قدوة القيادة في الإسلام 29
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة التاسعة والعشرون :
الخبرة القتالية والميدانية
د. فوّاز القاسم / سوريا
لم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، قائداً ستراتيجياً بارعاً فحسب ، بل كان قائداً تكتيكيّاً ميدانياً من طراز متميّز أيضاً ..!
فلقد قاد بنفسه أكثر من تسعة وعشرين غزوة ، وسيّر من البعوث والسرايا ، حوالي ستة وخمسين سريّة .
كل ذلك في غضون عشرة أعوام ، أي أنه كان يفجِّر معركة كل شهر تقريباً ، ولم يخسر منها معركة واحدة .
أما ما أصاب المسلمين في معركة أُحد ، فلم يكن هزيمة بالمعنى الحقيقي للهزيمة ، بل كان مفخرة حقيقية له شخصياً أيضاً .
فلقد كان لتخطيطه الرائع للمعركة ، وقيادته المتألقة لها ، الدور الأكبر في تحقيق النصر في بداية المعركة .
ولولا مخالفة الرماة ، وعصيانهم لأوامر قيادتهم ، لما حل بالمسلمين الذي حلّ بهم .
ومع ذلك ، فقد كان لحضوره الرائع ، وشجاعته النادرة ، وثباته الراسخ ، وقيادته الحكيمة ، الدور الأكبر في التخفيف من وقع المحنة على أصحابه ، والخروج منها بأقل الخسائر الممكنة .
ويكفي لكي ندلل على أهمية الدور الذي كان يلعبه حضوره الشخصي على رأس جنوده في قلب الأحداث ، أن نذكّر بالشائعة التي روَّجها المشركون عن مقتله في المعركة ، حيث كان لها وقع الصاعقة على نفوس أصحابه ومعنوياتهم .
ولولا لطف الله ، ثم ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحضوره ، ورسوخه ، لسارت الأمور في غير الاتجاه الذي سارت فيه .!
ولم يكتف بذلك ، بل أحس بخطورة الجرح الذي خلَّفته المعركة في نفوس أصحابه ، فبادر فوراً إلى محو أثاره قبل أن يلتهب .!
فأقبل على جنوده يجمع شملهم ، ويعيد تنظيمهم ، ويكفكف أحزانهم ،
ثم قادهم ، هم أنفسهم ، وجراحاتهم تنزف ، فطارد بهم عدوهم حتى حمراء الأسد .!
ولقد كانت تلك الحركة منه صلى الله عليه وسلم ، إلتفاتة عسكرية مدهشة في حينها ، إذ لولاها لكرّ المشركون على المسلمين فاستأصلوا شأفتهم .!
قال ابن اسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليَّ بن أبي طالب ، فقال : اخرج في آثار القوم ، فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون !؟ فإن كانوا قد جنّبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل ، و ساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده ، لئن أرادوها ، لأسيرنّ إليهم ، ثم لأناجزنّهم فيها.
قال عليّ : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجّنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجّهوا إلى مكة .
وقال أيضاً يصف خروج رسول الله صلى الله عليهم لمطاردتهم :
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال .
فأقام بها ثلاثة أيام ، فمرّ به معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة ، عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمهم ، ومشركهم ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال : يا محمد ، أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم .
ثم خرج ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى المسلمين ، وقالوا : قد أصبنا حدّهم ، وقادتهم ، وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصل شأفتهم ، والله لنكرنَّ على بقيتهم ، فلنفرغنَّ منهم .!
فلما رأى أبو سفيان معبداً ، قال : ما وراءك ، يا معبد .!؟
قال : محمدٌ ، قد خرج في أصحابه يطلبكم ، في جمع لم أر مثله قط.
يتحرّقون عليكم تحرّقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا .!
فيهم من الحنق عليكم ، شيء لم أر مثله قط .!
قال : ويحك ، ما تقول .!؟
قال : والله ، ما أرى أن ترتحل ، حتى أرى نواصي الخيل .!
