شهر الخير
هائل سعيد الصرمي
لقد كان وما يزال موسم الجني ومحطة التغير في حياة البشر عبر التاريخ على مستوى الفرد والمجتمع ؛ فالتحولات الكبرى حدثت في رمضان فقد أنزل الله القرآن في هذا الشهر الكريم , وبه حدث التغير الأكبر في تاريخ البشرية ,
.. لقد اصطفى الله هذا الشهر الفضيل وميزه على سائر الشهور وجعل فيه الخيرات والرحمات والنفحات التي تنبثق منها التحولات والتغيرات لمن يتعرض لها فهو شهر القرآن وشهر التحرر من الأوهاق والجواذب والأدران شهر الإستقواء على الخطوب والملامات شهر تفريج الكروبات وتفكيك الأزمات:
شهر تجميع الشتات وعدم نسيان الذان (نسو الله فأنساهم أنفسهم) فبذكر الله تعرف ذاتك, شهر الحرية والعدالة وإغاثة اللهفان وإشباع الجوعان واخماد الجبروت والطغيان.
رمضانُ قرآن يوجه وجهتي نصرا يفك سلاسلي وقيودي
مهما تكالبت الخطوب يشدني نحوي ويجمعني بغير شرود
إنه شهر كل الفضائل أنىَّ لنا بأن نحصيها , إنه ثورة تغير متكاملة على كل الرذائل وهو ما يهمنا هنا الوقوف على(التغيرات الكبرى) وإن ظهر لنا قبل رمضان فتور وإخفاق فإن رمضان يأتي ليسد النقص ويغطي الحاجة ويعيد التوازن إلى نصابه فيثقل ميزان العبد بالحسنات وتكفر عنه السيئات فيتأهل بعدها لنيل االمكرمات وجني الأنتصارات , كثيرا ما يحصل التحول بعد تخفيف الأثقال وتكفير الذنوب والأوزار خصوصا بعد مرور أيام المغفرة أوفي أثنائها تحصل التحولات وتعود المكرمات.
شمس الصباح سنا الملايين التي ثارت لتحفظ موثقي وعهودي
خرجت تجسد ما يدور بخافقي وتحيل أوطاني بغير حدود
سأظل أشمخ بالعزيمة والهدى وأعيدُ من كفِّ الفناء وجودي
وسنقف على بعض نماذج من الانتصارات المفصلية الكبرى التي حدثت في هذا الشهر الفضيل , ففي رمضان حدثت الانتصارات العظيمة منها غزوة بدر الكبرى أكبر تغير مفصلي في التاريخ الإسلامي والبشري قاطبة كانت فرقان بين الحق والباطل انتصرت فيها إرادة الحق على إرادة الباطل... ولكن لماذا رمضان؟
؛لأن الاتصال بالقوة المدبرة يكون أعظم فالعباد أقرب إلى ربهم من سواه فيكونون مؤهلين للنصر أكثر ؛ ولأن رمضان هو شهر القرآن فيكون الإحساس بتعظيم لله هو المهيمن على شعورهم نتيجة الطاعات والقربات فيقوي التوكل والاعتماد عليه فيتم لهم النصر ولا بد ..
.لا بكثرة العتاد والعدة ولكن بقوة الاتصال وحسن العمل وبذل الممكن.
لقد كان ميزان القوى بين الفرقين في غزوة بدر مختلا فيما يرى بنسبة 1:3 لصالح العدو فكان المسلمون 300 والمشركون 900 لكن الانتصار كان حليف القلة المسلمة.
فعدة الانتصار كانت مرتكزة على قوة الإرادة والإصرار والعزيمة والإيمان لا قوة العتاد , إنها قوة الثقة بالله وبوعده بأن الحق غالب وليس مغلوب وهو كذلك في كل زمان ومكان مادام الوسع قد استفرغ في بذل المستطاع من الأسباب ومادام العدو غاشم وظالم ومعتدي فالنصر حليف المؤمنين إنها معركة الحق والباطل أزلية تتكرر في كل زمان ومكان وإن اختلفت المشاهد والأحداث.
في هذا الشهر المبارك أيضاً حدث التغير الكبير بفتح مكة وتحقق التمكين الأكبر لدين لله ولرسوله وأتم الله بهذا الفتح نعمته على رسوله والمؤمنين فكان الفتح مفصليا تغير فيه الوضع برمته لقد هدم الرسول (ص) 360صنم كانت داخل الكعبة هدم الطغيان والوثنية والشرك بهدمه للأصنام التي هي منصوبة في الكعبة منذُ سنين طويلة لا يستطع أحد أن يمسها بسوء بل يعظمونها ويعبدونها
ما أشبه الأنظمة المستبدة اليوم بتلك الأصنام التي حجبت الخير عن الناس سنين طويلة ..وهذه الأنظمة الصنمية تحجب عن شعوبها الحرية والعزة والأمن والطمأنينة دهورا ولم تزل ...إن الثورات السلمية اليوم التي أزالت بإذن الله هذه الأصنام البشرية ما أشبه معركتها السلمية بفتح مكة السلمي حيث تم الفتح لرسول الله وأصحابه سلميا, وكان التغير هائلا بكل المقاييس.
