صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين
ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة المائدة
[ الآيتان 51- 52 ]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)
هل تجوز موالاة اليهود والنصارى؟ إن من يقول بهذا يَدمُج نفسه فيهم، ويقف معهم في خندق واحد لأنه صار منهم وصاروا منه..
وما أشبه الليلة بالبارحة، إنها النفس الإنسانية الخاوية، الخالية من الإيمان التي ترى الدنيا أولاً، وترى الدنيا آخراً، تنظر إلى أمام أنفها ولا تستطيع النفاذ إلى حقيقة الحياة وحقيقة أن اليهود والنصارى بعضهم من بعض، وأن المسلم متميِّزٌ عنهم فهو عبد الله موحد له، وهو يعلم أن سفره إلى الآخرة حقٌّ لا تشوبه شائبة، وأن السفر يستتبع الزاد، وأن الزاد يجب أن يكون مبرأ من الهوى وحظ النفس.. وأن خير الزاد التقوى. وأين موالاة أهل الكتاب- أعدائنا- من التقوى؟!!
إن البراء من الشرك والمشركين أول الدرب إلى الله تعالى والوصول إليه سبحانه، وهل تكون موالاة من عبدوا عزيراً ومن عبدوا المسيح طريقاً إلى الله وقد رضوا أن يكونوا مشركين كفاراً "وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون ".
قال محمد بن إسحاق:
كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قَدِمت بجَلَب "ببضاعة" لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها،
فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجلٌ من المسلمين إلى الصائغ فقتله، وكان الصائغ يهودياً، وشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه.. فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال يا محمد أحسِنْ في مواليَّ ! فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ ! فاعرض عنه، فأدخل ابنُ سلولٍ يدَه في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي لامس صدره وشدد) فقال له (رسول الله): أرسلني (اتركني)، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً (تغير وجهه لغضبه) ثم قال: ويحك، أرسلني. قال: لا، والله: لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع. قد منعوني من الأحمر والأسود (من العرب والعجم) تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر (سوء المنقلب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك.
ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم من حِلْفه مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرَّأ إلى الله عزَّ وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. ففيه، وفي ابن سلول نزلت هذه القصة.
إن دين الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)(1) ومنهجه هو المنهج الكامل المنفرد بقدرته على معالجة مشاكل الحياة إلى يوم القيامة ولا لقاء بينه وبين التشريعات الأخرى، ولا مقاربة، وإلَّا لم تكن هناك حاجة إليه إذا كانت الشرائع قريبة منه.. فموقف الإسلام حاسمٌ وفاصلٌ من التشريعات الأخرى.
والذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون فَهْمَ معنى الأديان، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين الأخير المقبول عند الله (الإسلامُ)، ولا تسامح في ذلك.. إنما التسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور
الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي،( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (1).
أما الذين يرون اليهود والنصارى أكثر قوة من المسلمين، وأكثرَ عدداً، فيميلون إليهم، فإيمانهم ضعيف، والذين يرونهم أكثر غنى، والمصالح الاقتصادية أوفر حظاً معهم، إيمانهم ضعيف. والذين يقفون معهم ضد المسلمين، لأن المسلمين يريدون تحكيم القرآن وشريعة الله في الحياة، هؤلاء خرجوا عن الإسلام، ولو كانت أسماؤهم أسماءَ المسلمين، فالنصر من عند الله، وهل هناك من هو أقوى من الله؟!! والعزة من عنده والغنى بيده سبحانه، ولا ينسى هذا كلَّه إلا الضعيفُ المتهالك، الذي يرى نفسه دون أهل الكتاب.
وَوَصْفُ الله تعالى هذا الصنف الموالي لأهل الكتاب، أنهم " في قلوبهم مرض"، والسقيم المريض يتصرف بحمق، ويسيء التصرف، لأنه لا يعرف الخير من الشر إلا من زاويةٍ قاصرةٍ، ولو كان يعرف الله حق المعرفة، ويؤمن به حق الإيمان، تبرأ من موالاتهم واتخذهم أعداء.. لأنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً وتربصوا بنا الدوائر، ومكروا بنا وأعلنوا عدواتهم لنا.. فما الذي يجمعنا وإياهم؟!
إنه البراء والولاء.. البراء من الكافرين والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وليس من دون ذلك بصَّةٌ من إيمان.
ليس في قلبي سوى الإيمانِ باللهِ العظيم
فهوربِّي وهوحَسْبِي وهو بي البَرُّالرحيم
لا أُوالي في حياتي غيرمولاي الكريم
لا أوالي غير دين الـ مصطفى خيرِ الأنام
فهو حِبي، نورُ عيني وله مني السلام (1)
ما الذي يجمعنا وإياهم؟ والمفاصلة حدَّدها الله تعالى في قرآنه الكريم يعلنها على الملأ إلى قيام الساعة.. يعلنها منادياً المؤمنين أن يحذروا أهل الكتاب: ( فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء) (2) .
ومنادياً المسلمين الالتزام بالدين القويم، فالالتزام به يورث ثبات الإيمان، ودوامَ حب الله لهم، وزرْعَ حبِّه في قلوبهم، ويهبهم العزّة والمنَعة، ويجعلهم بالجهاد- سادة الدنيا وقادتها، فيدكون معاقل الكفر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ويتفضل عليهم بنعمه الكثيرة فهو واسع النعم.
ومنادياً المؤمنين موضحاً أنَّ اليهود أعداءٌ، اتخذوا الصلاة، قيامَها وركوعَها وسجودها مجالاً للسخرية من المسلمين والاستهزاء بهم، فأي ولايةٍ ولايتُهم؟؟!! وماذا يتبقى للمسلمين من كرامة وإيمان إن ارتضوا أهل الكتاب أولياء؟! إنها نداءات ثلاثة (1) حريٌّ بالمسلمين أن يَعُوْهَا
وأن يعملوا بها..
فلا لقاء بين المؤمنين الملتزمين بشرع الله.. وأبناء القردة والخنازير وعبدة الطواغيت، الذين غضب الله عليهم ولعنهم لعناً كبيراً، أبناء القردة والخنازير الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت.
أبناء القردة والخنازير الذين أساءوا إلى الذات الإلهية فوصفوا الله بالفقر والبخل وترفعوا عن ذلك..
أبناء القردة والخنازير الذين يسعون في الأرض فساداً ويؤجِّجون الحروب، ويسعِّرون نارها.
لا لقاء بينا وبينهم ،فالولاءَ الولاءَ، والبراءَ البراءَ.
(1) سورة آل عمران: الاية 19.
(1) سورة آل عمران: الآية 85 .
(1) الأبيات للمؤلف.
(2) سورة النساء: الآية 89.
(1) الآيات الثلاث 51- 54-57.
وسوم: العدد 623