قال : فو الله ، لقد أجمعنا الكرَّة عليهم لنستأصل بقيّتهم .!
قال : فإني أنهاك عن ذلك ..
قال : فما هي إلا أن أذّن أبو سفيان في جنوده وارتحلوا إلى مكة .!
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبق في معاركه العسكرية أروع أساليب القتال ، وأحدث فنون العسكرية في عصره ، وهذه مجرد نماذج لبعض تلك الأساليب
* السرية والكتمان والمباغتة :
لقد رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة ، كيف تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم لثلاث هجرات ، طبقوا فيها أروع أساليب الكتمان والسرية .
وكذلك كانوا في المرحلة المدنية ، فلم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، يريد غزوة إلا ورّى بها غيرها ، وذلك إمعاناً في السرية ، ولغرض تحقيق عنصر المفاجأة والمباغتة في الحرب .
وكانت عيونه الساهرة ( مخابراته) تنقل له أخبار قريش وحلفاءها أولاً بأول ، ولم يحدث أن تجمعوا للإغارة عليه ، إلا باغتهم في أماكنهم قبل أن تكتمل خططهم .
ولقد ذكرنا أنه قاد بنفسه أكثر من تسعة وعشرين غزوة ، وسيَّر حوالي ستة وخمسين سريّة ، أي كان يفجر معركة في كل شهر تقريباً ، ولم يخسر منها معركة واحدة ، فهل يتم ذلك إلا بناءً على تخطيط مبدع ، ومخابرات متفوّقة !؟
ولقد كانت حادثة حاطب بن أبي بلتعة ، أروع مثل على إثبات هذه الحقيقة .
قال ابن اسحاق : وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وأمر الناس بالجد والتهيؤ ، وقال : (( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش ، حتى نبغتها في بلادها )).
وبينما كان المسلمون يتجهزون للفتح ، إذ أرسل حاطب بن أبي بلتعة رسالة إلى قريش يعلمهم فيها بنيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، ولقد كانت هذه من حاطب رضي الله عنه ، هفوة عظيمة ، لو تمت لأحبطت كل مخططات الرسول صلى الله عليه وسلم وتدبيراته .!
ولكن سرعان ما نزل الوحي وأخبر النبيَ الكريم بالحادثة ، فأرسل النبيُ الكريم صلى الله عليه وسلم ، علياً والزبير رضي الله عنهما ، فاسترجعا الرسالة ، في القصة المشهورة .
وفعلاً ، فقد كان للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ما أراد من مفاجأة قريش على حين غرّة من أمرها ، وكان الفتح العظيم ، الذي أذل الشرك في مكة ، واقتلع الأصنام من جزيرة العرب إلى الأبد .
* القوة والردع العسكري :
يخطيء كثيراً من يظن ، بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان مجرد واعظ ، يلقي بمواعظه البليغة في الهواء ويمضي في طريقه . أو مجرَّد ناسك متبتل ، تملأ قلبه الرحمة ، فيوزعها يميناً وشمالاً ، على من يستحق ، أو لا يستحق من الناس .!
لا .. أبداً .. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان إنساناً متكاملاً ، جمع في شخصيته الفذة ، كل مواصفات المؤمن الرباني .
فهو زاهد متبتل في محاريب الإيمان ، ولكنه أسد هصور في ميادين القتال والجهاد .
ولقد تلقى أوامر الوحي في سورة الأنفال ، التي نزلت تعقيباً على معركة بدر ، في السنة الثانية للهجرة : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباطِ الخيلِ ، ترهبونَ به عدوَّ الله وعدوَّكم ، وآخرين من دونهم ، لا تعلمونهم ، الله يعلمُهم )) . الأنفال (60)
فبادر إلى تطبيقها بأعمق ما يكون الفهم ، وأروع ما يكون التطبيق .
