إشراقات من سورة الأنعام 17
إشراقات من سورة الأنعام
(أهميّة الإيمان باليوم الآخر في حياة الإنسانيّة)
د. فوّاز القاسم / سوريا
(( وقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما نحن بمبعوثين . ولو ترى إذ وُقِفوا على ربهم قال : أليس هذا بالحق ؟ قالوا : بلى وربنا . قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .. قد خسر الذين كذَّبوا بلقاء الله ، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ، قالوا : يا حسرتنا على ما فرَّطنا فيها ، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ، ألا ساء ما يزرون ، وما الحياة الدنيا إلا لعبٌ ولهو ، وللدار الآخرةُ خيرٌ للذين يتقون ، أفلا تعقلون !؟ ). الأنعام (29_31) صدق الله العظيم .
إن الحياة - في التصور الإسلامي - ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد ، أو عمر الأمة من الناس ، ولا حتى عمر البشرية كلّها في هذه الأرض .!!
بل هي حياة تمتد طولاً في الزمان ، وتمتد عرضاً في المكان ، وتمتد عمقاً في العوالم ، وتمتد تنوعاً في الحقيقة ، عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها .
تمتد في الزمان ، فتشمل هذه الفترة المشهودة - فترة الحياة الدنيا - وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله ؛ والتي تعدّ فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار .!
وتمتد في المكان ، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر ؛ داراً أخرى : جنةً عرضها كعرض السماوات والأرض ؛ وناراً تسع الكثرة الكاثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين .! وتمتد في العوالم ، فتشمل هذا الوجود المشهود ، إلى وجود وغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله ؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله . وجود يبدأ من لحظة الموت ، وينتهي في الدار الآخرة . وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله . وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله .
وتمتد الحياة في حقيقتها ؛ فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا ، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى .. في الجنة وفي النار سواء .. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا .. ولا تساوي الدنيا - بالقياس إليها - جناح بعوضة !
والشخصية الإنسانية - في التصور الإسلامي - يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان ، وفي هذه الآفاق من المكان ، وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات .. ويتسع تصورها للوجود كله ؛ وتصورها للوجود الإنساني ؛ ويتعمق تذوقها للحياة ؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها ، بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات .. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة ، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني ، وتصورهم للوجود الإنساني ؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا .! ومن هذا الاختلاف في التصور ، يبدأ الاختلاف في القيم ، ويبدأ الاختلاف في مناهج الحياة ..ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق ؛ وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه : تصوراً ، واعتقاداً ، وخلقاً ، وسلوكاً ، وشريعةً ، ونظاما ..
إن إنسانا يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات ، غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق ، ويصارع الآخرين عليه ، بلا انتظار لعوض عما يفوته ، ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به، إلا في هذه الأرض ، ومن هؤلاء الناس .!
إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ، ينشىء عند المؤمنين باليوم الآخر ، سعةً في النفس ، وكبراً في الاهتمامات ، ورفعةً في المشاعر ، ينشأ عنها هي بذاتها خلقٌ وسلوك ، غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم .! فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه ، طبيعة هذا التصور ، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة ، وفي ضخامة العوض _عما يفوته في الدنيا_ ونفاسته ؛ استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله ، وأنه مناط العوض والجزاء ؛ وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه – متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي – وصلحت الأوضاع والأنظمة ، التي لا يتركها المؤمنون تسوء وتنحرف ، وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها ، لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها فحسب ؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة ، فيخسرون الدنيا والآخرة !
والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون : إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا ؛ وإلى إهمال هذه الحياة ؛ وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها ؛ وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعا إلى نعيم الآخرة .. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة ، يضيفون إلى الافتراء الجهالة .! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة - كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة - وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم ..
