الصيام
الصيام نور على نور في كل الأمور ... كما أنه صحة وأمان بكل صيغه وأشكاله عبر الزمان .
فهنالك صيام عن الطعام مع شرب الماء وهو ما يعرف بالصيام الطبي للشفاء من الأمراض وتقوية المناعة الذاتية ، وقد ثبت علمياً بأن الإنسان قادر على العيش اعتماداً على الماء لفترة طويلة حيث بلغ الرقم القياسي 89 يوماً وهنالك صيام عن اللحوم والدهون يعتمده أتباع السيد المسيح عليه السلام .
كما هنالك صيام مشابه له يمارسه النباتيون كصيام أبي العلاء المعري شاعر الحكمة والبيان .
أضف إلى ما سبق : الصيام عن الكلام الذي مارسته السيدة مريم العذراء عليها السلام حينما أمرها رب العزة والجلال (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً) آية 26 سورة مريم ، وذلك للجم تساؤلات المستنكرين عن وليدها العظيم لأنه من روح الله .
وكصيام نبي الله زكريا أيضاً حينما طلب من ذي العرش المكين آية عندما بشره بيحيى عليهما السلام فقال له (أيتك ألاّ تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) أية 10 سورة مريم .
ونحن الآن بصدد الصيام الذي فرضه الذكر الحكيم إمساكاً عن الماء والطعام والسوء والفحشاء ولغو الكلام .
وهو الصيام المطلق لما له من نتائج صحية على العقل والنفس والجسم ابتداء من دخول الصائم ملحمة الصبر والصبر قوة ونصر على الأهواء كما أكد الرسول الكريم صلوات الله عليه وأخوته النبيين وأحبابه إلى يوم الدين (الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان) ،والصوم لايقتصر على الإنسان وحده ، فكل الكائنات الحية تصوم بشكل أو بآخر إبان مرضها وتصوم الطيور في هجراتها الموسمية ، وتصوم الأسماك حينما تأوي إلى كهوفها ،وتصوم الضفادع في سباتها الشتوي .
أما الصوم الذي يمارسه المؤمنون فيعتبر علاجاً فعالاً لكثير من الأمراض كأمراض السكر والنقرس وضغط الدم وغيرها لأنه يساعد الجسم على استهلاك الخلايا المريضة وولادة خلايا جديدة تمد الجسم بالصحة والطاقة وتقوية جهاز المناعة .
ومن هذا المنطلق نستطيع إدراك ما يمكن إدراكه من الحديث القدسي الذي أورده النبي الخاتم : يقول الله تبارك وتعالى : (الصوم لي وأنا أجزي به) .
والتساؤل الذي طرحه فريق من المفكرين الإسلاميين ورجالات التصوف الإسلامي وفي مقدمتهم الإمام أبو سراج الطوسي في كتابه (اللمع) : لم خص رب العزة والجلال الصوم من سائر العبادات بأنه يجزي به مع علمنا بأن الله يجزي على كل العبادات ؟!
وأجاب الطوسي على ذلك قائلاً : إن العبادات المفروضة تتم بحركات الجوارح بحيث يراها ويعرفها الناس إلاّ الصوم فهو عبادة لا يراها ولا يعرفها إلا الله وحده ، ولهذا قال جلّ شأنه : (الصوم لي وأنا أجزي به) وتابع الطوسي موضحاً : إن قول الله الصوم لي هنا بمعنى لي الصمدية ... فالصمد لا جوف له ولا يحتاج طعاماً ولا شراباً ، وهذا يعني بأن من تخلّق بأخلاق الصمدية يجزيه الواحد الأحد القدوس الصمد على هذا التخلق باعتبار الصيام هو العبادة التي يمارسها العباد تخلقاً بأخلاق الرحمن ، ولعل في هذا ما يؤكد بأن الصوم الحقيقي لايحقق شرطه السامي ما لم يتخلق الصائم بأخلاق الرحمن بدءاً من الصدق والحب والتكافل والتراحم وعدم التزاحم على ترهات الحياة الدنيا وسفاسفها
والصدق يبدأ بحفظ اللسان عن المحارم والآثام .. وبما أن الإسلام جاء خاتماً للأديان السماوية وحاضناً لتوجهاتها ومساراتها ، فقد اعتبر القرآن الكريم حفظ اللسان في مقدمة المحاور الأساسية للإيمان عبر آيات كثيرة في الذكر الحكيم كما جاء في مستهل سورة (المؤمنون) : (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ..) إلى آخر النص القرآني . كما جاء التوجيه النبوي وفق هذا المنطلق ولاسيما في شهر رمضان بقوله صلوات الله عليه (الصيام جنة ، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم) .
ومن المعروف لغة أن مفردة (جنة) بالضم تعني وقاية . وهذا يعني بأن الصيام وقاية من كل سوء تقريباً لهذا كان من أبجديات الصيام الجوهرية الابتعاد عن كل قول يخالف الآداب والأعراف لئلا يفسد الصيام ومصداق ذلك قول الرسول العظيم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وكلكم يعلم بأن قول الزور هو كذب في كذب ، وهذا ما يؤكد لنا جميعاً بأن ليس للكاذب صيام ، كما أنه ليس للأشرار الذين يسارعون إلى رفع الأسعار صيام .. وبالتالي فإن كل الذين يخضعون المواد الغذائية والاستهلاكية لحركة الدولار فإنهم أقرب إلى الفجار .... ولعل الصيام في هذه الأزمنة المرعبة .. أزمة الفتن والمحن لا يحقق حضوره المتعالي ما لم يعرف الصائم ما عليه فيؤديه قبل أن يعرف ما له ، الصوم صوم عن كل سوء بدءاً من عدم التلاعب بالأسعار وخشية الواحد القهار في الليل والنهار وتحضرني الآن مقوله لقمان الحكيم : عاشرت الأنبياء والمتقين والعلماء فتعلمت منهم بضع كلمات :
احفظ قلبك في الصلاة .. واحفظ بطنك على الطعام ... واحفظ لسانك في المجالس .. واحفظ بصرك في بيوت الناس .
واثنتان لا تذكرهما أبداً : إحسانك للآخرين وإساءة الآخرين إليك .
واثنتان لا تنساهما أبداً : ذكر الله وذكر الموت.
وسوم: العدد 722