فها هو يؤدب المعتدين على مدينته ، المروعين لإخوانه ، الخائنين لمعروفه ، فيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلّبهم في جذوع النخيل ، ويثمل أعينهم ، ليكونوا عبرة لكل خائن وغادر وجبان .!
قال ابن هشام : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نفر من قيس كبة ، من بُجيلة ، فاستوبؤوا في المدينة ، وطحلوا فيها ( أي أصابهم نوع من الوباء ، كان يترافق مع تضخم الطحال لدى المريض ).
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو خرجتم إلى اللِّقاح ، فشربتم من ألبانها وأبوالها ( وذلك رحمة بهم ، وإكراماً لهم ) ، فخرجوا .
فلما صحّوا ، وانطوت بطونهم ، عدَوا على راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذبحوه ، وغرزوا الشوك في عينيه ، واستاقوا اللِّقاح، وهربوا .!!!
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، كُرْز بن جابر ، فلحقهم ، فأتى بهم رسولَ الله ، مرجعه من غزوة ذي قَرَدْ ،
فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم .! هشام2 (641)
ولقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قتل بعض أعدائه صبراً .!
وأهدر دماء البعض الآخر ، من الموغلين في الإساءة للإسلام ، فأمر بقتلهم يوم الفتح ، حتى لو وُجدوا معلّقين بأستار الكعبة المشرَّفة .!
كما ثبت عنه أيضاً ، أنه قطع نخيل اليهود ، وهدم حصونهم ، وذلك عندما غدروا به ، وأوغلوا في عداوته .!
وأتلف كروم ثقيف في الطائف وأعنابهم ، وخرّب ممتلكاتهم ، ودك حصونهم بالدبابات والمنجنيقات ، وذلك عقوبة لهم على ما فعلوا بالمسلمين يوم حُنَيْن .!
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قتل بعض الأسرى ، وبعض النساء ، وعذَّب بعضهم ، عندما كانت تقتضي مصلحة دعوته ذلك ، وكان يقول : (( لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرّتين )) . البخاري ومسلم
ويقول : (( نُصرتُ بالرُّعبِ مسيرة شهر )). البخاري
ولعل أروع مثل على استخدام الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، لأسلوب القوة ، في ردع أعدائه ، ما كان منه يوم فتح مكة .
قال ابن اسحاق ، محدثاً عن بعض لقطات هذا الفتح المبارك :
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ الظهران ، قال العباس بن عبد المطلب : فقلت : واصباح قريش .!
والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ، قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، إنه لهلاك قريش حتى آخر الدهر .!
قال : فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجت عليها . قال : حتى جئت الأراك ، فقلت : لعلي أجد بعض الحطَّابة ، أو صاحب لبن ، أو ذا حاجة ، يأتي مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه ، قبل أن يدخل عليهم عنوة . قال : فوالله إني لأسير عليها ، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبُديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول :ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً.
قال : يقول له بُديل : هذه والله خزاعة ، حمشتها الحرب .!
قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها . قال : فعرفت صوته ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : أبو الفضل ؟ قلت : نعم . قال : ما لك ، فداك أبي وأمي !؟ قال : قلت : ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واصباح قريش والله .!
قال : فما الحيلة ، فداك أبي وأمي !؟ قال : قلت : والله لئن ظفر بك ليضربنَّ عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة ، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأستأمنه لك . قال : فركب خلفي ..
ثم ساق القصة التي انتهت بإسلامه ... إلى أن قال :
فلما ذهب لينصرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا عباس ، احبسه بمضيق الوادي عند خطْم الجبل ، حتى تمرَّ به جنودُ الله فيراها .! قال : فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي ، ومرّت القبائل على راياتها ، وكلما مرّت قبيلة قال : يا عباس ، من هذه ؟ فأقول : سُليم . فيقول : ما لي ولسُليم .! ثم تمرُّ القبيلة ، فيقول : يا عباس ، من هؤلاء ؟ فأقول : مُزَيْنة .
