أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ 1+2+3
أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (1)
مَصدَر الظلم في المناهج البشرية ومشروعاتها
أولاً: بَدهيّات ومفاهيم
1- مَنهج الحياة الإنسانية:
هو مجموعة الأسس والقوانين والتشريعات، التي تُنظِّم الجوانبَ المختلفة لحياة المجتمع الإنسانيّ، الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والأحوال الشخصية، والتربوية، والثقافية، و.. أي: إنّ منهج الحياة ينظم شؤون الناس في كل أمرٍ خاصٍ أو عامٍ من حياتهم!.. وإنّ أي منهجٍ يُسَنّ، لا يوضَع إلا لينفَّذ على الناس، ولِيُحمَلوا على تنفيذه، بقوّة القانون وسطوة السلطة التي وضعته!..
2- مَن الذي يَدَع الآخرين أن يتصرّفوا بكل أموره، وشؤونه، وحياته، وعلاقاته، ومَأكله، ومَشْربه، ومَلْبَسِهِ و..؟!..
- الجواب : هو العبد.. نعم العبد الطائع المنقاد، هو الذي يترك للآخرين التصرّف بشؤون حياته على ذلك النحو!..
ومن الأمور البديهية، أنّ لكلّ عبدٍ سيداً أو ربّاً.
3- وهل يمكن للبشر أن يكونوا أرباباً؟!.. وكيف يكون ذلك؟!..
- الجواب واضح من الآية الكريمة:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).. (آل عمران:64).
أي: إنّ البشر يمكن أن يصيروا أرباباً.. لكن كيف؟!..
- الجواب : بِسَنّهم تشريعاتٍ أو بوضعهم منهج الحياة للناس، وبفرض أوامرهم ومناهجهم ودساتيرهم الخاصة عليهم!..
4- النتيجة :
يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضهم الآخر، أو في ظلِّ وَضعِ بعضهم مناهج الحياة لبعضهم الآخر.. إلى فئتين:
أ- أرباب يُشرِّعون ويضعون منهج الحياة.
ب- وعبيد يطيعون وينفِّذون ما يضعه الأرباب (أو واضعو منهج الحياة) لهم.
وهذا بالضبط ما جاء القرآن الكريم ليدحضه ويلغيه من أساسه، بقول الله عز وجل: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)!.. أي بالمعنى الحرفيّ:
(لا يُطع بعضنا بعضاً في معصية الله، بتنفيذ منهجٍ موضوعٍ بأيدي البشر، غير منهج الله ودستوره وشرعه الذي أراده لهم)!..
* * *
ثانياً: حول المفاهيم العقدية التي تعرضها الآية الكريمة
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).. (آل عمران:64).
تعرض لنا هذه الآية الكريمة جملةً من الأمور العَقَدية، ذات الأهمية البالغة في توضيح الخطوط الفاصلة بين الشرك والإيمان، وذلك بشكلٍ محدّد.. كما تفتح الطريق واسعاً، أمام فهم خطورة انجرار المسلمين وراء المشروعات الوضعية ومناهجها، ووراء المخططات الاستعمارية الحديثة، سواء أكان منشؤها الدول الاستعمارية الدولية أو الإقليمية الكبرى.. أم أنظمة الحكم التي لا تحكم بما أنزل الله عزّ وجلّ.
وبذلك، فإنّ هذه الآية العظيمة تعرض لنا المفاهيم الآتية:
1- مفهوم العبادة بشكلٍ عام، وعبادة الله عزّ وجلّ بخاصة.
2- تحريم إشراك غيره سبحانه وتعالى في العبادة.
3- مفهوم الربوبية، وتحريم اتخاذ غير الله عزّ وجلّ ربّاً أو إلهاً.
4- المفاصلة العَقدية الكاملة بين أهل الإسلام وأهل الشرك أو الكفر.
* * *
ثالثاً: مناقشة المفاهيم الأربعة
- العبادة: هي التوجّه إلى الله عزّ وجل بكل أمر، والخضوع إليه خضوعاً كاملاً، والتذلل إليه، مع إرفاق كل ذلك بمحبّته الكاملة سبحانه وتعالى.. وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عزّ وجلّ:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36).
- والطاغوت: الوارد ذكره في الآية الكريمة الآنفة الذكر (.. وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ..)، هو كل ما يُعبَد من دون الله عزّ وجلّ، وهو الذي يصرف الناس عن طريق الخير، وهو كذلك، كل سلطةٍ أو قوّةٍ أو قيادةٍ تتمرّد على شرع الله ومَنهجه، ثم تحمل الناسَ على تنفيذ منهجٍ للحياة، تُشَرِّعه من عندها، وتضعه للناس بيدها وفق رؤيتها أو هواها أو مصلحتها.
- والربّ: الوارد ذكره في الآية: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)، هو المدبِّر والمشرِّع، والسيّد، وصاحب السلطة العليا، أي: مَن يضع الشرائع والدساتير للناس، لتكون لهم منهجاً لحياتهم.. أو: هو مَن يضع لهم (دِيناً) يعملون به ويحتكمون إلى ما جاء فيه.. في شؤون حياتهم كلها.
- والدِّين: هو الذي يحدّد النظام والمنهج الفكري والعملي للسلطة العليا، وهو الشرع والقانون، وهو الذي يحدّد الحاكمية وسلطات السلطة العليا، ويحدّد طريقة الإذعان لها، كما يحدّد الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وفي هذا يقال مثلاً: (فلان دانَ الناسَ)، أي: قهرهم أو حملهم على الطاعة، كما يُقال: (دِنْتُهُ)، أي: سُسْتُهُ ومَلَكتُهُ.
ولمزيدٍ من توضيح الصورة في شرح المفاهيم الآنفة الذكر.. نوضّح معنى (الإله)، فنقول:
- الإله: هو الذي يتوجَّه إليه الناس بالعبادة والطاعة والخضوع التام.
* * *
رابعاً: مَن هو الذي يليق به أن يُنظّم حياة الناس
(أي: يضع لهم منهج حياتهم، ويُشرِف على تنفيذه)؟!..
للجواب على هذا السؤال، نعرض المثال التمهيديّ الآتي:
عندما يخطئ الطبيب في تشخيص مرض المريض، فيصف له علاجاً خاطئاً بناءً على تشخيصه الخاطئ.. فإنّ ذلك الخطأ سيؤدي إلى إحدى نتيجتين:
- إما استمرار علّة المريض وتفاقمها..
- أو موته!..
وفي الحالتين، فإنّ المريض يكون قد لحقه (ظلم) من قبل الطبيب، على الرغم من أنّ الطبيب في الأصل قد لا ينوي أن يظلمَ مريضَه، والظلم هنا لا يقع على المريض فحسب، بل يمكن أن يتأثر به أولاده الذين يعولهم، وزوجته، وربما أصحابه وأقاربه وهكذا ..!..
وبصورةٍ أخرى نقول:
لقد (أخطأ) الطبيب (حتى لو كان ذا نيـّةٍ حسنةٍ في سعيه الجادّ لمعالجة مريضه).. فنتج عن خطئه (ظلم)!.. وهذا يقودنا إلى القاعدة الآتية:
(الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم)!..
احفظوا هذه القاعدة، وانتقلوا معي إلى الفكرة الثانية:
كل مناهج الحياة توضع لتحقيق (سعادة) الإنسان (على افتراض أنه لا خلاف على النيّة الحسنة)، لذلك ينبغي لها ألا تكون ظالمةً في أي بندٍ من بنودها أو أي جزئيةٍ من جزئياتها، لأنّ وقوع الظلم لن يؤدي إلى سعادة الناس بأي حالٍ من الأحوال.. فإذا كان منهج الحياة ودستورها من وَضْعِ الإنسان نفسه، أي من وَضْع البشر، فإنها ستحتوي حتماً على الكثير من الأخطاء، لأنّ الإنسان (خطّاء)، وبالتالي سيقع في موضع كل (خطأٍ) في ما يضعه الإنسان -عند التنفيذ- (ظلمٌ) على قدره وبمقداره، فيكثر الظلم بمقدار كثرة الأخطاء في منهج الحياة الموضوع.. لذلك ينبغي لمن يضع منهج الحياة للناس وينظّم شؤونهم، أن يكون مُنَـزّهاً من (الأخطاء)، فيكون بذلك مُنـزّهاً من (الظلم)، فتتحقق (سعادة) الإنسان!.. أي بمعنىً آخر:
هو مَن يملك أن يضع للناس منهجاً صحيحاً خالياً من الأخطاء، وصحّة المنهج شرط أساس هنا، فمن هو الذي يتصف بهذه الصفة العظيمة؟!..
- الجواب : الله عز وجل وحده الذي لا يخطئ، فهو لا يظلم، فهو الوحيد القادر على تحقيق سعادة الإنسان.. والوحيد الذي يليق به أن يُنظّم حياة الناس الذين خلقهم وأراد لهم السعادة، وذلك بِوَضْعِ منهج الحياة الصحيح لهم، ثم بالإشراف على تنفيذه بشكلٍ صحيحٍ عادلٍ لائق، وفق منظومةٍ تشريعيةٍ شاملةٍ متكاملةٍ متوازنة!..
وغني عن الذكر، أنّ واضع المنهج أيضاً، ينبغي أن يكون عادلاً، وحكيماً، وخبيراً، وقادراً على محاسبة الناس مهما عَلَت رتبهم، وقادراً على الانتصار للمظلوم أو صاحب الحق حتى بعد موته أو موت ظالِمِه، لكي يتحقق العدل، فلا ينجو ظالم ولا يضيع حق مظلوم.. و.. فَمَن يتصف بهذه الصفات غير الله تبارك وتعالى؟!..
* * *
خامساً: النتيجة الأخيرة
كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة في أسُسِها التي تُبنى عليها، يضعها البشر الذين يخطئون (حتى على افتراض حسن النية)، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يُصادِرون (سعادة) الإنسان، أو جزءاً منها!..
أي: إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..) .. هذا (الأساس) هو:
إنّ البشر هم الذين وضعوها!..
أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (2)
الأصل الأول في الإسلام، أو: الهدف
أولاً: نتائج الحلقة السابقة
1- إنّ كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة يضعها البشر الذين يخطئون، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يصادِرون (سعادة) الإنسان، أو جزءاً منها!..
2- إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..).. هذا (الأساس) هو: (إنّ البشر هم الذين وَضَعوها)!..
3- إنّ الذي (يضع) منهجاً للحياة، يحوِّل نفسَه إلى (ربٍّ) من دون الله، وإنّ الذي (يطيعه) في معصية الله وينفّذ منهجه الوضعيّ، يحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لذاك الربّ المزيّف]!..
ثانياً: بعض وجوه الألوهية، والربوبية، والعبودية
1- لقد قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (بشراً)!.. كيف؟!..
- الجواب : بالطاعة، والخضوع التام له، في معصية الله عزّ وجلّ:
(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء:29).
إنه تهديد الطاغية فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام، إذ يريد فرعون من موسى، أن يتركَ رسالته التي أنزلها الله عزّ وجلّ إليه ليبلّغ بها الناس، ويخضع (بدلاً من ذلك) خضوعاً تاماً لفرعون الجبار الطاغية، ويطيعه في ضلاله وطغيانه وكفره وتألّهه، ويتّبع دستوره وتشريعاته وقوانينه!..
2- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (هوىً):
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان:43).
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثـية:23).
والهوى قد يكون فكرةً، أو شهوةً، أو عقيدةً فاسدةً، أو شهرةً.. يخضع لها الإنسان ويتحوّل إليها عن دِينه وعقيدته، وعن إله السماوات والأرضين.
3- كما قرّر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أنّ الإله يمكن أن يكون مالاً:
(تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخَميصة) (البخاري).
والمال قد يكون عقاراً، أو لباساً، أو زينةً، أو نقداً، أو ذهباً وفضةً.. يخضع له الإنسان وينساق وراءه، فيبيع دِينه ومبادئه بِعَرَضٍ من الدنيا الزائلة، ناسياً الله عزّ وجلّ.. وما أشدها من تعاسة، عندما يحوِّل الإنسان نفسَه إلى عبدٍ ذليلٍ للمال!..
4- وسبق أن قلنا: إنّ القرآن العظيم قرّر أنّ الربّ يمكن أن يكون (بشراً):
(.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..) (آل عمران: من الآية 64).
5- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ العبادة (بمعنى الخضوع والطاعة في معصية الله عزّ وجلّ) يمكن أن تكون للبشر:
(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون:47).
(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) (القصص:63). أي: (ما كانوا إيانا يطيعون ويعبدون هواهم الذي زيّن لهم طاعتنا).
لكن.. كيف يتحوّل الإنسان إلى إلهٍ أو ربٍ يُعبَد؟!..
القرآن العظيم يحسم القضية:
أ- الذين يُنظمّون شؤون الحياة بدساتيرهم وقوانينهم ومناهجهم، يتحوّلون إلى آلهةٍ وأرباب:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31).
فقد دخل عَديّ بن حاتم الطائي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية، فقال: [إنهم لم يعبدوهم يا رسول الله، فقال: بلى!.. إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام (أي نظموا لهم شؤون حياتهم بغير منهج الله عزّ وجلّ).. فاتّبعوهم (أي أطاعوهم)، فذلك عبادتهم إياهم]!.. (تفسير ابن كثير-ج2-ص348-طبعة دار إحياء الكتب العربية).
ب- الذي يطيع واضعَ القانون أو المنهج أو الدستور يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين:
فهذا خطاب العبيد يوم الحساب، لزعمائهم الذين أطاعوهم في الحياة الدنيا على الضلال:
(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:94-98).
يقول ابن كثير: (إذ نسوّيكم بربّ العالمين، أي: نجعل أمركم مطاعاً كما يُطاع ربّ العالمين).
ج- المنهج أو القانون الذي يضعه البشر يتحوّل إلى دينٍ للذين ينفذّونه:
(.. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (يوسف: من الآية 76).
يقول ابن كثير: (لم يكن ليأخذه في حُكْمِ ملك مصر، أي: قانونه).
* * *
ثالثاً: الأصل الأول في الإسلام أو (الهدف): لا إله إلا الله محمد رسول الله
كلنا نقولها ونردّدها صباحاً ومساءً وفي الأوقات كلها، فهل نعمل بمقتضاها، ونبرّئ ذمّتنا أمام الحيّ القيوم الذي لا إله سواه؟!..
أ- لنعلم أنّ الإيمان بهذا الهدف العظيم يقتضي ما يأتي:
1- نَبْذُ كل إلهٍ أو ربٍ غير الله عزّ وجلّ، فلا يتّخذ المسلم منهجاً للحياة إلا الإسلام، وينبذ مناهج الطواغيت وأذنابهم، ومناهج الآلهة والأرباب المزيّفين، ويرفض مشروعاتهم ومخطّطاتهم التي تستهدف الدين والوطن والإنسان والثروات والحاضر والمستقبل.. سواء أكانوا بشراً يشرّعون من عند أنفسهم، أو حجراً، أو هوىً، أو مالاً، أو متاعاً.. أو غير ذلك!..
2- وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الذي نقل منهجَ الله إلى الناس عن طريق الوحي، وفسّره ووضّحه، وأحاله إلى واقعٍ محسوسٍ، وبنى عليه أمة الإسلام ونظّم شؤونها.
3- أن يتحرّر المسلم المؤمن بهذا الهدف، من كل ظلمٍ وجَورٍ وبغيٍ ينجم عن المناهج البشرية الوضعية الخاطئة.. الظالمة.
ب- بعد ذلك، نسأل السؤال ذا الأهمية البالغة: هل يبقى المؤمن مؤمناً، إذا اتبع مَنهجاً غير مَنهج الله عزّ وجلّ، وأطاع طاغوتاً أو ربـّاً مُزيفاً أو قوّةً استعماريةً أو احتلاليةً أو عَقديةً على غير العقيدة الصحيحة للإسلام، وخضع لأصحابها في شؤون حياته أو في بعضها.. هل يبقى المؤمن مؤمناً إذا فعل ذلك؟!..
- للجواب على السؤال السابق نقول:
ما الفرق بين المشرك الذي يُنفّذ مَنهجاً للحياة غير منهج الله عزّ وجلّ، ومن يلهج بذكر هدف الإسلام العظيم: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل وقت، من غير أن يعمل بمقتضاه (1و2و3) الذي ذكرناه آنفاً؟!.. كيف يقول المسلم: لا منهج للحياة إلا منهج الله (لا إله إلا الله)، ثم ينفّذ مناهج الطواغيت والأرباب المزيّفين، وينصاع للمخطّطات الاستعمارية والمشروعات الاحتلالية، أو يتواطأ مع واضعيها لتنفيذها على شعبه وأمّته؟!..
بمعنىً آخر: كيف يُقرّ المسلم بطاعة الله عزّ وجلّ، وبتنفيذ منهجه القويم الصالح لكل زمانٍ ومكان، وينطق بالشهادتين، من غير أن يتبنى منهجه عزّ وجلّ، ومن غير أن ينبذَ مناهج البشر ومخطّطاتهم الشريرة؟!.. ثم يطيع -مع الله سبحانه وتعالى- مَنهجاً آخر وَضْعِياً يضعه الطواغيت من البشر، فيحوِّلهم إلى (أربابٍ) له، ويحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لهم، مع إقراره بعبوديته لله عزّ وجلّ، وبأنه سبحانه وتعالى هو ربه؟!.. أي: يُشرك عبادته لله.. بعبادة البشر (الطواغيت والأرباب المزيّفين والقوى الشريرة التي تستهدف أمّته وعقيدته ودينه)!.. أليس هذا هو: (الشرك) بأوضح معانيه؟!..
- يقول ربّ العزة سبحانه تبارك وتعالى في محكم التنـزيل، موضّحاً حقيقة الشرك في الإسلام وجوهره:
(.. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).. (الأنعام: من الآية 121).
يقول ابن كثير في تفسير ذلك: (حيث عَدَلْتُم عن أمرِ الله وشرعه إلى قول غيره، فقدّمتم عليه غيرَه، فهذا هو الشرك، كقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..)!..
- كما يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:
(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية 44).
(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية 45).
(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: من الآية 47).
لنلاحظ كيف جاءت الآيات الثلاث في سورةٍ واحدةٍ متتابعةً تقريباً، ولنلاحظ الكلمات: الكافرون، الظالمون، الفاسقون!.. وكلها مرتبطة بالحكم بغير ما أنزل الله، الذي سيوقع الناس في: الكفر، والفسق، والظلم.. ولنلاحظ كيف ارتبط الظلم بالحكم بغير ما أنزل الله، وذلك ما شرحناه في حلقتنا الأولى السابقة (مصدر الظلم في المناهج البشرية)، عندما انتهينا إلى القاعدة الدقيقة: (الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم)!..
ج- بعد هذا قد يقول قائل:
طالما أنّ خطر الشرك واقع على كل المسلمين، لأنّ حكامهم وأنظمتهم أو (أربابهم)، الذين قد يكونون حُكْماً فردياً، أو حزباً، أو طائفةً، أو عشيرةً، أو أسرةً، أو قوّةً خارجيةً، أو أي فئةٍ تحكم بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ، وبغير منهجه وشرعه القويم سبحانه وتعالى.. طالما أن هؤلاء يجبرونهم على تنفيذ شرعٍ غير شرع الله ومنهجٍ للحياة غير منهج الله.. فما السبيل للتخلص من هذا الخطر العظيم الـمـُهلِك في الدنيا والآخرة: الشرك؟!..
- الجواب في قوله عزّ وجلّ:
(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).
وهذا ما ينقلنا لمناقشة (الأصل الثاني) في الإسلام، أو: (وسيلة تحقيق الهدف)، وهو: (الجهاد في سبيل الله)، الذي سنلقي عليه الأضواء، شرحاً وتفصيلاً وتوضيحاً، في الحلقة القادمة بإذن الله عزّ وجلّ.
أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (3)
الأصل الثاني، أو وسيلة تحقيق الهدف: الجهاد في سبيل الله
أولاً: نتائج الحلقتين السابقتين
لقد انتهينا في الحلقتين السابقتين (1و2) إلى النتائج المهمة الآتية:
1- يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضٍ إلى: أربابٍ يُشرِّعون أو يضعون مناهج الحياة، وعبيدٍ يُطيعون: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه) (آل عمران: من الآية 64).
2- إنّ الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم، والمعصوم عن الخطأ وحده، هو الذي يليق به أن يُنظّمَ حياة الناس، ويضعَ لهم مَنهج حياتهم ودستورهم.
3- إنّ المظالم الواقعة الآن في الإنسانية، نابعة من الأساس الذي تقوم عليه المناهج والأنظمة التي يُحكَم بها الناس، وهو: (بشرية هذه المناهج) التي وضعها البشر الذين يخطئون، فيَظلمون.
4- إنّ القرآن الكريم يقرّر، أنّ الذين يُنظمّون حياةَ الناس بمناهجهم الوضعية، يتحوّلون إلى أربابٍ مُزَيَّفين: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31).
5- إنّ الذي يُطيع واضع التشريع في معصية الله، يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 98).. وبذلك يُشرِك بالله عزّ وجلّ: (.. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام: من الآية 121).
6- إنّ هدف الإسلام في الأرض هو: (لا إله إلا الله)، وهو الأصل الأول في الإسلام، الذي يـُحرّر الإنسانَ من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى.. فلا واضع لمنهج الحياة إلا الله عزّ وجلّ، ولا طاعة إلا له، ولا تنفيذ إلا لشرعه القويم، ولا خضوع إلا إليه عزّ وجلّ، من غير كل القوى وجبابرة الأرض.
* * *
ثانياً: ما السبيل إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض؟
نتساءل:
1- كيف يتغلّب المسلم على واقعه، فيسير لتحقيق هدفه، وهو: تحقيق العبودية لله عزّ وجلّ وحده، من غير شِرْكٍ أو اتّباعٍ لغير مَنهجه القويم؟!..
2- وما الوسيلة إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض: (لا إله إلا الله)، أي: لنبذ كل الأرباب المزيَّفين والطواغيت، ورفض مخطّطاتهم ومشروعاتهم الخبيثة، وتبنّي منهج الله عزّ وجلّ وحده.. ثم لتحرير النفس والمجتمع والإنسانية، من الظلم الناجم عن المناهج الوضعية الخاطئة الظالمة؟!..
- الجواب أو الحلّ هو: ما ورد في الآية الكريمة العظيمة:
(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).
أي: جاهدهم بالقرآن العظيم، أي بمنهج الله عزّ وجلّ وحده، وبدستوره وشرعه وحده.
* * *
ثالثاً: المفاهيم التي تعرضها الآية الكريمة
1- تحريم الانصياع للأرباب المزيّفين، الذين يُنظمّون حياة الناس بمناهج وضعيةٍ من غير منهج الله عزّ وجلّ، بما يناقِضه، ورفض طاعتهم في ذلك بالوسائل الشرعية المناسبة، لأنهم خاطئون ظالمون لا يعملون لتحقيق العبودية لله عزّ وجلّ، في شؤون الحياة كلها، أو في بعضها.
2- جهاد الطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ومقارعتهم بما قرّره القرآن العظيم، الذي هو منهج المسلم الذي ارتضاه الله له وأمره بتنفيذه.. مع ملاحظة أنّ هذه الآية الكريمة (مكّية) أي أنها تدعو إلى الجهاد الكبير به (.. وَجَاهِدْهُمْ بِهِ..) أي: بالقرآن العظيم، أي: بمنهجه وحده!.. وعندما نزلت هذه الآية في مكة المكرّمة، لم يكن الأمر بالقتال قد نزل، فالأمر بالقتال حصل -كما هو معروف- في بداية العهد المدنيّ!.. وهكذا فإنّ:
- الأمر بالجهاد نزل في بداية الدعوة في المرحلة المكّية.
- ثم تكاملت معاني الجهاد، إلى أن نزل الأمر بالقتال في بداية المرحلة المدنية: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..) (الحج: 39 ومن الآية:40) .. لذلك فقد حدّد الإسلام أنواعاً للجهاد، صنّفها العلماء تصنيفاتٍ عدة.
* * *
رابعاً: أنواع الجهاد في سبيل الله
لقد فرض الله عزّ وجلّ الجهادَ على المسلمين -كما أسلفنا- منذ بداية الدعوة، وذلك لتحقيق هدف الإسلام في الأرض، ولتعميمه في أركانها، حتى يكونَ مَنهج الله عزّ وجلّ هو الوحيد الذي يحتكم إليه الناس في كل زمانٍ ومكان، وحتى تُنبَذَ المناهج البشرية القاصرة الطاغية الظالمة، التي وضعها الأرباب المزيّفون، الذين يستعبدون بها الناس، ويَسْتَرِقّونَهم بنُظُمِها!.. وقد صنّف الإمام (ابن القيّم) -رحمه الله- الجهادَ إلى أربعة أقسامٍ رئيسة:
1- جهاد النفس:
- على تعلّم الهدى ودِين الحق.
- وللعمل بالهدى ودِين الحق.
- وللدعوة إلى الهدى ودِين الحق.
- وللصبر على مشاقّ الدعوة وأذى الأعداء.
2- جهاد الشيطان:
- للاستقامة على منهج الله عزّ وجلّ.
- ولرفض ترك منهج الله إلى غيره من المناهج الظالمة الباغية.
3- جهاد الظلمة والمنحرفين وأصحاب البدع السيّئة والمنكرات.
4- جهاد الكفار والمشركين والمنافقين: لهدايتهم، ولتعميم الإسلام في الأرض.. وذلك بالمال والنفس واليد واللسان والقلب.
- والجهاد بكل أنواعه (فرض عَينٍ) على كل مسلمٍ، حتى يتحقّق هدف الإسلام في الأرض، وهو تحكيم منهج الله عزّ وجلّ فيها، لأن تحقيق الهدف (وهو الحكم بما أنزل الله) فرضٌ على المسلم، فوسيلته (الجهاد في سبيل الله) فرضٌ أيضاً حتى يتحقق.
- ومَن يجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحرير شعبه وأمّته من سيطرة القوى الشريرة الداخلية والخارجية، ولبناء الدولة المسلمة والأمة المسلمة.. فإنه ينجو من الشرك، سواء أقامت الدولة التي تحكم بما أنزل الله في حياته.. أم لم تقم.
- والمسلم الذي يرضى بأن تُحكَمَ جوانب الحياة بمنهجٍ غير منهج الله عزّ وجلّ، أو يرضى بسيطرة أية قوّةٍ باغيةٍ على مفاصل الحياة في بلده بأي شكلٍ من الأشكال، ولا يسعى لتغيير هذا الواقع بالجهاد بأنواعه المناسبة، وبمقتضى الحديث الشريف: (مَن رأى منكم مُنكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان) (مسلم).. وحسب الإمكانية القصوى والظروف المتاحة.. فهو قد رضي لنفسه أن يقع في خطر الشرك، لأنه قعد ورضي بواقع الظلم والحكم بغير ما أنزل الله، ورضي بالظلم منهجاً تفرضه القوى الطاغية الباغية الداخلية والخارجية المختلفة، على شعبه وأمّته وبلده!..
لماذا ؟!..
1- لأنّ التفريط بالجهاد.. سيؤدي إلى التفريط بأصل الإيمان الأول (لا إله إلا الله)، والتفريط بأصل الإيمان.. سيؤدي إلى التفريط ببعض الإسلام، والتفريط ببعض الإسلام.. سيؤدي إلى التفريط بالإسلام كله، وبالتالي سيؤدي إلى الخروج الكامل عن الإسلام.. أعاذنا الله من ذلك وأجارنا، وجعلنا من الدعاة المجاهدين المخلصين في سبيله.
2- ولأن مجاهدة المخططات الأجنبية، ومقاومتها، ومقاومة احتلالها، مهما كان شكله أو صورته أو أسلوبه، ومقاومة كل القوى التي قدمت على ظهور دباباتها أو تتواطأ معها.. والوقوف بوجه عملائها من أنظمة الحكم أو الأحزاب أو التشكيلات أو المؤسسات أو الهيئات أو الأشخاص.. والعمل على إفشالها وطردها وإسقاطها.. هو فرض عَينٍ على كل مسلمٍ حتى يتحقق هدف تحرير الأوطان والبلدان والإنسان بشكلٍ كامل، وتتحقق بالتالي معاني العبودية لله عزّ وجلّ وحده.. وحده.. في الوطن والأرض.
