لا تقنطوا من رحمة الله
النَّدم صفة إنسانية حميدة ، إذ أنها تدل على شعور يقظ لدى الإنسان الذي يندم إذا أخطأ مع أحد من الناس ، ويندم إذا هـمَّ بعمل ما ثم تراجع عنه وقد علم فيما بعد أنه خير ، فالمسلم ليس من طبيعته أن يُصاب باليأس ، والله عزَّ وجلَّ يقول : ( فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ) 55/ الحجر . واليأس كما قال أحدهم : ( هو القُنوطُ وانقطاع الأمل، وإحباطٌ يصيب الروحَ والعقلَ معاً، فيفقد الإنسان الأمل في إمكانية تغيُّر الأحوال والأوضاع والأمور من حوله ... ) . فالمسلم الذي يعتقد بقدرة الله سبحانه على دفع أسباب القنوط ، ويعلم علم اليقين بأن الله عالم ومطلع على جميع أحواله ، وعلى ما أصابه ، وأن الأمور بيده عزَّ وجلَّ لايمكن أن يعتريه يأس أو يقعده قنوط : ( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) 87/ يوسف .
ولعل من أجلِّ مزايا الندم على مافرَّط الإنسان في حق الله وحق نفسه عليه هو العودة إلى الحق ، والخروج من دوَّامة الموبقات التي يحفُّها الباطل من كل مكان ، والوقوف بذل وانكسار أمام جبار السماوات والأرض ، فلا يجد هذا الإنسان في نفسه صفة من صفات التكبر أو الاستعلاء بالباطل ، فقد أيقن أنه أسرف على نفسه ، وأعني هنا حالة واحدة تتعلق بالإنسان المسلم الذي أسرف على نفسه ، وعصى ربَّه ، وكاد يغرق في بحار الأهواء والمحرمات ، ونسي أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلقْهُ لهذا ، وإنما خلقه لأمر أسمى وأعلى ، يقول سبحانه : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . صحيح أن الإنسان مُعَرَّضٌ للخطأ والنسيان ، ومهدد من قِبل نفسِه الأمارة بالسوء ، ومن قِبَلِ شيطانه الذي يتربص به الدوائر . فيقع بين أنياب المحرمات الكبائر منها والصغائر ، والله عزَّ وجلَّ عليم خبير بعباده : ( ألا يعلم مَن خَلَق وهو اللطيف الخبير ؟ ) ، فإذا ماصحا الإنسان وأناب إلى الله ، وندم على سوء فعلة فعلها ، فإنه سيجد من ربه الرحمة وقبول التوبة . فباب التوبة مفتوح إلى قيام الساعة ، فلا يأس من رحمة الله ، لأن الله يعلم أن الإنسان ضعيف وقد يقع فيما نُهِيَ عنه ، فلا خوف على مذنب مع ندم واستغفار ، وقد جاء في الحديث الشريف : (لَو لَم تُذنبوا لذَهَبَ الله بِكُم، وجَاء بقَومٍ يُذنبون، فيَستغفرون الله فيَغفر لَهم ) . ولقد حث النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ على الاستغفار والتوبة ، فقد ورد عن ابْنَ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ إليه فِي الْيَوْمِ مِائَةَ
مَرَّةٍ) رواه مسلم . وذلك لِما في الاستغفار والتوبة من فضل عند الله ، بل إن الله سبحانه دعانا إلى التوبة والاستغفار فقال عزَّ وجلَّ : ( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 74/ المائدة . فمغفرة الله ورحمته قريبتان من التائبين أهل الندم ، و الدليل على فرح الله لتوبة عبده ما ورد في حديث : (اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ... ) ؟ أوليس في ذلك مناعة يهبها الله لعباده التائبين من شر رفاق السوء ، ومن شرِّ وسوسة الشيطان ؟ ... يقول المولى عزَّ وجلَّ : ( وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) 27/ النساء . تمعَّنْ في قوله سبحانه : (يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) ، أليس في ذلك دليل حب الله للعبد ؟ إن الله عزَّ وجلَّ يمحو الذنوب ، بل ويبدلها بالحسنات والمقامات العاليات في جنات النعيم التي لايدخلها المذنبون في الدنيا إلا بعد أن تُمحَى ذنوبُهم . فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه ابن ماجة .