فيقول : ما لي ولمُزَيْنة .! حتى نفدت القبائل ، ما تمرُّ به قبيلة إلا سألني عنها ، فإذا أخبرته بهم . قال : ما لي ولبني فلان .
حتى مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في كتيبته الخضراء .
قال ابن هشام : وإنما قيل لها الخضراء ، لكثرة الحديد وظهوره فيها.
قال ابن اسحاق : فيها المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم ، لا يرى منهم إلا الحدَق من الحديد .! فقال : سبحان الله ، يا عباس ، من هؤلاء ؟ قال : قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المهاجرين والأنصار ، فقال : والله ما لأحد بهؤلاء من طاقة .!
والله يا أبا الفضل ، لقد أصبح ملكُ ابن أخيك الغداة عظيماً .!
قال : قلت : يا أبا سفيان ، إنها النبوة . قال : فنعم ، إذن …
قال : قلت : النجاء إلى قومك .!
فما هي إلا أن طار أبو سفيان إلى قومه ، وقد اسقط في يديه ، وخارت عزيمته ، وتحطمت أعصابه .!
فجعل يصرخ في طرقات مكة ، بأعلى صوته : يا معشر قريش ،
هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، فالنجاء النجاء .!
فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد .
* الأمن والحراسة :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائداً فطناً ، يأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر ليمنع أعداءه من أن يصيبوا منه غرّة ، فقد أخرج الشيخان ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أجود الناس ، وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق الناس قِبَل الصوت ، فتلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً ، وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة رضي الله عنه يجري ، وفي عنقه السيف ، وهو يقول :
لم تراعوا … لم تراعوا …
وكان يؤَمِّنُ أصحابه في أسفارهم ، ويأمر الجيوش باتخاذ الحرس في الغزوات .
قال ابن اسحاق : عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال :
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرِّقاع ، من نخل ، فأصاب رجلٌ امرأةً من المشركين .
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتى زوجُها ، وكان غائباً . فحلف بالله ، لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دماً .!
فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منزلاً ، فقال :(( مَنْ رجلٍ يكلؤُنا ليلتَنا هذه ؟ ))
قال : فانتدب رجل من المهاجرين ، وآخر من الأنصار ، فقالا :
نحن يا رسول الله . قال : فكونا بفم الشعب .
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب الوادي . قال : فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب ، قال الأنصاريُّ للمهاجريِّ : أي الليل تحب أن أكفيكه ، أوله أم آخره ؟
قال : بل اكفني أوله ، قال : فاضطجع المهاجريُّ ، فنام .
وقام الأنصاريُّ يصلي ؛ قال : وأتى الرجل ، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم ، فرمى بسهم فوضعه فيه .
قال : فنزعه ووضعه ، وثبت قائماً .! قال : ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه ، قال : فنزعه فوضعه ، وثبت قائماً .!
ثم عاد له بالثالث ، فوضعه فيه ، قال : فنزعه فوضعه ، ثم ركع وسجد ، ثم أهبَّ صاحبه ، فقال : اجلس ، فقد أُثبتُّ .! قال : فوثب .
فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به ، فهرب .
قال : ولما رأى المهاجريُّ ما بالأنصاريِّ من الدماء ،
قال : سبحان الله ! أفلا أهببتني ، أول ما رماك .!؟
قال : كنت في سورة من القرآن أقرؤها ، فلم أحب أن أقطعها قبل أن أنفدها ، فلما تابع عليَّ الرميَ ، ركعت فآذنتك .
وأيمُ الله ، لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ، لقطع نفسي قبل أن أقطعها وأُنفدها .!! هشام2(208)
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمّن ، حتى النساء والذراري ، في حروبه ، ليمنع الأعداء من أن يصلوا إليهم ، فيفُتّ ذلك في عزائم المجاهدين ، وينال من معنوياتهم .
