الوفاء
من أخلاق الإسلام الوفاء.
فإذا أبرم المسلم عقداً فيجب عليه أن يحترمه.
وإذا أعطى عهداً فيجب عليه أن يلتزمه.
ومن الإيمان أن يكون المرء عند كلمته التي قالها.
كما أن اليمين لا بد من البرّ بها.
ومناط الوفاء والبر أن يتعلق الأمر بالحق والخير، وإلا فلا عهد في عصيان، ولا يمين في مأثم.
وعلى هذا المبدأ يقول عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه". رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة.
فلا يسوغ لامرئ الإصرار على الوفاء بيمين إذا كان الحنث فيها أفضل!.
ومن ثم فلا تعهّد إلا بمعروف، فإذا وثّق الإنسان عهداً بمعروف فليصرف همّته في إمضائه ما دامت فيه عين تطرف، وليعلم أن منطق الرجولة وهدي اليقين لا يتركان له مجالاً للتردد والإخلاف، لأن العهد يُسأل عنه يوم القيامة.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غِبتُ عن أول قتال قاتلتَ فيه المشركين!! لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم قتال المشركين، لَيَرَيَنَّ ما أصنع. فلما كان يوم أُحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (المشركون). ثم تقدّم، فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة وربِّ النضر، إني لأجدُ ريحها دون أُحد. وقاتل حتى استشهد.
قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف، وطعنة بالرمح، ورمية بالسهم. وقد مثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته بشامة فيه، أو ببنانه... وفيه نزل قوله تعالى: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً). {سورة الأحزاب: 23}.
فالوفاء بالعهد شرفٌ يحمله المسلم على عاتقه صغيراً كان أم كبيراً.
وانظر أيها الأخ المسلم إلى أدعياء الحضارة، كم نكثوا من عهود، وكم خالفوا من وعود!!.
وها هي ذي بريطانيا التي وعدت زعماء العرب بإقامة دولة كبيرة لهم، إذا حالفوها ضدّ الدولة العثمانية، إبّان الحرب العالمية الأولى، ثم ضربت بعهودها عرض الحائط، وتآمرت مع فرنسا وجزأت بلادهم، ثم احتلّتاها معاً.
وزادت الطين بلّة حين أصدرت وعد بلفور، الذي مكّن اليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين العربية المسلمة، وما زالت جرائم دولة اليهود، تدمر الأرض، وتقلع الزرع، وتهدم البيوت، وتقتل الآمنين، دون أن يتحرك لهم قلب...
وثمن الوفاء قد يكون فادحاً، فقد يُكلّف المال، أو الحياة، أو الجاه، أو الأحبّة.
وإن أقدار الرجال تتفاوت تفاوتاً شاسعاً في هذا المضمار.
وأهل الإيمان وحدهم هم الذين يقدرون الثمن.
أما العابثون، فكلامهم عبث، كأوزانهم، وحياتهم.
أما أعظم العهود وأقدسها، فهو العهد الذي بين العبد ورب العالمين، فإن الله خلق الإنسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرُد به المُغويات فيجهلها أو يجحدها (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم). {سورة يس: 60، 61}.
ووفاء الإنسان بهذا العهد أساس كرامته في الدنيا، وسعادته في الأخرى.
عن عَوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعةً أو ثمانيةً أو تسعة، فقال: "ألا تُبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكنا حديثَ عهد ببيعة. قلنا: قد بايعناك، حتى قالها ثلاثاً وبسطنا أيدينا فبايعنا. فقال قائل: يا رسول الله إنا قد بايعناك فَعَلامَ نُبايعكَ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئاً، وتصلّوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا"، وأسرَّ كلمةً خفيفةً قال: "ولا تسألوا الناسَ شيئاً". قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطُه فما يسأل أحداً أن يناوله إياه. رواه مسلم وأبو داود.
فانظر إلى الوفاء بالبيعة ودقة تنفيذها.
وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار على أن يجندوا أنفسهم وأموالهم لحماية دعوته، وحراسة رسالته، حتى يستطيع إبلاغها للعرب من ورائهم.
وهذا العهد الذي قطعه الأنصار على أنفسهم يعدّ ألمع المواثيق في تاريخ العقائد، وأدلّها على التجرد لله، والفناء في الحق.
فالتزَموا بهذا العهد، وقدَّموا دماءهم وأموالهم رخيصةً سهلة في سبيل هذا المبدأ، في كل المعارك التي خاضوها.
ومن الوفاء المحمود أن يذكر الرجل ماضيه الذاهب لينتفع به في حاضره ومستقبله.
فإن كان معسراً فأغناه الله، أو مريضاً فشفاه الله، فليس يسوغ له أن يُنكر نعمة الله تعالى عليه، بل يعترف بذلك ليكون له غنيمة.
وبالشكر تدوم النعم.
فالدين يكره أن تداس الفضائل، وتُنسى النعم. وكم للإسلام من فضائل، وكم لعلماء المسلمين من نِعَم استفادت البشرية جمعاء من خيرها ومنافعها، ولكن المتكبرين من أبناء مدنيّة الغرب، رفعوا عقيرتهم لينكروا ذلك كله دفعة واحدة، بل ليقولوا كلمة زور وبهتان: إنهم أرقى من غيرهم!.
ويا ليتهم سكتوا، لأن روائح الزنا والفجور والتكبر على الآخرين والاعتداء على حرماتهم ومقدساتهم بدون سبب، زكمت الأنوف، ولكنهم لا يخجلون.
وسوم: العدد 671