خواطر من الكون المجاور الخاطرة ١٦٣ : روحانية الزمن الجزء الثالث
ذكرنا في المقالة الماضية أن الزمن كإحساس أصله أنثوي ، وأنه بفضل المرأة بدأ الرجل أيضا يشعر بوجود الزمن ، وبما أن المرأة في العصور الماضية كان مجال نشاطها محدود ويتعلق فقط في إنجاب الأطفال والعناية بهم ، لذلك أصبحت مهمة البحث في ما يتعلق بالزمن وطرق قياسه من نصيب الرجل . فكان مفهوم الزمن منذ ظهور الإحساس به وحتى نهاية قرن التاسع عشر، يتعلق بتلك التغيرات التي تحدث بشكل دوري لذلك تم وضع عدة مصطلحات زمنية تعبر عن طول المدة الزمنية ( يوم ، أسبوع ، شهر ، فصل ، سنة ، ...الخ ) . الشعور بالزمن بدأ كإحساس أنثوي وكان يتعلق بحجم ونوعية التغيرات التي تحدث، ولكن تدخل الفكر الذكوري هو الذي أعطاه المفهوم المادي الذي يجعلنا كلما نفكر في كلمة زمن ، تأتي إلى أذهاننا تلك المصطلحات الزمنية (ساعة، يوم ، شهر ، سنة ....إلخ)وكأنها هي الزمن نفسه ولكن في الحقيقة هي وحدات قياسية تعبر عن الفترة التي حدثت بها كمية معينة من التغيرات .
في القرن التاسع عشر بدأت تظهر أفكار إلحادية هدفها التشكيك بوجود الله عن طريق التشكيك بصحة معلومات الكتب المقدسة وكانت من بين تلك المعلومات هي المصطلحات الزمنية التي تستخدمها الكتب المقدسة ، فمثلا سفر التكوين يذكر أن الله خلق الكون والإنسان في ستة أيام ، فذهب الملحدون وعلى رأسهم كارل ماركس وهاجموا تلك المعلومات، مستخدمين نتائج الاكتشافات العلمية التي تؤكد على أن الكون عمره مليارات من السنين وأن الحياة ظهرت قبل مئات الملايين من السنين وأن ما تذكره الكتب عن خلق العالم في ستة أيام هو خرافات لا يقبل بها أي عقل علمي .
في هذه الفترة التي بدأ فيها العلم يهاجم الكتب المقدسة وجب توضيح مفهوم الزمن بشكل أفضل لتظهر المعاني الحقيقية لآيات الكتب المقدسة لتساعد الإنسان على فهم الكون ومحتوياته وتطوراته وعلاقتها بالوجود الإنساني ، وبما أن الزمن كإحساس أصله أنثوي وجب أن تظهر ثانية إمرأة لها عقل يستوعب علم الفيزياء الذي تحول في الفترة الأخيرة إلى نشاط فكري مادي منفصل نهائيا عن الوجود الروحي ، لتبحث فيه ولتعطي هذا العلم شكلا جديدا يمكن أن يشارك العلوم الإنسانية الأخرى في البحث العلمي التي تبحث في الوجود الإنساني، وبنفس الوقت لتساعد هذه المرأة في إضافة إحساسات جديدة على مفهوم الزمن ليأخذ شكله الحقيقي الذي يناسب منطق الكتب المقدسة.
هذه المرأة كانت ميلفا ماريك زوجة أينشتاين، ولكن للأسف الظروف الأجتماعية والعادات البالية ، في تلك الفترة كانت تنظر إلى المرأة وكأنها من الدرجة الثانية جسديا وعقليا ، لذلك لم تسمح لها في متابعة دراستها للحصول على الدكتوراه في علم الفيزياء لتستطيع أن تنشر بحوثها كما تشاء هي ، لذلك إضطرت أن تشارك زوجها في أبحاثه العلمية لينشرها باسمه ولكن زوجها أينشتاين نشرها بمنطق تفكيره كرجل وليس كمنطق إمرأة كما أرادت هي. وهكذا وبدلا من أن تصحح مفهوم الزمن ليساعد على فهم معاني آيات الكتب المقدسة زاد تشويهه أكثر وزاد معه إبتعاد المثقفين عن الدين بسبب تجريد الزمن من روحانيته فتحول إلى مفهوم مادي بحت .