فالدنيا - في التصور الإسلامي - هي مزرعة الآخرة ، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاحها ، ورفع الشر والفساد عنها ، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها ، ودفع الطواغيت والظالمين ، وتحقيق العدل والخير للناس جميعا ، كل أولئك هو زاد الآخرة ؛ وهو الذي يفتح للمؤمنين المجاهدين أبواب الجنة ، ويعوضهم عما فقدوا في صراعهم للظلم ، وتصدّيهم للباطل ، وما أصابهم في سبيل ذلك من الأذى والحصار والجراح والآلام .. فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها ، أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن ، أو تفسد وتختل ، أو يشيع فيها الظلم والطغيان ، أو تتخلف في الصلاح والعمران ، وهم يرجون الآخرة ، وينتظرون فيها الجزاء من الله !؟
إننا إذا كنّا نرى بعض العرب اليوم ، أو غيرهم ، يعيشون سلبيين ؛ ويدَعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا – مع ادعائهم الإسلام – فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف .. لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ؛ ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة . فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة _ وهو يعي حقيقة هذا الدين _ ثم يعيش في هذه الحياة سلبيا ، أو متخلفا ، أو راضيا بالشر والفساد والطغيان ...
إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا ، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى . ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها ، وهو يعلم أنها حلال له في الدنيا ، خالصة يوم القيامة . ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها . ويكافح الشر والفساد والظلم ، محتملا الأذى والتضحية حتى الشهادة ، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة .. إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة ؛ وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا ؛ وأن الدنيا صغيرة زهيدة ، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الجنّة .. وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقية الحياة الآخرة ؛ وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع وارتقاء ؛ وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ، وما تنشئه في الضمير من تشدد في الحق وتحرج وتقوى ؛ وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم وإبداع .
ومن ينظر إلى البشرية المعذّبة اليوم _ وهي تكتوي بنيران الحقد الصهيوني ، والظلم والتعسّف الأمريكي ، في ظل ما يسمّى بالنظام العالمي الجديد ، الذي تسيطر فيه العصابات الصهيونية ، والإمبريالية الأمريكية ، على أغلب مقدّرات الشعوب في العالم _ يرى أهمية الإيمان باليوم الآخر في صلاحها ...
فالعصابات التي لا تتسع آفاقها التصورية والشعورية والفكرية ، للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا ؛ ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر ، ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة _ وبالتالي فإنها تريد أن تحقّق أكبر قدر ممكن من المنافع الشخصيّة في هذه الفسحة الضيقة من زمن الحياة الدنيا _ لذلك نراها تعيش بمشاعر وتصورات ، هي أشبه بمشاعر وتصورات الحيوانات المفترسة ، والوحوش الكاسرة ، المجرّدة من أية رحمة أو إنسانية ، إلا غريزة القتل ، وحب الافتراس (( وقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين )) .!!!
وعلى طريق تحقيق تلك المكاسب الأنانية الهابطة ، لا يهم أن يحدث الظلم ، ويتمّ الاعتداء ، وتسيل الدماء .!
إنما المهم ، هو إشباع تلك الشهوات البهيمية الهابطة قبل فوات الأوان ، وليكن بعد ذلك الطوفان ...!!!
لقد كان الله - سبحانه - يعلم هذا كله ؛ ويعلم أن الأمة الوارثة ، صاحبة الرسالة الخالدة ، التي قدر أن يشّرفها بمهمة القيادة والريادة والإشراف على الحياة البشرية ، والارتقاء بها صعوداً إلى القمة السامقة ، التي تتجلى فيها كرامتها وإنسانيتها في صورة واقعية ..
إن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة .. من ضيق الدنيا ، إلى سعة الدنيا والآخرة ..
من أجل ذلك كله ، فإن الحياة الإنسانية ، لا تستقيم بدون يقين في الآخرة ...
ومن أجل ذلك كله أيضاً ، كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الأخرة ..
أولا : لأنها حقيقة ، والله يقص الحق ، وهو يهدي إلى سواء السبيل .
وثانيا : لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان : تصوراً ، واعتقاداً ، وخلقاً ، وسلوكاً ، وشريعةً ، ونظاماً .