دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 20
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
فتح الحيرة ( 20 )
د. فوّاز القاسم / سوريا
الحيرة بلدة عربية قديمة ، تقع على نهر الفرات ، وتبعد حوالي ستة كيلومترات إلى الجنوب من الكوفة الحالية ، التي لم تكن موجودة يوم دخل المسلمون العراق ، على الحدود الفاصلة بين صحراء العرب وسواد العراق .
لحق جيش المسلمين بخالد ، فتقدّم بهم من الخورنق باتجاه الحيرة ، فتحصّن أهلها في حصونهم ، فأمر خالد جنوده أن يدعوهم إلى الإسلام وأن يمهلوهم يوماً ، ولكنّهم أبوا الإسلام أو دفع الجزية ، فلما انتهت المهلة نشب القتال وضغط المسلمون على الحصون فأكثروا القتل بأهلها ، وأدرك أهل الحصون أن لا جدوى من المقاومة فنادوا بالأمان على أن يصالحوا المسلمين وينزلوا على حكم خالد ( رض ) ، فقبل منهم خالد ( رض ) وأعطاهم بذلك كتاباً ، وتم له ذلك في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة للهجرة النبوية الشريفة ، الموافق لشهر أيار سنة 633 ميلادية .
وهكذا يكون خالد ( رض ) قد حقّق هدفه في الوصول إلى الحيرة في أقل من ثلاثة أشهر ، وأنجز مهمّته المرسومة على أفضل وجه ، ولقد كان لفتح الحيرة آثاره البعيدة ، فقد كانت أول عاصمة من عواصم الأقاليم تسقط في أيدي المسلمين ، وكان لسقوطها أهمية ستراتيجية ومعنوية كبيرة ، هذا فضلاً عن كونها قاعدة تموينية متقدّمة تمد الجيوش العربية الإسلامية المتقدمة بما تحتاجه من العتاد والمؤن …
باختصار ، لقد كانت الحيرة ، وكما خطط لها الخليفة الراشد أبو بكر الصدّيق ( رض ) ، موطيء قدم مناسب لقفزة هجومية أخرى نحو الهدف الأكبر ، وهو المدائن عاصمة الفرس … هذا إذا سارت الأمور كما يشتهي المسلمون …
أما إن كانت الأخرى – لا سمح الله – فإن موقعها على حدود جزيرة العرب يمنحها ميزة عظيمة ، في أن تكون طريق انسحاب ، وخط رجعة آمن للمسلمين …!!!
ما إن ضرب خالد ( رض ) فسطاطه بالحيرة حتى جاءه أهل السواد من الدهاقين يرجون عفوه ويطلبون صلحه ، فصالحهم على أن لا يغدروا ولا يخالفوا ولا يعينوا كافراً على مسلم ، وكتب لهم بذلك كتباً وقّعها بختمه ، ثم بدأ بالكتابة إلى ملوك العجم في المدائن ومرازبة فارس فيها :
كتب للملوك قائلاً : ( بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ، أما بعد ، فالحمد لله الذي حلَّ نظامكم ، ووهَّن كيدكم ، وفرَّق كلمتكم ، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرَّاً لكم ، فادخلوا في أمرنا ندَعَكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم ، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غَلَب ، فقد جئتكم بقومٍ يحبّون الموت كما تحبّون الحياة ) …!
وكتب إلى المرازبة ورجال الدين : ( بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ، أما بعد ، فأسلموا ، تسلموا ، وإلا فاعتقدوا منّي الذمّة ، وأدّوا الجزية ، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبّون الموت كما تحبّون شرب الخمر ) .!!!
ثم أقام خالد في الحيرة يشرّق منها ويغرّب ، ويصعّد ويصوّب ، ويرقب الأحداث قرابة سنة ، هذا والفرس مشغولون في المدائن بخلع ملك وتولية آخر ، ذلك أن شيرويه بن كسرى كان قد قتل كلُّ من كان يناسبه إلى كسرى أنو شروان ، ثم ثار الفرس بعده وبعد ابنه أردشير فقتلوا كل من كان بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور ، ثم بقوا بعد ذلك في أزمة ملوك ، لا يجدون من يملّكونه عليهم من آل ساسان.!!!
وفي الوقت الذي كان فيه الفرس يتصارعون على كرسي الحكم والملك ، كانت خيول المسلمين تجوب أعماق السواد بين دجلة والفرات ، حتى وصلت طلائعها إلى مشارف المدائن ، وفي تلك البطولات المشرّفة قال القعقاع بن عمرو التميمي :
سقى اللهُ قتلى بالفرات مقيمةً وأخرى بأثباج النِّجاف الكوانفِ ( المناطق المحيطة بأرض النجف )
فنحن وطئنا بالكواظمِ هرمزاً وبالثَّنيْ قرنَيْ قارنٍ بالجوارفِ ( يقصد موقعتي كاظمة والمذار )
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت على الحيرةِ الرَّوحاءِ إحدى المصارفِ ( هنا يتحدّث عن فتح الحيرة )
حطَطْناهمُ منها وقد كاد عرشُهم يميل به فعلَ الجبانِ المخالفِ
رمينا عليهم بالقبولِ وقد رأَوا غَبوقَ المنايا حول تلك المحارِفِ
بهذا يكون العملاق خالد ( رض ) قد أنجز الشق الأول من الخطة ، وهي الوصول إلى الحيرة ، وجعلها نقطة ارتكاز للقفز إلى المدائن عاصمة الفرس ...
أما تفاصل ملاحم المسلمين في فتح المدائن وما بعدها ، فهذا ما نرجو أن يوفقنا الله إلى تقديمه في حلقات قادمة بإذن الله ...
هذا هو تاريخكم أيها السوريون والعرب والمسلمون ، وهذا هو جدّكم يا أبناء حمص النجباء ، وقد والله رفعتم الرأس ، وبيّضتم الوجه ، وكنتم خير خلف لخير سلف ...
هذا هو تاريخكم يا أسود الجيش السوري الحرّ ، تاريخاً جهادياً عظيماً مشرّفاً ...
وهؤلاء هم أجدادكم ، مجاهدون أطهار أبرار ، عاشوا فوق صهوات الخيول ، وتحت ظلال السيوف ...
فهل نقتدي بهم ، ونسير على نهجهم ، ونتلمس خطاهم ...!؟
هذا ما نرجوه مخلصين ، ونعمل من أجله جاهدين ...
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ...