إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً

شريف قاسم

[email protected]

بات خروج أمتنا من دياجير أوضاعها المتردية ضرورة ... ضرورة لها كي تتخلص مما عراها من نوازل ورزايا وأحداث ، وضرورة عالمية إنسانية لإنقاذ البشرية المعذبة مما هو محدق بها ، ذلك لأنها الأمة الوحيدة المؤهلة لهذا التكليف ، فهي تعيش المحنة الكبرى ، والبشرية كذلك مازالت خطاها تتعثر على أيدي السفهاء والأشرار من مختلف الأجناس والبلدان . وإن أهلية أمتنا لهذا الشأن ماثلة أمام أهل البصائر ، ماثلة من خلال أثر الوحي الذي منحها تلك الأهلية ، وحباها بتلك القدرة ، واجتباها لهذا التكليف ، فهي الأمة القادرة ــ بمشيئة الله ــ على تخطِّي كلَّ العقبات والأرزاء والأخطار ، ولعل إسهاماتها العالمية حين عاشت تعمل بمنهج الله الرباني المكين في زمن مضى مازالت حيَّة في نفوس أبنائها الأبرار ، فهي القادرة على صناعة مفاتيح الخلاص ، وفتح أبواب النجاة ، وبذل قيم الخير والمحبة والسلام في ربوع الأرض .

فالدول الاستعمارية الكبرى الآثمة !!! التي تتحكم بأحوال الناس في هذا العصر فضحها انحيازُها للشَّر ، وانكشفت عورتُها أمام الشعوب ، وبان زيفُها فيما تدَّعيه من سعي إلى إقرار الأمن والسلام والإنصاف في دنيا الناس ، بل بات نفاقها لايحتاج إلى دليل في تعاملها مع الدول الضعيفة ، إن جبروت تلك الدول الآثمة واستكبارها ، وما تملكه من قوة مادية أخرست ألسنة الحق هنا وهناك في مواقف لاتخفى على أحد ، وإن تمرد بعض القوى في بعض الشعوب ألبس تلك الدول الكبرى الآثمة ثياب الضعف والمراوغة في مواقف ماعادت تخفى على أحد أيضا . إنه نفاق المصالح .

وهنا تتجلى ضرورة عودة أمتنا إلى مكانها المحمود المسؤول ، وإلى مكانتها العالمية ، وإلى المآثر التي تتبنَّاها هذه الأمة للناس كافة . فهي الأمة التي استجابت لنداء الله ، وحملت لواء الرحمة والإخاء للخلق أجمعين ، وآمنت بكل ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأصاخ أفرادها لأوامر الله ، من غير تلكؤ ولا تردد ولا ضعف ، فطابت بهم الحياة ، واطمأن إليهم الناس ، وما كان ذلك لهم إلا لأنهم انقادوا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله عزَّ وجلَّ : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ) 36/الأحزاب . ومن هنا كانت صياغة الأمة ... الأمة الواحدة الموحدة لربها ، العابدة له سبحانه ، فاستحقت وسام الشرف الأعلى أن الله هو ربها ومولاها : (وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتقونِ ) 52/ المؤمنون. وإن لهذة الأمة خصائص يندر أن نجدها في أمة أخرى ، خصائص كثيرة ومتنوعة في كل مجالات الحياة ، ولعلنا نقف على خاصية إقامة العدل بين أبناء المجتمع ، وبين أهل الاختلاف من الأمم الأخرى ، فالظلم ليس له مكان في الحكم الإسلامي ، والظلم ظلمات يوم القيامة ، وما عشعش الظلم في أمة من الأمم إلا أضعفَها وأخَّرَها وأفناها ، وَلْنُصْغِ إلى هذا الأثر النبوي العظيم ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ... بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ

فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا . قَالَ : يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَدَقَتْ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ) . أخرجه ابن حبَّان في صحيحه وإسناده قويٌّ. واقرأ مرة أخرى قول تلك العجوز : ( سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا ) . أجل إنه موقف مخيف يزلزل القلوب ، فأبناء الأمة الذين يشعرون هذا الشعور لايكمن لهم أن يظلموا أو يعتدوا ، وبالتالي لن تجد عندهم إلا الحق والطمأنينة والعدل . فلا مكان للأهواء في ظلال تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء ، ولا أحد يصغي لصوت الباطل مهما كان مصدره ، إنما هو حكم الله وأمره سبحانه ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) 49/ المائدة ، وتبقى صورُ إقامةِ العدلِ في المجتمع الإسلامي مشرقةً ناصعةً خالدة ، قال صلى الله عليه وسلَّمَ : « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ

سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » أخرجه البخاري ومسلمٌ واللَّفظ لمسلمٍ. فالخروج من قيود الأهواء والمصالح ، والتغلب على الشهوات والنزغات والمصالح الشخصية تصنع من الفرد المسلم إنسانا ربانيا ، وتغلق أمامه أبواب الفتن والشرور ، والعمل بما في شريعة الله هو السمو والرقي للمجتمع وللإنسانية ، فشريعة الإسلام التي تحملها هذه الأمة هي الكمال والجمال للحياة الطيبة المباركة ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاّ وُضِعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين ) ، وحين ابتعد بعض المسلمين عن دينهم ، وصنعوا أحزابهم ومللهم أصاب الأمة مانراه اليوم من ظلم ودمار وقتل وتشريد ، إضافة إلى الضعف والخور والاستكانة التي أقعدت الأمة ، ورمتها بين أحضان الطواغيت والخونة ، وبائعي دينهم لأعدائهم بعرض من الدنيا حقير . وهذه الفرق هلكت وأهلكت الأمة ، ولم تبق غير الفرقة الناجية التي مازالت على العهد والميثاق تستحث الأمة للعودة إلى مواطن قوتها وعزتها . وما زالت تدعو الجميع إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلى اتباع الشريعة التي أنزلها الله رحمة لهم ولأمتهم وللبشرية كلها . فالسمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) 51/النور ، وتتلاشى الأهواء الشخصية أمام حكم الشرع : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) 1/ الحجرات ، ويقول الله تعالى : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) 18/الجاثية ، ويقول سبحانه : ( إن الحكمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) 40/ يوسف ، وأخيرا لاإيمان بحق مالم يُحكَّم شرعُ الله ، ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) 65/النساء .

الآيات بيِّنات لاتحتاج إلى تفسير ، واضحات لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ولكن مصيبة أمتنا اليوم هؤلاء الذين لايعلمون مدى خطورة حكمهم وظلمهم وتعنتهم على أنفسهم وعلى أمتهم ، فكيف يمكن أن ترتفع الأمة إلى مستوى الأحداث العالمية ، وهي مقيدة بقيود الظلم والبطش والأهواء ؟! أين أولئك الذين يستمعون ويصغون إلى معاني هذه الآيات التي أنزلها الله على أمتهم ؟

·        يقول تعالى: (ياأيها الناس قد جاءَكم برهان من ربكم ) 174/النساء

·        و يقول تعالى: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) 158/الأعراف .

·        ويقول تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) 107/(الأنبياء.

·        ويقول تعالى ( قل لا أسئلكم عليه أجراً إن هو إلاَّ ذكرى للعالمين) 90/(الأنعام .

·        وأخيرا ... يقول المولى تبارك وتعالى : (فأين تذهبون ؟ إن هو إلا ذكرٌ للعالمين ) . فالقرآن هو الحق ، وهو البرهان ، وهو البلاغ المبين ، وهو النذير : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ )... وفي كل ذلك وحي منزل نقرؤه آناء الليل وأطراف النهار ! . وهنا النتيجة التي لامحيص عنها ، لاعزة لهذه الأمة إلا بالإسلام ، ولا استرجاع لمكانتها إلا بالإسلام ، وسيبقى الإسلام هو الأمل وهو المنتصر في آخر المطاف ، يقول الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ... ) ، أجل ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، ولو كره المرجفون ، ولو كره الطغاة الظالمون ، ولو كرهت ماتُسمَّى بالدول العظمى في زمن الابتلاء والتمحيص والصبر الجميل.