ليس من الصبر المحمود أن تخضع للظالم
تكرّر الأمرُ بالصبر والحضّ عليه وبيان جزاء الصابرين... في كتاب الله تعالى وفي سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، حتى إن الله تعالى قال: (إنّما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب). {سورة الزمر: 10}.. نعم بغير حساب، قال أهل العلم: أي بغير مكيال ولا ميزان، ولا عدّ، ولا حدّ، ولا مقدار...
لكن ناساً فهموا من هذا التوجيه العظيم أن يستكين المظلوم للظالم، ويخضع الشعب للطغاة، فيزداد الظالمون ظلماً، والطغاة طغياناً... ويزداد المظلومون قهراً وذلّاً... وأن هذا من الصبر!!.
لقد فرّق الحكماء بين صبر الإنسان بأن يتحمل البلاء وهو يعمل على دفعه عنه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين صبر الحمار الذي يخضع لصاحبه حتى يكون الذل طبعاً له!.
وأولئك الذين ساء فهمهم يطلبون من المؤمن أن يصبر صبر الحمار، وينسى عزّة الإيمان.
الإمام ابن قيّم الجوزية، في كتابه العظيم "أعلام الموقعين" يذكر كلاماً طيباً في هذا الشأن، يقول في نهايته: "وقد أمر الله سبحانه بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولاً، فإن بغتْ إحداهما على الأخرى فحينئذ أمر بقتال الباغية لا بالصلح، فإنها ظالمة، ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة. وكثيرٌ من الظلمة المصلحين [الجَهَلَة] يُصلح بين القادر الظالم، والخصم الضعيف المظلوم، بما يرضَى به القادر صاحب الجاه، ولا يمكّن المظلوم من أخذ حقه. وهذا ظلم. بل [ينبغي أن] يمكّن المظلوم من استيفاء حقه، ثم يطلب إليه، برضاه، أن يترك بعض حقه، بغير محاباة لصاحب الجاه، ولا يشتبه بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها". ص 93.
فإذا جاءك ظالم ومظلوم فلا يكن حديثك عن الصبر والصابرين، بل عن عاقبة الظلم، فإن المظلوم إذا لم يصبر لم يكن آثماً، وقصارى ما يبلغه الصبر منه أن يكون مندوباً، فإن مطالبته بحقه أمر مشروع. وإذا أوصيته بالصبر على سبيل الندب، فلا تغفل عن توصية الظالم بالقيام بحق المظلوم، فهاهنا يكتمل التوازن الذي شرعه الله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). {سورة العصر: 3}.. فالتواصي بالصبر إذا لم يترافق بالتواصي بالحق يوشك أن يصبح رذيلة، ويوشك أن يُشعر المظلوم بأن نصوص الدين تدفع المظلوم إلى الخضوع والاستكانة، وتمكّن للظالم أن يتمادى في ظلمه.
الدين يوصي الضعيف بالصبر على الأذى، وهو يكافح الظلم والظالمين، وقد يكون من الحكمة أن يصبر في ظرف من الظروف ولا ينكر الظلم إلا بقلبه، حكم الضرورة، منتظراً ظرفاً آخر، بل عاملاً على إيجاد ظرف آخر يتمكن فيه من ردع الظلم ودفعه عن نفسه وعن أمته، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وكما هاجر بنفسه إلى الطائف... فإن لم يتمكن من ذلك فلا أقلّ من أن يقول للظالم: إنّك ظالم.
ولنسمع إلى ما يقوله نبينا وقائدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودِّع منهم". رواه أحمد والحاكم والبيهقي والبزار.
" مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد". وفي رواية: "ومَن قُتل دون مظلمته فهو شهيد". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وقد روى البخاري ومسلم الجملة الأولى من الحديث: " مَن قُتل دون ماله فهو شهيد".
الإسلام يوصي بالصبر على مشقة الجهاد الذي يتطلبه نشر الحق واستئصال الظلم، وقد أوصى بالحق قبل أن يوصي بالصبر، وهو يمسح دموع المظلومين في الوقت الذي يصفع وجوه الظالمين.