"و في سنة 13هـ في رمضان, استطاع المسلمون في موقعة البويب بقيادة المثنى بن الحارثة, إحراز انتصارا جبارا وكان عدد المسلمين في هذه الموقعة 8 آلاف فقط, والفرس مائة ألف بقيادة (مهران) وانتصر المسلمون انتصارا مهولا حيث فني الجيش الفارسي بكامله في هذه الموقعة, تجاوز القتلى 90 ألف فارسي من أصل مائة ألف, هزيمة مروعة للجيش الفارسي بعد شهر واحد من هزيمة المسلمين في موقعة الجسر. يقول د راغب لنفكر ونتدبَّر كيف لثمانية آلاف أن يهزموا أكثر من 90 ألفًا, وفي عُدة أضعف من عدتهم, وفي عقر دارهم, كيف يحدث هذا؟ لن تعرف تفسيرها أبدًا إلا أن تقول:(وما النصر إلا من عند الله) تبعها معركة القادسية التي أنهت إمبراطوريه عظمى كانت هنا.
والأندلس فتحت في رمضان ومعركة عين جالوت في رمضان وحطين في رمضان وهزم الناصر قالون التتار هزيمة لم تقم لهم بعدها قائمة في رمضان وحرب 73 في رمضان والضربة الاقتصادية للرأسمالية في رمضان التي لن تعافى بإذن الله كما قال الخبراء وغيرها كثير. فلنفرح بهذا الشهر ونهنئ أنفسنا ونتغير إلى الأمام فهو شهر التغير. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
هنيئا لك الشهر الكريم هنيئا ووجهك طلق ما يزال وضيئا
تمر على الدنيا فترسم بسمة و تنصر ملهوفا بها و بريئا
لابد من التغير أولا في أنفسنا وفي سلوكنا علينا بتصحيح تصوراتنا وتقوية صلتنا بالله وتقوية علاقتنا ببعضنا والحفاظ على أخوتنا ووحدتنا وأخلاقنا وقيمنا.
وصون النفس عن المحرمات وتحري الحلال وصلة الأرحام وبر الوالدين وموالاة أهل الحق ونصرتهم ومعاداة أهل الباطل والأخذ على أيديهم.. فتلك هي السعادة
بحثتُ عن السعادة لم أجدها وحين قرأت قرآني أتتني
وجدتُ النور يسري في دمائي وذقتُ سعادتي لما وفتني
والتحرر من الخوف والرجاء إلا من الله وترك الاحتكار للسلع والتلاعب بالأسعار وترك الخلاف والشقاق والأضغان والأحقاد جانبا واستبدالها برص الصفوف وتوحيد الكلمة وإصلاح ذات البين ومواساة الضعفاء والإنفاق بسخاء , و الإكثار من النوافل والذكر وتلاوة القرآن الكريم ,خصوصا في هذا الشهر الكريم شهر القرآن .. وغيرها من الأعمال الصالحة التي تقربنا إلى الله وتجعلنا نتحقق بنصره كل ذلك مدرسة متكاملة تصنع تغيرا ولا بد.
رمضانُ مَدْرسَة يُعَلِّمُنَا التقى والْبِرَّ بالأرْحَامِ والجِيرانِ
رمضانُ إشْبَاعِ الجِيَاعِ وحُبُّهمْ لا قتلهمْ بمَرَارةِ الحِرْمَانِ
علينا أن نستقبل الرحمات بنية التغير الصادقة ونعزم على التوبة النصوح ونعتمد الإخلاص ونحافظ عليه في سائر أعمالنا . لنجني الانتصار الأكبر فيه
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ ) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ َ
ليكن بإذن الله محطة تغير وانتصار لنا ولأمتنا ونحن على ثقة بأن الجميع اليوم يتأهلون للتغير الأكبر ولن يسمح أحد للمعصية بأن تغتاله , أو تباعده عن المشاركة في التغير الأكبر فإن النصر قادم بلا ريب وهو قريب غير أن المعاصي تأخره فإذا تخلصنا منها طوي الزمان لنا صفحته وعجل الله لنا هبته ولعله من هنا ينطلق من يدري وما ذلك على الله بعزيز. وما هذه الشدائد إلا مقدمة على الفرج والإنتصار فكلما اشتدت الأزمات انفرجت .
قال تعالى: (أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوامَعَهُ مَتَى نَصرُ اللَّهِ؟. البقرة:214
يقول سيد قطب حول الآية: "ما قرأتها إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرجّ نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة .. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً: حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين [يوسف:110]، تلك سنة الله مع أهل الحق. لابد من الشدائد، ولا بد من الكروب.. ثم يجيء النصر بعدها " .
علينا بالإكثار من الدعاء . قال صلى الله عليه وسلم ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها ، بدعواتهم ، و صلاتهم ، وإخلاصهم )
لَمَّا بَدَا كَفُّ الهِلاَلِ مُسَلِّماً شَهرُ الصِّيامِ من السَّمَاءِ تَدَلَّى
وأضاءَ مِحْرَابَ العبادةِ والسخا والكون في ثوب المسرة صَلىَّ
فاستقبلوا ضيفاً أتىَ بحفاوة وبطـاعةٍ للهِ عَــزَّ وجَلَّى
لنستعد ونتهيأ لاستقبال رمضان وصيامه وقيامه بفرح واستبشار
كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يهنئ أصحابه عند مجيء رمضان، ويبشرهم ويقول لهم: "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حرم" (أخرجه أحمد). فلنفرح به ونسعد ونستبشر بالخير في قابل الأيام والله غالب على أمره.