قال ابن اسحاق متحدثاً عن معركة الخندق :
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء ، فجُعلوا في الآطام (أي الحصون ) .!! هشام 2 (220)
* تطبيق مباديء علم النفس العسكري :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يراعي الجانب النفسي والمعنوي في القتال مراعاة فائقة ؛ فيعمل كل ما من شأنه أن يرفع معنويات جنوده ، ويبذل كل ما بوسعه لتحطيمها في الجانب المعادي.
قال ابن اسحاق يروي قصة نقض يهود بني قريظة لمعاهدتهم مع المسلمين يوم الأحزاب .
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث سعد بن معاذ ، وكان يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة ، وكان يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة ، وخوّات بن جبير ، فقال :
انطلقوا ، حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم ، أم لا ؟
فإن كان حقاً ، فالحنوا لي لحناً أعرفه ، ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم ، فاجهروا به للناس. قال : فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، ثم أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، ثم قالوا : ( عضَل والقارة ) ، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع .! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ألله أكبر .. أبشروا ، يا معشر المسلمين )) . هشام 2 (222)
ولقد رأينا من قبل ، كيف مارس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان ، زعيم الشرك في مكة ، حرباً نفسية رائعة .!
إذ حبسه في فم الوادي ، وأخذت كتائب الإيمان تمر عليه فيراها ، فكانت تلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لفتة نفسيّة مدهشة ،
حطمت أعصاب الرجل ، وهو زعيم مكَّة ، وسحقت معنوياته ، ودفعته هو وقومه إلى الاستسلام بدون أية مقاومة تذكر .!
* خصوبة الذهن العسكري ، وابتكار أساليب قتالية جديدة :
هنالك من القادة من تكال لهم المدائح والإطراءات ، وتلهج وسائل الإعلام بذكرهم ، ويصير حديثهم على كل لسان ، ويوصفون بأنهم قادة يعيشون عصرهم .!
ولعمرو الله ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعيش عصره فحسب ، بل كان يغنيه ، ويثريه ، ويقوده ، ويرشّده .!!
ففي الجانب العسكري مثلاً ، ما كان العرب يعرفون أكثر من أسلوب الكرِّ والفرِّ في غاراتهم ، فابتكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
أسلوب الصفِّ في بدر ، وأسلوب التعبئة في أحد ، وأسلوب الخندق يوم الأحزاب . ولما استعصت عليه حصون اليهود ، أرسل مجموعة من أصحابه لتعلم صناعة الدبابات والمنجنيقات ، في جُرَش ، من الأردن ، وفعلاً ، لم يعد أصحابه إلا بعد أن تعلموا صناعتها ، فدك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حصون الطائف ، فكان بذلك أول من استخدم الدبابات ، ورمى بالمنجنيقات من العرب .!! هشام2 (483)
* الإستطلاع في عمق العدو :
لا يمكن لأي قائد مهما أوتي من صفات النبوغ والعبقرية ، أن يضع خطة ناجحة ، ما لم يعتمد على معلومات أكيدة وحديثة عن العدو .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعتمد في وضع خططه العسكرية ، وعملياته الجهادية ، على معلومات من عمق العدو ، فكان يقوم بالاستطلاع بنفسه في كثير من الأحيان ، أو يكلف به الثقاة والشجعان من أصحابه وجنوده ، أو يحصل على المعلومات من أسرى العدوّ . قال ابن اسحاق يحدث عن رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم لملاقاة المشركين في بدر : فركب هو ورجل من أصحابه، قال ابن هشام : الرجل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. حتى وقف على شيخ من العرب ، فسأله عن قريش ، وعن محمد وأصحابه ، وما بلغه عنهم . فقال الشيخ : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك. قال : أذاك بذاك ؟ قال : نعم .
قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن صدق الذي أخبرني ، فإنهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني ، فإنهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي فيه قريش .!
فلما فرغ من خبره ، قال : ممن أنتما ؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء ، ثم انصرف .!