* * *
خامساً: ماذا يعني ترك الجهاد؟
لنناقش ذلك بالمنطق الذي بدأنا به:
1- إنّ ترك جهاد النفس: سيؤدي إلى خروجها عن الهدى، فتنحرف وتصبح عوناً للطاغوت الذي لا يحكم بما أنزل الله.
2- وترك جهاد الشيطان: سيؤدي إلى الانحراف عن منهج الله، والتنقّل بين المناهج الوضعية الظالمة المختلفة، والضياع في متاهاتها.
3- وترك جهاد الظلمة والمنحرفين: سيؤدي إلى سيطرتهم على مقاليد الأمور، وإدارة شؤون الأمةَ كلها، وفق أهوائهم وانحرافاتهم وضلالهم ومناهجهم الظالمة الطاغية الباغية.
4- وترك جهاد الكافرين والمنافقين وأصحاب العقائد الهدّامة المشبوهة: سيؤدي إلى ضعفٍ عامٍ للمسلمين، وإلى سيطرة أعدائهم عليهم وعلى أرضهم وبلادهم وأوطانهم، ثم على عقولهم وأخلاقهم ومواردهم وثرواتهم.. ما يؤدي بالنتيجة إلى دمارٍ شاملٍ للأمة، وإلى هلاكها، حين يقبل أبناؤها بوقوعها رهينةً بأيدي العدوّ الكافر أو المشرك الضال الظالم المعتدي!..
إذن: ترك الجهاد بأنواعه، سيؤدي إلى حصيلةٍ كارثية، نـُجملها في نتيجتين مُدَمِّرتين للفرد المسلم وللأمة المسلمة، حدّدتهما الآية الكريمة الآتية:
(إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).. (التوبة:39).
- أي: إِلاّ تَنْفِرُوا (إن لم تجاهدوا):
1- يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (وهو الشقاء الدنيوي المروِّع، فضلاً عن عذاب يوم القيامة)!..
2- وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (وهو الهلاك العام الشامل، والزوال التام، والذلّ العام، والعبودية للظالمين الطغاة والأعداء)!..
- وقد أجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نتائجَ ترك الجهاد، بالحديثين الشريفين التاليين:
1- [إذا تَبايَعْتُم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد.. سلّط الله عليكم ذلاً (أي عبوديةً) لا ينـزعه عنكم إلا العودة إلى دِينكم (أي العودة إلى منهج الله عزّ وجلّ وشرعه)]. (رواه أبو داوود وصحّحه الحاكم).
2- [يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها (لأنّ الأمة متخاذلة متهالكة ميّتة)، فقال قائل: ومن قلّةٍ نحن يومئذٍ؟!.. قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل (أي كثيرون ولكن بلا شوكةٍ ولا وزنٍ ولا قوّة)، ولَيَنْزَعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوّكم المهابةَ منكم (لعدم وجود قوّةٍ حقيقيةٍ لكم)، ولَيَقْذِفَنَّ في قلوبكم الوَهْن، فقال قائل: وما الوهْن يا رسول الله؟!.. قال: حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت (لاستفحال الفساد وترك الجهاد بأنواعه، فتصبح الحياة الدنيا هي الهدف)!..] (أخرجه أبو داود).
وبذلك تصبح الأمة -بترك فريضة الجهاد بأنواعه المذكورة- هالكةً، بلا شوكةٍ ولا قيمةٍ ولا وزنٍ حقيقيّ، تأكلها الأمم الأخرى، وتستهين بها، وتُذِلّها، وتُهينها، وتفعل بها الأفاعيل!.. ولسنا بحاجةٍ لسرد عشرات الأمثلة الماثلة أمامنا بوضوح، مما نعيشه واقعاً ملموساً محسوساً، ومما بدأ في الأندلس ولم ينتهِ في فلسطين وأفغانستان والعراق وسورية.. وغيرها!..
وسوم: العدد 722