ولا تنسوا الفضل بينكم

حشاني زغيدي

أية عظيمة نحفظها جميعا قوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم)، هذه الآية الكريمة التي جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، و إن القيم المستخلصة تتجاوز حدود قضية الطلاق فالفضل قيمة راقية لا تنعدم بين الناس فالفضل بين الناس باق و أثره دائم و قد أكدها الشاعرالحطيئة بيته المشهور

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

فإن نسيان الفضل دليل على قلة المروءة و ضعف في الخلق و نقص في كمال الرجولة فالسوي لا يعدم المعروف المسدى إليه لأن من صفات الرجولة الكرم و من صفاتها الوفاء و صفاتها صون العشرة و حفظها . كما قال شاعرنا :

إن الوفاء على الكرام فريضة *** واللؤم مقرون بذي النسيان

وترى الكريم لمن يعاشر حافظا *** وترى اللئيم مضيع الإخوان

أحسب إن الفضل خلق تجلى ناصعا في خلق الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم حتى أصبحت من لطائفه المميزة لسيرته العطرة و قد استوقفني ذلك الموقف العملي لقصة الرسول في الطائف و قد تعرض لأذى الكفار فرجع مكة في حماية مطعم بن عدي الرجل المشرك فدخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك فحفظ الرسول لمطعم نبل الخلق و لم يغب عن ناظر الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك الصنيع .و مات مطعم مشركا و دارت الدوائر على قريش فوقع منهم الأسرى في غزوة بدر الكبرى فأراد الرسول أن يمتن لذلك الصنيع كما ورد في البخاري ـ: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له . والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت؛ ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار، فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير. إذا كان الفضل يحفظ للكفار فما بالك بالفضل بين المسلمين

إن الروابط في الأمة كثيرة و في الكثير تبنى على هذه القاعدة القرآنية الرائعة قاعدة الفضل . فالفضل الذي ينشأ و ينمو من خلال صقل النفس و تهذيبها و تحصيل ثمرتها بالمجاهدة المستمدة من نبع التربية الأصيلة المحصنة بمنهج التوسط و الاعتدال و هي العاصمة عند وقوع الاختلال و التصدع حين تهتز الثقة بين الشركاء فتختل الموازين و هو أمر طبيعي لا يستبعد حصوله و لكن ضامن السلامة و رسوخ هذا الخلق بين الناس و بين الشركاء و الأصدقاء و الإخوان و قد ((بمناسبة قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} ذكر ابن كثير كلامًا أخرجه ابن مردويْه عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليأتين على الناس زمان عضوض، يعضّ المؤمن على ما في يديه، وينسى الفضل، وقد قال تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم}. فإن صمام الآمان الذي يحفظ اللحمة و يديم التواصل و يبقي الوداد و يحيي التنسيق في الأمور الكبيرة هو بلوغ الفضل بين أهله بتحصيل الفهم الشامل لمنهج التوسط و الاعتدال فما نراه من تردي من أصحاب أنصاف الإفهام المشوهة أو أصحاب الأمزجة المتقلبة أو المطامح المغمورة بالنزوات أو النفوس الضعيفة التي لا نحسن مقاومة التيار فتسقط في الوحل فلا ترعى الفضل للمربي و لا ترعى الفضل للأستاذ و لا ترعى للمحسن و لا ترعى الفضل لصاحب البذل فكل هذا نزوح عن عظمة هذا الخلق الراقي علينا أن نجسد العمل بهذا الخلق الدعوي المحمود، لأنه من أخلاق القرآن والسنة. والمطلوب اليوم، كما كان بالأمس والمطلوب غدًا وبعد غد إلى ما شاء الله لنسعد بهذا التوجيه القرآني الكريم {ولا تنسوا الفضل بينكم}. .