قال : يقول الشيخ : من ماء .! أمن ماء العراق .!؟ هشام 2 (616)
وقال أيضاً : قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله ، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحبتموه .!؟
قال : نعم يا بن أخي ، قال : فكيف كنتم تصنعون ؟
قال : والله لقد كنا نجهد ؛ قال : والله لو أدركناه ، لما تركناه يمشي
على الأرض ، ولحملناه على أعناقنا .!
فقال حذيفة : يا بن أخي ، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّاً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : (( من رجل ، يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ، ثم يرجع ، يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة )). قال : فما قام أحد ، من شدّة الخوف والجوع والتعب .! فقال : قم يا حذبفة . قال : فلم يكن لي إلا أن أقوم ، إذ سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ساق القصة المعروفة ، التي دخل فيها حذيفة رضي الله عنه في معسكر المشركين ، وتعرف على أخبارهم عن كثب ، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأخبار انهيار معنوياتهم ، وهزيمتهم النفسية ، واندحارهم .!
وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هوازن ، يوم سمع بحشودهم له بعد فتح مكة ، فبعث إليهم عبد الله بن أبي حَدْرَدْ الأسلمي ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم ، حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم . فانطلق ابن أبي حدرد ، فدخل فيهم ، فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسمع من أمر زعيمهم ، مالك بن عوف ، وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الخبر ، فتجهز في اثني عشر ألف مقاتل وزحف إليهم .
ولقد كان يمارس الاستطلاع في عمق العدوِّ ، بكل ما جادت به قريحته العبقرية من أساليب ، منها مثلاً المجموعات الاستشهادية ، التي يسمّونها اليوم (المجموعات الانتحارية) أو ( الكوماندوس ).!
ولعلَّ أروع مثال عليها ، هي مجموعة الرسالة المختومة ، فقد أرسل النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، مجموعة من أصحابه ، على رأسهم عبد الله بن جحش رضي الله عنهم جميعاً ، وزوده برسالة مختومة ، وأمره أن لا يفضّها إلا بعد مسيرة يومين ، فإذا فتحها ، وفهم ما فيها ، مضى في تنفيذها ، دون أن يستكره أحداً من أصحابه.
وفعلاً ، فقد فتح الأمير الرسالة في الموعد المحدَّد ، فإذا مكتوب فيها:
(( بسم الله الرحمن الرحيم : إذا نظرت في كتابي هذا ، فامض حتى تنزل نخلة ( موضع قريب من مكة ) فترصَّد لنا قريشاً ، وتعلَّم لنا من أخبارهم )) ، عندها أطلعهم على مضمونها ، وخيَّرهم في المسير معه ، أو الرجوع إلى أهلهم ، ثم مضى في سبيله ، فما تخلَّف عنه أحد من أصحابه .
* الحرب خدعة :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجيز في أوقات الجهاد والحرب من الأساليب ، ما لا يجيزه في غيرها من الأوقات ، ومنها التورية ، والخدعة .
فلقد رأينا في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشيخ يوم بدر ، كيف استخدم أسلوب التورية من غير كذب .
وكذلك فعل مع نُعَيم بن مسعود ، يوم الأحزاب .
قال ابن اسحاق : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيما وصف الله من الخوف ، والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم إياهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم .
قال : ثم إن نُعَيم بن مسعود وهو من غَطَفان ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة )) .هشام 2 ( 229 )
وفعلاً ، خرج نُعَيم حتى أتى بني قُرَيْظة ، وكان لهم نديماً في الجاهلية ، فأوغر صدورهم على المشركين ، ثم خرج حتى أتى قريشاً ، فأوغر صدورهم على اليهود أيضاً .
وكذلك فعل مع قومه غَطَفان ، فبثّ الفرقة والشقاق في صفوف الأحزاب ، وقذف الله الرعب في قلوبهم ، فكان ذلك بعد تأييد الله وعونه ، من أهم أسباب هزيمتهم واندحارهم ..