القادة بين التقديس والتبخيس
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
في ظل التجاذبات والتباينات والبيانات والردود المتتالية التي ميزت واقع الجماعة في بعض الأقطار كمصر والأردن وقبلهما في الجزائر والسودان ولبنان والصومال وغيرها، والإصطفافات الداخلية الواقعة نتيجة لذلك، تغيب خلالها الرؤية التربوية والعلمية والشرعية في التعامل مع القادة تحديدا، وننسى أو نتناسى القواعد والضوابط المنهجية لهذا التعامل، ونقع تحت ضغط هذا التجاذب والاصطفاف الناتج بطبيعة الحال عن صعوبة الوضع وشراسة المحنة خاصة في مصر، فنتجاوز الحدود ونميل إلى المبالغة في النظر إلى القادة حتى نصل بهم إلى هالة من التقديس ننفي عنهم كل خطأ، ونحيطهم بنوع من العصمة يجعلهم فوق النقد الموضوعي النزيه الذي ينطبق عليه قول الشاعر:
ويعلم الله أني ما انتقدتك إلا طمعا أن أراك فوق انتقاد
هذا المنطق في التعامل مع القادة مرفوض وبعيد عن الأصول المنهجية والخلفية الفكرية والآداب الشرعية والضوابط التربوية، لأنه في اعتقادنا أن الخطأ سنة البشر، وأنه مهما كان القائد من أهل الفضل فهو من البشر، لذا لابد أن ينظر إليه وفق هذا الميزان، ولا ينظر إليه على أنه من الملائكة، فالبحث عن الكمال مستحيل، وهو أمر يضر بالقائد من ناحية تبرير أخطائه، وعدم مساعدته على تجاوزها بالنصيحة والتنبيه المهذب، ويضر بالجماعة من حيث تحملها لتبعات أخطاء القائد، وتكريسا للسلبية داخل الصف في معالجة الأخطاء على كل مستوياتها الهيكلية. فإشاعة أجواء القداسة في الجماعة في جميع مواقعها سواء القيادية أو القاعدية أمر يتناقض والفطرة الإنسانية والسنن الكونية والمبادئ الشرعية والتربوية، وأضراره على الفرد والمجموع كثيرة لا تحصى، والتاريخ حافل بذلك لا داعية لاستحضاره هنا.
لكن بالمقابل البعض بحجة رفض منطق التقديس هذا يقع في محذور آخر يساويه خطورة ويماثله أضرارا وقد يكون أكبر وأشد خطرا منه وهو منطق التبخيس، بحيث يغمض عينيه عن كل فضل وسبق لهذا القائد، ويدفن كل حسنة له، ويصوره شيطانا رجيما في بعض الأحيان لا اثر للخير في ساحته، أو بهلولا ساذجا لا يحسن التعامل مع الأحداث والظروف، أو في أقل تقدير يصوّر على أنه ممن تنطبق عليهم صفة ((غفلات الصالحين)) بشكل دائم، ويتعامل معه بمنهج أعداء المروءة الذي صوره النسابة البكري لما سأل رؤبة بن الحجاج عنهم فقال له:((هم بنو عم السوء إن رأوا حسنا ستروه وإن رأوا سيئا أذاعوه)).
وهذه الطريقة في التعامل تخالف القاعدة القرآنية :(( َأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))(الأعراف85)، وقد جاء التعبير القرآني فيها بعد الكيل والميزان عاما يشمل أشياء الناس كلها فضلهم، علمهم، مكانتهم، وجاهتهم، مواقعهم، سبقهم، تاريخهم، جهدهم، جهادهم، تضحياتهم، كفاءتهم، قدراتهم...الخ، وكأنه يوحي بأن ظاهرة التبخيس هذه هي شكل من أشكال مرض التطفيف، وذيّل بالحديث عن الإفساد في الأرض وكأنه يوحي أن ظاهرة التبخيس هذه أحد مظاهر هذا الإفساد.
إن مظاهر التبخيس كثيرة ومتعددة لكن نذكر البعض منها:
1 ـ النقد الجارح: ليس العيب في النقد ولكن في طريقة ممارسته خاصة في مسألة مهمة كمسألة التعامل مع القادة، وفي مرحلة غير عادية وصعبة والمتربصين من كل ناحية، وقد أصّل لنا العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله قاعدة مهمة في ممارسة النقد للرجال لما قال:((إذا لزم النقد فلا يكون الباعث عليه الحقد، ولكن موجها إلى الآراء بالتمحيص، لا إلى الأشخاص بالتنقيص))، فضبط الأمر بأن يكون الدافع له شريفا ومشروعا، وأن يتوجه إلى الآراء والمواقف والتصورات بالغربلة والتمحيص، ولا يجب أن يصل الأمر إلى الأشخاص بالجرح والتنقيص والتطاول، فإن وصل إلى ذلك فإن الباعث يصبح مختلفا: كالخصومة والحقد والحسد والمنافسة غير الشريفة على التصدر، وكلها أمراض خطيرة إذا وجدت فإنها:((تطيش بألباب ذويها فتتدلى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمروءة، والكبائر الموجبة للعنة، وعين السخط تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل، وتضخم الرذائل، وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب، وذلك كله مما يسخطه الإسلام ويحاذر وقوعه ويرى منعه أفضل القربات)) كما ذكر الشيخ الغزالي رحمه الله .
2 ـ الحيف وعدم الإنصاف : حتى وإن كنا نقر بمشروعية ممارسة الجرح والتعديل في مثل هذه القضية، فلا يجب أن تطيش بنا أهواء النفوس ووساوس شياطين الجن والإنس، إلى جعل الأمر جرحا وجرحا ولا أثر للتعديل فيه، وهو يخالف ابسط أبجديات هذا الفن، ولو تتبعنا منهج أحد أساطين هذا العلم وأعمدته وهو الإمام الذهبي رحمه الله لوجدنا أن أهم عنصر يجب أن يتوفر عند الحديث عن الرجال تحديدا هو العدل والإنصاف، فأنظر إليه مثلا وهو يتحدث عن الجاحظ الأديب المعتزلي فيقول عنه:((العلامة المتبحر ذو الفنون، وكان احد الأذكياء .. وكان ماجنا قليل الدين، له نوادر))، كذلك عند حديثه عن الخليفة المأمون وهو الذي امتحن العلماء في قضية خلق القرآن:((وكان من أكثر رجال بني العباس حزما وعزما ورأيا وعقلا وهيبة وحلما، ومحاسنه كثيرة في الجملة)) ، وقد سبق الإمام الذهبي في تأصيل هذه القاعدة سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله بقوله:((ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله)).
3 ـ إشاعة العيوب دون الفضائل: إن التركيز على نشر العيوب والنقائص وإشاعتها وترويجها دون الفضائل من أهم مظاهر التبخيس التي نتحدث عنها، لأن تكريس ذلك قد يوصل إلى مرتبة خطيرة نربأ بأنفسنا وإخواننا الوقوع فيها والوصول إليها مهما كانت درجة الاختلاف والتباين والضغط ، هذه المرتبة هي إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا كما قال تعالى:(( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))(النور19)، وقد أبدع سيد رحمه الله في تعليقه على الآية الكريمة وهو يشير إلى خطورة هذه الظاهرة بقوله:(( إن إشاعة أخبار الأفراد السيئة أو تجريحهم، يترك المجال واسعا بعد ذلك لتجريح كل أفراد الجماعة، فتصبح الجماعة بمجموعها ذات سمعة ملوثة، وكل فرد فيها مهدد بالاتهام، وفوق ذلك فإن اطراد التهم يوحي بأن جو الجماعة ملوث، وصفها غير نظيف، وجوها آسن، وبعد ذلك تهون التهم في حس الأفراد وتقل بشاعتها بكثرة الترداد، والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة، كما تخسر بشيوع الاتهام والترخيص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة... وفوق ذلك الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس)).
إن التمادي في ممارسة كل هذه المظاهر وغيرها ــ مهما كانت المبررات ــ وتجاوز الضوابط التربوية والشرعية والاعتدال وسعة الأفق في ذلك، والسكوت عليها، بل وصناعة المبررات لها، من شأنه أن يكرس سلوكات خطيرة على الفرد والجماعة ومشروعها حاضرا ومستقبلا، لعل أخطرها تجرئة الكل على الكل صغارا وكبارا، ومن ثم تضيع الهيبة والسمت والتميز التربوي والتنظيمي، ويتم الابتعاد شيئا فشيئا عن التصور الإخواني للقيادة كما حدده الإمام البنا ذاته بقوله :((فالقائد جزء من الدعوة ، ولا دعوة بغير قيادة ، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب:(( فأولى لهم طاعة وقول معروف))، ولها ــ أي القيادة ــ حق الوالد بالرابطة القلبية والأستاذ بالإفادة العلمية والشيخ بالتربية الروحية والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات))، مع تأكيدنا أن الثقة لا تعني مطلقا التسليم المطلق وعدم إبداء الرأي أو تبرير الأخطاء أو تغييب النقد المهذب البناء ولو في أصعب الظروف والأجواء.
فالتقديس مرفوض كما أن التبخيس مرفوض كذلك ، والاعتدال والتوسط هو الحق والخير والواجب الذي ينبغي أن يحرص عليه الجميع.
عواصم تربوية حافظة في الموضوع:
ــ العاصمة الأولى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه))( السلسلة الصحيحة).
ــ العاصمة الثانية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله: المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت))( رواه أحمد).
ــ العاصمة الثالثة: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:(( ما انتجى قوم في دينهم دون جماعتهم، إلا كانوا على تأسيس ضلالة)).
ــ العاصمة الرابعة: قال عبد الواحد قلت للحسن ــ أي البصري ــ:(( يا أبا سعيد اخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه، قال: يا ابن أخي كم يد عقرت الناقة (ناقة صالح عليه السلام)؟ قلت: يد واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعا برضاهم وتماليهم؟ )).
ــ العاصمة الخامسة: قال الإمام السبكي رحمه الله:((بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه ، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه: من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه، لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون)).