لقد استنبط العلماء من خلال استقراء النصوص التي تدعو إلى الصبر وترغّب به أن الصبر على ثلاثة صنوف:
صبر على البلاء والمصائب (في النفس والأهل والمال...)، وصبر على القيام بالطاعات، وصبر في الكف عن المعاصي. فالصنفان الأخيران هما عماد التكليفات الشرعية، وهما المعبّران عن عبادة الله تعالى. وأما الصنف الأول فالمطلوب من المؤمن أن يدفع أسبابه ما استطاع، يحترس من كل ما يسبّب له الأذى في نفسه وأهله وماله، ويعمل على إزالة الأذى إذا وقع، بقدر استطاعته، ويسأل الله العافية، ولا يتعرّض للبلاء مختاراً، وإذا كان البلاء قد جاء إليه من ظالم فليُقاومه ما استطاع، فإن كان الظالم ذا قوة كبيرة لا يمكن مقاومتها فليصبر، وليعدّ العدّة للمقاومة، وليتعاون مع أهل الإيمان لردع أهل الطغيان... وهذا البلاء الذي ينزله به الظالمون منكر يجب تغييره باليد، فإن لم يمكن فباللسان، فإن لم يمكن فبالقلب. والتغيير بالقلب، وهو أضعف الإيمان، ليس استكانة وذلاً بل هو موقف يعبّر عن الرفض، ويجب أن تصحبه إرادة وتصميم لتأتي الفرصة التي يتمكن فيها من التغيير باليد، ودفع الظلم، وزجر الظالمين، فهذا الذي يبقي العزّة في نفس المؤمن.. (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون). {سورة المنافقون}.
وقد قدّر الله على أصحاب دعوة الحق أن يتعرّضوا للبلاء: (لتُبْلَوُنّ في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب، ومن الذين أشركوا، أذىً كثيراً. وإن تصبروا وتتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور). {سورة آل عمران: 186}.. وفي هذا حِكَمٌ لله ندرك منها أن البلاء يمحّص الصف، وينفي عنه الخبث، ويزيد من مكانة الحق في نفوس أهله بعد أن ضحّوا في سبيله، ويجعل الأعداء يحسّون بأن الدين الذي يقاومونه دينٌ حق، وإلا ما تحمّل أصحابه في سبيله كل هذا..
وهذا كله لا يدلّ على استسلام المؤمن أمام الطاغوت، إنما هي معركة يخوضها المؤمن حتى يمكّن الله لدينه في الأرض.
بقي أن نميّز بين موقفين: موقف يصف فيه القرآن الكريم المؤمنين بأنهم: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون). {سورة الشورى: 37}. وموقف يصفهم بأنهم ينتصرون ممن بغى عليهم: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). {سورة الشورى: 39}. والفرق بين الموقفين واضح. ففي الأول يتعرض المؤمن لتصرف يثير غضبه، وما أكثر ما يحدث هذا في الحياة اليومية، فهنا يندب للمؤمن أن يكظم غيظه، ويملك نفسه عند الغضب، ويتروّى، فهذا أدعى إلى إشاعة السلم في العلاقات مع المحيط، وفيه درء لتصرف من الغاضب قد يندم عليه بعدئذ. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لنفسه قط، إلا أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لها. وفي الموقف الثاني هناك بغي. هناك عدوان مقصود. فالسكوت عليه خضوع للظلم، وليس هذا من خلق المؤمن. وإن الخضوع أمام البغاة يزيدهم بغياً ويطمعهم في المزيد من الظلم، وما ينبغي للمؤمن أن يكون خاضعاً أمامهم. نعم قد يكون في حال لا تمكّنه من الانتصار ممن بغى عليه، لكنه لا يجوز أن يبقى على هذه الحال، ولا بد أن يعمل حتى يفتح الله له أبواباً من الفرج.. (ولينصُرَنّ اللهُ مَن ينصره. إن الله لقوي عزيز). {سورة الحج: 40}.
وسوم: 640