء على قياس أو دليل أقوى من سابقه . وهذا ما أدى إلى إعادة بناء فقهه في مصر المخالف لفقهه في العراق ، وإن كان ذلك لم يمس جوهر فقهه بل فروعه فقط ) .

على الفقهاء أن يهتموا بتشخيص مشاكل الناس ، وما يشغلهم من قضايا دينية ودنيوية ، دون تمييز بين الخاصة والعامة ، ومحاولة حلها ، دون تفويت فرصة تقديم أنفسهم إلى الفقراء والمنبوذين في المجتمع بشكل مقبول وشرعي ، كمتضامنين معهم ، وكبديل لإنقاذهم من الفقر ومن الاستغلال البشع على المستوى المادي والمعنوي والأخلاقي ، ومن المعانات من الدونية وسوء المعاملة والتهميش ، ومحاولة مساعدة الناس وقضاء حاجاتهم وخاصة المعيشية منها دون إفساح المجال للإيديولوجيات العلمانية ومشاريعها التغريبية ، المناهضة والمعادية لديننا وواقع أمتنا بالتدخل في شؤوننا الدينية والأخلاقية والاجتماعية . يقول الدكتور عبد المجيد بنمسعود : ( ... إن الذي ينتصب للجواب على هذا السؤال ، أو الأسئلة ليس كل من هب ودب ، وإنما هم أهل الشأن من العلماء والخبراء الذين يمثلون ضمير الأمة ، وهم ربابنتها على مستوى التوجيه الفكري والقيمي ، وتقتضي مصلحة الأمة عدم إفساح المجال لشرذمة الإيديولوجيين الأغراب عن واقع الأمة وحقيقتها ليدلوا بدلائلهم إلا السم الزعاف أو في أقل تقدير يجب إهمال أقوالهم والضرب بها عرض الحائط ، لأنه لا يورث إلا الضلال والخبال . إن الرشد يقتضي من الأمة أن تعرض مشاكلها على شرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .) ( نقلا عن مقال نشر في موقع وجدة سيتي لعبد المجيد بنمسعود تحت عنوان إجهاض أجنة أم إجهاض أمة بتاريخ 8\5\2015 ) . هذا إلى جانب العمل على تغيير الوضع الاقتصادي في البلاد ، وتحقيق متطلبات المجتمع الضرورية ، كالتعليم ، والشغل ، ومحو الأمية ، ومساعدة المرضى وذوي الحاجات عن طريق تشجيع المؤسسات المدنية ومجتمع المحسنين والمتطوعين على البذل والعطاء ، عملا بقوله سبحانه وتعالى : [ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ] ( آل عمران آية 92 ) وعن طريق إقناع المجتمع الإسلامي بالاستجابة لما شرعه الله من زكاة الأموال ، وصدقة الفطر ، والكفارة ، والصدقة ، والقرض الحسن ، والوصية ، وتفعيل القف الخيري ، ألإحساني، وإحياء دوره وبعثه من جديد ليحقق أهدافه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية ، وليجسد التضامن والتكافل بكل أنواعه المادية والمعنوية . ثم العمل على رفع الظلم عن الناس بما شرعه الله ، وحفزهم على التضامن مع بعضهم البعض ، وتربيتهم على الأخلاق الحميدة ، وشحنهم بالمبادئ الإسلامية الرفيعة على مستوى القول والفعل ، وربطهم بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جمع مكارم الأخلاق إذ قال : { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } ( صححه الألباني في الصحيحة ) وشهد القرآن له بذلك فقال : [ وإنك لعلى خلق عظيم ] ( سورة القلم آية 4 ) . وخديجة رضي الله عنها من فرط إيمانها وقناعتها لما علمته وعايشته من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة ، تقسم بالله على عدم خزي الله لنبيه ، فتقول : { ... كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق } ( حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ).