النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (1)

رمضان الأول في السنة الثانية

قال الذَّهبي في "المغازي" من (تاريخ الإسلام) في أحداث السنة الثانية: "وفي رمضان فرَض الله صومَ رمضان، ونسخ فريضة يوم عاشوراء"[1].

وقال ابن كثير: "قال ابن جرير: وفي هذه السنة فُرض - فيما ذكر - صيام شهر رمضان، وقد قيل: إنه فُرض في شعبان منها"[2].

وقال الأستاذ العُمري: "أمَّا الصوم فقد كانت فرضيته يوم الاثنين لليليتين خلَتَا من شعبان من السنة الثانية من الهجرة"[3].

••••

وعن أحوال الصيام يحدثنا معاذ بن جبل فيقول:

"أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال... وأمَّا أحوال الصيامفإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فجعل يصوم من كل شهر ثلاثةَ أيام، وصام عاشوراء.

1- ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾... إلى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 183، 184]، فكان مَنْ شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا فأجزأ ذلك عنه.

2- ثم إن الله عزَّ وجلَّ أنزل الآيةَ الأخرى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾... إلى قوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، فأثبت الله صيامَه على المقيم الصَّحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام[4]، فهذان حالان.

3- قال [معاذ]: وكانوا يأكلون ويَشربون ويأتون النِّساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلًا من الأنصار يقال له: (صِرْمَة) كان يعمل صائمًا حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلى العشاءَ ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائمًا، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهَد جَهدًا شديدًا، فقال: ((ما لي أراك قد جَهدت جهدًا شديدًا؟))، قال: يا رسول الله، إنِّي عملتُ أمس، فجئتُ حين جئت فألقيتُ نفسي فنمت، فأصبحتُ حين أصبحتُ صائمًا.

قال: وكان عمر قد أصاب من النِّساء بعدما نام، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾... إلى قوله: ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]"[5].

إذًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في شهر ربيع الأول، وجعل يصوم عاشوراء وثلاثةَ أيام من كل شهر - والراجح أنَّ صيام عاشوراء كان فرضًا، وأمَّا الأيام الثلاثة فهي على سبيل التطوُّع، ولم يثبت فَرض صيامٍ قبل رمضان غير عاشوراء - إلى أن دخلَت السنة الثانية (وتبدأ عدَّتها من محرم) ففُرض صيام رمضان، وقد مرَّ صوم رمضان بهذه الأحوال الثلاثة التي فصَّلها معاذ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون[6]، إلا أنَّنا لا ندري متى تمَّ إيجاب الصيام على الجميع ونُسخ التخيير، كما أننا لا ندري متى نزلَت الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ... ﴾، ترى هل كان هذان الحالان في رمضان الأول أم في الثاني؟

وهُناك رواية أخرجها الطبري من طريق العَوفي - وهي طريق ضعيفة - نصها: "إنَّ عمر بينما هو نائم إذ سوَّلَت له نفسه فأتى أهلَه، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، ثم أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعتذر إلى الله، وإليك من نفسي، فإنها زيَّنت لي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال: ((لم تكن بذلك حقيقًا يا عمر))، فلما بلغ بيته أرسل إليه، فأتاه، فعذره في آية من القرآن، وأمر الله رسولَه أن يضعها في المائة الوسطى من البقرة"[7].

وتشير هذه الرواية - ورواية أخرى عن البراء[8] - إلى التراخي في نزول هذه الآية.

وعلى أية حالٍ فهي رخصة لِمن امتنع عن الطَّعام فجَهد وهو صِرْمَة - وفي اسمه خلاف كثير[9] - ولمن قارب زوجه وهو عمر وغيره.

••••

وقد جاء في الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]، ولفظ: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ نزَل وحده بعد الآية، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد قال: أُنزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾، ولم ينزل: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، وكان رجال إذا أرادوا الصومَ ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعده: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، فعلِموا أنَّما يعني الليل من النهار[10].

قال ابن عطية: "رُوي أنه كان بين طَرفي المدَّة عام من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة"[11].

وقال القرطبي المحدِّث (ت: 656 هـ): "روي أنه كان بينهما عام"[12]، قال ابن حجر: "ولم يبين الاثنانِ مستندًا"[13].

••••

وفي رمضان هذا اعتكف النَّبي صلى الله عليه وسلم العشرَ الأول:

روى الطبراني بسنَد حسن عن أمِّ سلمة قالت: اعتكف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ سنة: العشرَ الأول، ثم اعتكف العشرَ الوسطى، ثمَّ العشر الأواخر، وقال: ((إنِّي رأيتُ ليلة القدر فيها، فأُنسيتها))، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيهنَّ حتى توفي[14].

••••

وفي رمضان هذا كانت وقعة بدر الكبرى في (17) منه، وأحداثها مشهورة معلومة[15].

••••

وفيه توفيَت رقيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان يُمَرِّضُها، وخلَّفه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فلم يشهد بدرًا:

قال ابن حجر: "ذكر السرَّاج في (تاريخه) من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: تخلَّف عثمان وأسامة بن زيد عن بَدر، فبينا هم يَدفنون رقيَّةَ سمع عثمان تكبيرًا، فقال: يا أسامة ما هذا؟ فنظروا فإذا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء بشيرًا بقتل المشركين يوم بدر"[16].

وقال: "أخرج ابن سعد من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران[17]، عن ابن عباس قال: لما ماتَت رقيَّة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون))، فبكت النساء على رقية، فجاء عمر بن الخطاب فجعل يضربهنَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مهما يكن من العين ومن القلب فمِن اللهِ والرحمةِ، ومهما يكن من اليد واللسان فمِن الشيطان))، فقعدَتْ فاطمة على شفير القبر تَبكي، فجعل يَمسح عن عينها بطرف ثوبه.

قال الواقديُّ: هذا وهم، ولعلَّها غيرها من بناته؛ لأن الثابت أن رقيَّة ماتت ببدر، أو يحمل على أنه أتى قبرها بعد أن جاء من بدر"[18].

••••

وفيه توفِّي سعد بن مالك الخزرجي الساعدي والد سهل بن سعد، وكان تجهَّز إلى بدر فمات قبلها في رمضان، قال الذَّهبي: "فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه، وردَّه على ورثته"[19].

••••

وفيه كانت سرية عمير بن عدي الخطمي:

قال الذهبي: "ذكر الواقدي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه لخمسٍ بَقين من رمضان، إلى عصماء بنت مروان، من بني أميَّة بن زيد، كانت تَعيب الإسلام، وتحرِّض على النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتقول الشِّعر، فجاءها عُمير بالليل فقتَلها غيلة"[20].

وانظر تفصيلَ الخبر في (المغازي)؛ للواقدي[21].

••••

وفي آخره فُرضَت صدقة الفطرة؛ كما قال الذهبي[22].

وقال ابن كثير: "قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر، وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ قبل الفطر بيوم - أو يومين - وأمرهم بذلك"[23].

وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم شهر رمضان معلَّق بين السماء والأرض، ولا يُرفع إلا بزكاة الفطر))[24].

••••

وفي أول شوال من هذه السنة "صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاةَ العيد، وخرج بالناس إلى المصلَّى، فكان أول صلاة عيد صلَّاها، وخرجوا بين يديه بالحربة - وكانت للزبير وهبها له النَّجاشي - فكانت تُحْمَلُ بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعياد"[25].

[1] (2/ 126).

[2] البداية والنهاية (3 / 254)، وتاريخ الطبري (2/ 417).

[3] السيرة النبوية الصحيحة (2/ 626، 627).

[4] قال ابن كثير في التفسير (1/ 215): "حاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه...".

[5] مسند أحمد (5/ 246، 247)، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة (1/ 140)، والمستدرك (2/ 274)، وانظر: الدر المنثور (1/ 184).

[6] في كتاب "أيام حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم" ص (18، 19) بحث عن أوَّل يوم من رمضان الأول، وعدد أيامه، ويوم العيد؛ فانظره.

[7] جامع البيان (3/ 497، 498)، وانظر: الدر المنثور (1/ 206).

[8] انظر: الدر المنثور (1/ 205).

[9] ينظر: العجاب في بيان الأسباب (1/ 445، 446).

[10] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب قول الله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا... ﴾ (4/ 132)، والتفسير (8/ 182، 183): باب ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا... ﴾؛ والعزو دائمًا إلى البخاري مع فتح الباري فليعلم - وصحيح مسلم، كتاب الصيام (2/ 767).

[11] المحرر الوجيز (3/ 126).

[12] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 149، 150).

[13] فتح الباري (4/ 134).

[14] المعجم الكبير (23/ 412)، ومجمع الزوائد (3/ 173)، والسيرة الشامية (8/ 441).

[15] انظر: تاريخ الطبري (2/ 418 - 479).

[16] الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 305).

[17] علي ضعيف، ويوسف ليِّن الحديث، كما في التقريب ص (468، 708).

[18] الإصابة (4/ 304).

[19] المغازي (2/ 142).

[20] المغازي (2/ 136).

[21] (1/ 172 - 174).

[22] المغازي (2/ 126)، وانظر بعض الأحاديث عن زكاة الفطر في: بلوغ المرام لابن حجر ص (108)، برقم (503 - 505)، والترغيب والترهيب (2/ 149، 150).

[23] البداية والنهاية (3/ 255، 256)، وتاريخ الطبري (2/ 418).

[24] رواه أبو حفص ابن شاهين في "فضائل رمضان"، وقال: حديث غريب جيِّد الإسناد؛ الترغيب والترهيب (2/ 150).

[25] البداية والنهاية (3/ 256)، وانظر: تاريخ الطبري (2/ 418).

وسوم: العدد 672