قدوة القيادة في الإسلام 26
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة السادسة والعشرون :
بناء الجيش العقائدي المجاهد
د. فوّاز القاسم / سوريا
ما إن وصل النبي القائد صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنورة ، حتى بدأ يعد العدة للجهاد ، ويهيء الحشود للمعركة .
ونظراً لقلة عدد المسلمين يومها ، بالمقارنة مع كثرة أعدائهم .
لذلك فقد طبَّق ما بات يعرف اليوم بالحرب الشعبية ، أو الحرب الشاملة . فاستنفر لمعركته مع قوى الشر كامل طاقات المسلمين ، وحشد للمواجهة كل قوى الأمة ، وألزم كافة المسلمين بالهجرة والالتحاق بالدولة الوليدة ، والجيش المجاهد .
ولذلك فلم يكن مقبولاً من أي مسلم _يومها _ يدين بالولاء الكامل لهذا الدين ، أن يتخلف عن ركب الجهاد ، مهما تكن أعذاره .
ولقد أنزل الله على مدار المرحلة المدنيّة ، عشرات الآيات القرآنيّة ، التي يعيب فيها على المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحذر المسلمين أشد التحذير من مغبة الركون إلى الدنيا ، والتقصير في نصرة هذا الدين ...
ولقد كانت لهجة القرآن التحذيريّة تشتد وتتصاعد ، كلما ازدادت درجة التحدي التي كانت تواجهها الدولة المسلمة والجماعة المسلمة .
ففي الوقت الذي اكتفى القرآن العظيم في بدايات العهد المدني ، بإخراج المسلمين غير المهاجرين ، من دائرة الولاية للمؤمنين المهاجرين ، مع احتفاظه لهم بالهوية المسلمة ، وحق النصرة ، ما لم يتعارض ذلك مع عهود المسلمين المهاجرين وعقودهم ، كما جاء في سورة الأنفال ، التي نزلت في السنة الثانية للهجرة الشريفة :
(( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والله بما تعملون بصير )) الأنفال(72).
إلا أنه سرعان ما صعّد من حملته العنيفة على المتخاذلين ، حتى قصفهم بما يشبه الحمم والبراكين ، من الآيات البيّنات ، كما ورد في سورة التوبة التي نزلت في أواخر العهد المدني ، في السنة التاسعة من الهجرة الشريفة ، قال تعالى :
(( يا أيها الذين آمنوا ، ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قدير. … انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . لو كان عرضاً قريباً ، وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشُقة ، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، يهلكون أنفسهم ، والله يعلم إنهم لكاذبون …
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، والله عليم بالمتقين )). التوبة (38-44)
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الهجرة والالتحاق بركب الجهاد ، شرطاً أساسياً من شروط الولاية بين المؤمنين كذلك ، ونصَّ على ذلك في دستوره الخالد ، الذي وضعه للمسلمين في المدينة المنورة كما رأينا ، فلقد جاء في إحدى مواد هذا الدستور : ( ذمة الله واحدة ، يجير على المسلمين أدناهم ، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس ، بشرط أن يهاجروا ويلتحقوا بهذا المجتمع ).
وكان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سريَّة أوصاه فقال : (( إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، فأيتهنَّ أجابوك إليها فاقبل منهم وكفّ عنهم ، أدعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ، فإن لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحوّلوا ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين )).صحيح مسلم 2 (46)
كما طبق النبي صلى الله عليه وسلم في حياته العملية ، مع المتخلفين عن ركب الجهاد ، من غير المنافقين التافهين ، أشد أنواع العقوبات النفسيّة والمادية ، كما فعل مع الذين تخلفوا عن غزوة تبوك .
حيث أمر المسلمين باعتزالهم ومقاطعتهم ، وأمرهم هم باعتزال نسائهم قرابة شهرين ، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، ثم تاب الله عليهم ليتوبوا ، ولا يعودوا لمثلها أبداً ، ولا يفكر أحد غيرهم بالإقدام على ما أقدموا عليه ، قال تعالى :
(( وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، إن الله تواب رحيم )) . التوبة (118)
واعتماداً على هذا المنهج ، فقد كان بمقدور النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، أن يحشد الأمة كلها للمعركة عندما يشاء .
ولذلك فقد كان عدد أفراد الجيش المسلم يومها ، مطابقاً لعدد المسلمين أنفسهم ، وبهذا نفسر التزايد المطرد في تعداد ذلك الجيش المبارك ، وتسليحه .
ففي الوقت الذي لم يتجاوز عدد المسلمين المقاتلين في معركة بدر ، في السنة الثانية للهجرة الشريفة ، الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، مع فَارسين فقط ، فقد بلغ عدد المقاتلين ، في معركة أحد ، التي جرت بعد أقل من عام ، حوالي ألف مقاتل ، سبعمائة بعد رجوع المنافقين ، فيهم خمسون فارساً .
ثم بلغ عدد المجاهدين في معركة الخندق ، التي جرت في العام الخامس للهجرة الشريفة ، حوالي ثلاثة آلاف مجاهد .
في حين وصل عددهم يوم فتح مكة ، في العام الثامن للهجرة ، إلي عشرة آلاف مجاهد .
ثم وصل عددههم في غزوة تبوك ، في السنة التاسعة للهجرة ، إلى ما يربو على ثلاثين ألفاً ، فيهم عشرة آلاف فارس ..
ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أكثر من مائة وعشرين ألفاً من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، كانوا يشكلون جيلاً فريداً ، وجيشاً عقائدياً مجاهداً ، لم يسبق أن تجمع مثله ، وبنفس مواصفاته ، في التاريخ البشري كله .!