دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 23
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
خطة جهادية مذهلة ( 23 )
د. فوّاز القاسم / سوريا
بعد أن قُمعت الردّة وأُخمدت نار الفتنة في جزيرة العرب ، أراد الخليفة الراشد أبو بكر الصدّيق ( رض ) أن يستثمر الزخم الجهادي المتدفّق للعرب ، والروح المعنوية العالية للمسلمين ، فأصدر قراره التاريخيّ الرائع ( الفتوحات الإسلامية ) وفتح له باب التطوّع ، وبدأ بالعراق ، فأوعز إلى قائده المبدع خالد بن الوليد ( رض ) _ وكان قد فرغ لتوّه من القضاء على المرتدّين ، وعلى رأسهم مسيلمة الكذّاب في اليمامة _ أن يدخل العراق من جنوبه الشرقي ، كما كتب إلى عِياض بن غنم ، وهو قائد آخر يلاحق فلول المرتدّين في منطقة الحجاز ، وأمره أن يدخل العراق من شماله الغربي ، بحيث يطبقان على غربيّ نهر الفرات بفكّي كمّاشة ، وأمرهما أن يلتقيا في الحيرة ، وأيهما سبق إليها فيكون هو الأمير ، ومنها يزحفان إلى المدائن عاصمة الفرس .. !!!
ترى .. أين تعلّم أبو بكر الصدّيق ( رض ) فنون الستراتيجية والحرب حتى يضع مثل هذه الخطة الرائعة .!!؟
يقول العسكريون : الخطة البسيطة الواضحة هي أهم عنصر في نجاح القائد .!!
فما أبسطها ، وما أوضحها ، وما أروعها ، من خطة … !
إنها خطة ذات مرحلتين ، في المرحلة الأولى : يتم الإطباق على غربي نهر الفرات وتطهيرها من القوات الفارسيّة ، وهي منطقة قريبة من صحراء العرب ، ولهم خبرة كبيرة فيها ، فإذا نجحت الخطة ، فيتم الانتقال إلى المرحلة الثانية :
وهي الوثوب إلى المدائن من قاعدة ارتكاز متقدّمة في ( الحيرة ) بعد أن يتأمن ظهر المسلمين وجنباتهم ...
أما إذا لم تنجح الخطة ، فيلوذ العرب بصحرائهم القريبة ، فهم بها أعرف ، وعدوّهم بها أجهل ، حتى يتم الإعداد لخطّة جديدة ، ووثبة متجددة … وهكذا …
وتحرّك الأسطورة خالد ( رض ) على رأس ثمانية عشر ألف مجاهد لتطبيق الخطة المرسومة ، فدخل العراق في شهر محرّم سنة اثنتي عشرة للهجرة ، الموافق لشهر نيسان من سنة (633 م ) مبتدئاً بثغر العراق الجنوبي ( الأُبلّة ) التي كانت أشهر ميناء على شط العرب ، والتي تبعد عن موضع البصرة الحالية ( التي لم تكن موجودة ) حوالي أربعة فراسخ ( 22 كم ).
ولم تمض إلا ثلاثة أشهر فقط ، حتى حقّق خالد أهدافه ، ووصل إلى غايته ، ودخل الحيرة فاتحاً في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة للهجرة النبوية الشريفة ، الموافق لشهر أيار سنة 633 ميلادية .
بعد أن خاض مع الفرس عدّة معارك عسكرية مظفّرة ، أرعب فيها الفرس ، وكسر ظهرهم ، ودوّخ قياداتهم ، وكان يسبقه صيته مسيرة شهر .
وهكذا يكون خالد ( رض ) قد حقّق هدفه في الوصول إلى الحيرة ، وأنجز مهمّته المرسومة له على أفضل وجه ، ولقد كان لفتح الحيرة آثاره البعيدة ، فلقد كانت أول عاصمة من عواصم الأقاليم تسقط في أيدي المسلمين ، وكان لسقوطها أهمية ستراتيجية ومعنوية كبيرة ، هذا فضلاً عن كونها قاعدة تموينية متقدّمة تمد الجيوش العربية الإسلامية المتقدمة بما تحتاجه من العتاد والمؤن …