وكما أن الله سبحانه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، فكذلك لايقبل أن يظلم المسلم أخاه المسلم في أي حال . ومَن لم يتب عن مظلمة في الدنيا فإنه محاسب عليها يوم القيامة ، ولقد توعَّد الله مَن لم يتبْ بالعذاب والنكال ، فحقوق العباد لاتضيع عند الله ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْه ) رواه البخاري .
وتبقى البشرى مشرقة في حياة المذنبين ، وتبقى أسباب القبول عند الله قائمة بين يّدَي أهل الندم والاستغفار ، وأي بشرى أعظم من أن الله تبارك وتعالى لاينسى عباده هؤلاء رغم ما اقترفوه من الآثام ، ففتح لهم باب التوبة في الليل والنهار ليدخلوه ، فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا( رواه مسلم . وتأتي البشارة الكبرى حتى للمسرفين على أنفسهم في قوله تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) 53/ الزمر .
إن من دواعي القنوط هو مايصيب الفرد أو الأمة ــ كما في واقعنا اليوم ــ من نوازل ومصائب ، تعمل على إحباط تطلعات ذاك الفرد وهذه الأمة إلى إشراقة خير تنعم بها النفوس وتطمئن لها القلوب ، إنها إشراقة التفاؤل بقدوم الريح الطيبة ، ريح حُسن الظن بالله ، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ ) . فالأمة التي تنعم بما في كتاب الله من بشريات وآيات بيِّنات لايمكن أن يثني مسيرتها نحو التغيير يأس جارف ، يقول الله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) 56/الحجر . لأن المسلم كفرد يعيش في كنف الله ، ولا يجدر به أن يسيء الظن بأرحم الراحمين ، والله يريد الخير لعبده إن أصابته ضرَّاء أو نعماء ، ولا يعلم العبد عاقبة الأمور ، فالتسليم لأمر الله من عقيدة المؤمن ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) 216/ البقرة.
وحال الأمة ــ اليوم ــ كحال الفرد في حالة الشدة والضيق ، إن تآمر الدول الاستعمارية على الأمة المسلمة ، وما نراه اليوم من تنكيل بأبناء الأمة في معظم أقطارها من قِبل أعداء الإسلام ماهو إلا ابتلاء أحدق بالناس من كل جانب ، فدماء تُراق ، وسجون تغص بروادها من الأبرار الأطهار ، ودمار للبلاد ، وانتهاك لحرمات العباد ، ومكر يُحاك في الليل ، وكيد يُعمل به في النهار ، ولكن لايأس من رحمة الله ونصره القريب ، والله سبحانه محيط بهم وبمكرهم : ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) 46/ إبراهيم . وهيهات لعبدة الشيطان أهل الفجور والسفور والطغيان أن يفلتوا من غضب الله وعقابه في الدنيا والآخرة . فوعد الله للأمة بالخلاص والفتح لابدَّ منه : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) 47/إبراهيم.
أجل ... إنها بشارة وأي بشارة من الله رب العالمين ، إنها بشارة تُجدِّد الإيمان في القلوب ، وتثير كوامن الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث الطاعة والتسليم والعمل بمقتضيات الإيمان والطاعة والتسليم لله . فلا ينقلب المؤمنون على أعقابهم يائسين ، ولا تأخذهم الأحداث الجِسام إلى مواطن اليأس والهزيمة النفسية : (... وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) 144/ آل عمران.
أيتها الأمة الجريحة المنكوبة لاتقنطي من رحمة الله ونصره ، فوالله لن يتركك الله فريسة بين أنياب هؤلاء المجرمين الملحدين ، ولن تضيعي في ظلمات القهر والتسلط حيث تكالبت عليك الأمم ، أيتها الأمة المباركة اصبري فإن النصر مع الصبر ، والفرج يأتي الكرب ، واليسر يأتي مع العسر كما جاء عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، ولا تتعجلي ساعات النصر والفرج واليسر ، فالله أعلم متى يُجريها بين يديك ، فلا تستعجلي ، ألم تسمعي كلامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه وقد اشتد عليهم الكرب وضاقت عليهم الأرض بما رحبت : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون).