الينبوع الروحي
أودع الله سبحانه في قلب كل إنسان ينبوعاً روحياً قدسياً هو {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم: 30)، ولكن تلك الفطرة الخفية الداخلية تجابه عوامل شتى من المحيط الخارجي، تعمل أكثرها دائبة على أن ينضب معين ذلك الينبوع، وتعمل جاهدة على أن تطغى أدران المادة على صفاء الروح بما تلقيه حولها وعليها من أقذار الشهوات، وما تزينه لها من الموبقات.
فإذا جاهد الإنسانُ نفسَه، واستطاع الصمود أمام مغرياتها، والترفع عن تلك الخسائس، ربح ونجا، ونفع وانتفع، أما مَنْ تنهار مقاومته فإنه يتبع الشهوات، ويرتكب الآثام، حتى تتراكم أقذارُها وأوضارها على قلبه، فيعمى عن إِدراك الأسرار العلوية، وينطبق عليه قول الله تعالى {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 14)، وحينئذ لا يدركون إلا ما تدركه الحيواناتُ من المحسوسات القريبة، ولا يبصرون إلا ما تحت أقدامهم، يبصرون الصورة ولا يسألون عن مصوِّرها، يعبدون المادة وينصرفون عمن خلقهم وخلق المادة.
إِنَّ ما يحيط بنا اليوم مِن تيارات متضادة، وأفكار متباينة، ومذاهب مختلفة متضاربة، كل أولئك كوّن فينا أزمةً روحيةً خطرةً، أزمةً عنيفةً مخيفةً، نتج عنها فتورٌ في الهمم، وخَوَرٌ في العزائم، وانحراف عن الدين القويم، والخلق الحميد، فذهبت التضحية، وتلاشى نكرانُ الذات، وزال الإيثارُ والإحسان، حتى أصبحنا في فقرٍ روحي، وانحطاطٍ نفسي، وتفسُّخٍ خلقي، ولم يقف الأمرُ عند هذا الحد، بل وصل إلى أبعد من ذلك وأنكى، وصل إلى أن يحاول الملحدون زعزعةَ عقائدنا، بل وصل إلى درجة أن يتجرأ الأوباشُ الأسفال على الطعن جهراً بالإسلام ونبي الإسلام، فضلاً عن الاستهزاء بعلماء الدين وتسفيه آرائهم، وتكذيب أقوالهم، بوقاحةٍ لم يعهدها الناس، بل لم تدر بخَلَد أحد منهم.
لا يُفلح الناسُ إلا بالرجوع إلى الينبوع الروحي، إلى دين الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولا يتم لهم ذلك إلا بإزالة ما تراكم على ذلك الينبوع مِنْ أدران، وبجهاد النفس لصرفها عن الشهوات والمعاصي ومعالجتها لتغيير ما اعتادت عليه من ذلك.
إنه جهادٌ صعبٌ عسيرٌ، إنه الجهاد الأكبر، جهاد شاق مستمر ما استمرت خلجاتُ النفوس ولحظاتُ العيون، وبهذا يَستطيع المرءُ أَنْ يدرك السرَّ في تسمية النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الجهاد بالجهاد الأكبر (1).
يَغلب على بني آدم حبُّ الدنيا والجريُ وراء زخرفها ومتاعها، فيتكالبون عليها ليشبعوا شهوات أنفسهم، ولكن النفسُّ لا تشبع ولا تقنع، فإِرخاءُ العنان لها يزيدها نهماً واسترسالاً في تلكم المتع الزائلة الزائفة، يزيدها انغماساً في الشهوات، بل يجعلها تتفنن في ذلك وتبتكر، ورحم الله البوصيري حيث يقول:
نعم تزداد النفس شراهة، ويزداد شغفها بالنعيم المادي الدنيوي، والله سبحانه يريد لنا النعيم الروحي الأخروي {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (الأعلى: 16-17).
يريد الإنسانُ سعة الرزق ووفرة المال، ولكن ذلك في أكثر الأحيان يعود عليه وعلى غيره بأسوأ النتائج وأوخم العواقب {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} (الشورى: 27)، لذلك كان المؤمن مأموراً بكبح جماح نفسه فلا يدعها تزدري نعمة الله، ولا يفسح لها المجال لتجري وراء الأماني، يتمنى ما فضل الله به غيره عليه، وهناك ينشأ الحسد. إِنَّ مكافحة ذلك ضربٌ من ضروب جهاد النفس، وعَوْدٌ بها إلى فطرتها الطيبة السالمة المسالمة.
وبالإمكان أَنْ ندرك أثر جهاد النفس في جميع العبادات التي أوجبها الله على المسلم، يؤديها طلباً لرضوان الله وتقرباً إليه، ولا يتم ذلك إلا بالحد من شهوات النفس وبهجر كثيرٍ مما اعتادت عليه.
ففي الصلاة يترك المصلي تجارته وعمله وحديثه وطعامه وشرابه مدة الصلاة، ثم يرغم نفسه على الوقوف جنباً إلى جنب مع أي مسلم كان، مع الغني أو الفقير، مع الأمير أو المأمور، مع العربي أو الأعجمي، يقرأ كما يقرأ، ويستمع كما يستمع، يركع معه ويسجد معه، متجهاً نفس الاتجاه، متضرعاً إلى إله واحد، إلى الذي خلقهم جميعاً، وفي كل ذلك يصرف عن نفسه وساوسها، ويردها كلما انصرفت عن الموقف العظيم الذي يقفه، وهو صلة القلب بخالق القلب، لتكون صلاته مما ينطبق عليها قوله تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45).
وإرغام النفس في الزكاة واضح كذلك، فإن الإنسان الذي قد حرص على جمع المال، وبذل الجهد للحصول عليه بعرق جبينه وإرهاق أعصابه، ليعده لمعيشته ولمستقبل أيامه، يرغم نفسه على صرف بعضه بدون مقابلٍ للمحتاجين.
أما مخالفة النفس وإرغامها عند الصوم فالأمر فيه أكثر وضوحاً فلا يحتاج إلى إطالة كلام.
والحج من أول يوم التهيؤ له إلى يوم العودة، جهاد للنفس، ودفع لها إلى الاستغراق الروحي الذي به تلتفت النفس إلى فطرتها التي فطرها الله عليها، لتنهل من ذلك الينبوع الصافي، في الحج يبتعد المؤمن عن كثيرٍ من المألوفات فلا يتطيب بأي طيب (بعد الإحرام) ولا يقص شعراً ولا ظفراً، ولا يلبس المخيط من الثياب، فالحج ... تقشف وروحانية، ويتجلى ذلك عند الوقوف بعرفات، حيث يقف الآلآف من المسلمين بزي واحد، وإن اختلفت قومياتهم وألوانهم، يدعون رباً واحداً، وإن اختلفت لغاتهم ولهجاتهم، فتسمو الأرواح على الفوارق المادية والحسية، ويتطهر ينبوع القلب بالتوبة والاستغفار، وبإدراك أن متاع الدنيا زائل فانٍ، وأن ما عند الله خير وأبقى.
ــــــ
(1) يُشير الشيخ رحمه الله إلى ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة العبد هواه”. رواه البيهقي في كتابه “الزهد” (373)، والخطيب في تاريخ بغداد، في ترجمة واصل بن حمزة الصوفي (13/523)، عن جابر، وقال البيهقي: إسناده ضعيف، وتبعه العراقي. انظر فيض القدير (4/511).تلميذه عبد الحكيم الأنيس.
وسوم: العدد 684