من أسرار الصيام في رمضان
معين رفيق
مشرف اللغة العربية- تربية جنين
ستظلّ الأذهان قاصرة عن الإحاطة بالحكم الجليلة، والمعاني السامية التي تتحقّق للصائمين في شهر الصيام، شهر رمضان المبارك. ولكن القصور عن الإحاطة، لا يعني النكوص عن استمرار محاولة ممارسة التأمّل والاعتبار في ميدان الأسرار الجليلة لهذا الشهر الفضيل، الذي خصّه سبحانه، بأعظم آياته، وهي نزول القرآن الكريم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، كما اختص سبحانه عبادة الصوم لنفسه، فقال في الحديث القدسي: "كلُّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنّه لي، وأنا أجزي به.."[1].
ونجد أوّل ثمار الصوم في ذلك الإحساس بلذّة الترقّي الروحي، والشعور بالتقوى، وبتحرّر الصائم- بحقّ- من سلطان غرائز؛ لينطلق من سجن جسده، إلى سعة روحه وفرحها، متجافيا عن الآثام، ومراعيا لضوابط الصيام. ولتحقيق تلك الثمرة، نرى أنّ الإسلام شدّد النهي عن كلّ ما من شأنه أن يشوش أو يشغب على هذه المعاني من ممارسات منكرة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، "وقيل تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنّها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنّه-أي الصوم- جُنّة، وأنّه وِجاء"[2].
ويجعل- نص الآية السابقة- من التقوى غاية يسعى إلى مقامها الصائمون، فالتقوى "تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه"[3]، ولذلك حين يصوم المؤمن عن الطعام، فإنه يحرص أن يصوم معه سمعُه وبصرُه ولسانُه عن المعاصي، وعن الكذب، والاستغابة، وشهادة الزور، وعن المحارم جميعها.
ويُنشئ كلُّ ذلك شعوراً بتعالي الإرادة على الغريزة، وبانتصار الإيمان على الشهوة، فالصوم تجويع جسد، ولكنّه إطعام نفس، الأمر الذي يولّد عزيمة لا تعرف الوهن، وإصراراً لا يعرف النكوص، وحزماً لا يعرف التردّد، وتصميماً لا يعرف المستحيل. وليس بخاف على أحدٍ أهمية الإرادة في حياة الإنسان؛ فهي سرّ النجاح، وبالإرادة- لا بالتمنّيات- تتحقّق الأعمالُ، وتُصنَع المعجزات.
وتتجلّى إنسانية الإنسان عند ممارسة هذا التحكّم الواعي بالرغبات والغرائز، فيمتنع الصائم عن الطعام الشهيّ وهو متوفر بين يديه؛ طلباً للأجر والمثوبة من الله سبحانه، وهذا الامتناع الذاتي عن الشهوات هو ما يجعل الإنسان إنسانا؛ فالحيوانات لا تستطيع أن تمنع نفسها عن شهوة الطعام، إلاّ عن شبع حَصّلتْه أو عِلّة ألمَّت بها.
وإذا كانت أحاسيس السموّ والإرادة- السابقة- هي أحاسيس ذاتية تنعكس على الفرد نفسه، فإن الصيام يولّد نوعا آخر من المشاعر يتّجه نحو الغير، وإلى الآخَرين، ومن ذلك الإحساس بالفقراء، وبالجوعى، والمحتاجين، فيغدو الصائم غير قابل لغيره أن يتكبّد مثل عنائه، وأن يجوع مثل جوعه، ولو هو سمع أكثر القصص حزنا، ما أثّرت به كتأثير مكابدته للتجربة ذاتها؛ إذ ليس الإخبار عن الجوع مثل اختبار الجوع ذاته، وهكذا، إذا جاع مَنْ أَلِفَ الشبَعَ، عرف الحرمانَ كيفَ يقع؟ وكأنّ "من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم"[4].
ورمضان يعمّ المجتمع ويشمله بحالة من المساواة، "فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاً؛ ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواءً منهم من ملك المليون من الدنانير"[5] ومن لم يملك شيئا.
ويسود- في رمضان- جوٌّ من التعبئة العامّة في المجتمع المسلم، تطغى فيه المنافسة على طاعة الله، وكأنّ الصوم مضمار يستبق فيه الصائمون إلى فعل الخيرات، ويجتهدون في أنواع العبادات من صلاة النافلة، وقراءة القرآن، والإكثار من الاستغفار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتهاد في برّ الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الجار، وعيادة المريض..
وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهبة للنظام، وترويضها على هذا الانضباط الجمعي، حيث يحرمُ النّاسُ أنفسهم من الطعام، والشراب، والاتصال الجنسي، مع ما في ذلك من تعلّم للصبر، بما يتلاءم مع شدائد الحياة، وصروفها، ونكباتها.
وفي الصيام، يدرك الصائم قيمة ما امتنع عنه من طعام وشراب ووصال؛ فأشهى الطعام ما جاء بعد جوع، وألذّ الوصال ما جاء بعد فراق، وهذا الإدراك يكسب الصائمَ مزيدا من الإحساس بالتقدير والامتنان لمانح هذه النعم سبحانه؛ إذ من طبع الإنسان أن يغفل عن قيمة ما لديه، وأن لا يدرك فضلَه إلاّ بعد مزايلته له.
وفي فعل الصيام كسر لروتين الحياة اليومي، الضاغط على صدور الناس بأحاسيس الملل والرتابة طوال عام؛ فيأتي شهر الصيام بتجدّد الحالات، وبتعاقب المنع والرغبات، ويغدو المسلم في نهار رمضان صائما صابرا، وفي ليله طاعماً شاكرا، مع ما في ذلك من تحقيق للتوازن ما بين جوع وشبع، والمراوحة بينهما، فلا جوع يُهلك البدن، ولا شبع يُتخمه.
ولا يعدو- ما ذكرناه- أن يكون غيضا من فيض، وستفنى الأيام، وفي أسرار الصيامِ وثمارِه ما لم يُدرَك، وستظلّ أشياء- من ثمرات هذا الشهر الجليل- تغشى الناس، من الشعور بالتقوى والترقّي الروحي، وهجران المعاصي، وتقوية الإرادة، وتجلّي إنسانية الإنسان، والإحساس بالمعذبين والمحرومين، إلى شمل المجتمع وصبغه بمعاني المساواة، والبث لجوّ التعبئة العامّة فيه لفعل الخيرات، وسلوك الانضباط بين أفراده، وتعوّد الصبر على المشاقّ، وإدراك قيمة النعمِ وشكرِ مُنعِمِها، وكسرِ رتابةِ الحياة.
[1] البخاري: (3/22)، مسلم: (3/157)
[2] الشوكاني، محمد بن علي: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، الناشر: محفوظ العلي، بيروت، ج1، ص180
[3] قطب، سيد: في ظلال القرآن، ط17، دار الشروق، 1412هـ- 1992م، ج1، ص168
[4] الرافعي، مصطفى صادق: من وحي القلم، راجعه د درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا: بيروت، ج2، ص64
[5] نفسه: ص63