لتوضيح الأمور بشكل أسهل سنعطي هذا المثال البسيط:
للقيام بعمل ما مهما كان نوعه نحتاج إلى كمية معينة من الطاقة ، فـ لطحن كمية من حبوب القمح لتحويلها إلى طحين نحتاج إلى تدوير حجر الطحن ، وهناك عدة طرق لتدويره، بعض المناطق يتم تدويره عن طريق اليد أي عن طريق الطاقة العضلية ، بعض المناطق تستخدم المراوح الهوائية (الطاقة الهوائية ) ، بعض المناطق تستخدم البقرة ( طاقة حيوانية ) ، ومع تطور العلوم بدأت تظهر الآلات الميكانيكية التي تعمل على الطاقة الكهربائية . ...في الطريقة الأولى مثلا نحتاج إلى مدة زمنية مقدارها ٣ ساعات لطحن ١٠ كغ من القمح ، في الطريقة الثانية نحتاج إلى ٦ ساعات ، في الثالثة إلى ٤ ساعات ، في الرابعة التي تعمل على الطاقة الكهربائية سنحتاج ١٠ دقائق . هنا نجد إختلاف أرقام طول المدة الزمنية لطحن نفس الكمية من حبوب القمح بسبب إختلاف طريقة الطحن والتي هي مصدر توليد الطاقة ، أما كمية الطاقة اللازمة لتحول حبوب القمح إلى طحين فهي ثابتة لأنها تتعلق بحبة القمح نفسها ، فطبيعة تكوين حبة القمح هي التي تحدد كمية الطاقة لتتحول من شكل حبة إلى شكل طحين .
في هذا المثال الطاقة المستخدمة للطحن هي الزمن والزمن هو شيء من التكوين الروحي للأشياء وهو عامل ثابت ، وخطأ أينشتاين في النظرية النسبية أنه جعل الزمن عامل متغير يختلف من مكان إلى آخر، فكانت نتيجته ظهور خرافة السفر عبر الزمن التي عبر عنها في مثاله الشهير مفارقة التوأم. والتي يمكن شرحها بشكل مختصر كما يلي : لنفرض أن توأم يبلغ من السن ٢٠ سنة ، بقي أحدهم على الأرض بينما الآخر سافر عبر مركبة فضائية تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء حيث أن السرعة الكبيرة ستؤدي إلى تباطؤالزمن ، فالاسبوع على المركبة الفضائية سيعادل شهر على الكرة الأرضية ، فإذا كانت مدة السفر ١٠ سنوات حسب ساعة المركبة الفضائية ، فأنه عندما تعود المركبة الفضائية إلى الأرض سيكون عمر الأخ الذي سافر في المركبة الفضائية هو ٣٠ سنة ، أما الأخ الثاني الذي بقي في الأرض سيكون عمره ٦٠ سنة . وهذا يعني حسب النظرية النسبية أنه سافر عبر الزمن نحو المستقبل.
سنعطي مثال مشابه لنفهم حقيقة ما يحدث في الواقع : لنفرض أننا أستطعنا بناء مبنى سكني على كوكب عطارد وآخر على كوكب بلوتو بحيث يؤمن هذا المبنى كافة شروط الحياة كما هي تماما على سطح الأرض . ووضعنا إمرأة حامل على كوكب عطارد وأخرى على كوكب بلوتو ، إن مدة الحمل الطبيعية على سطح الأرض ليكتمل نمو الجنين ويخرج من رحم أمه هي تسعة أشهر، ولكن بما أن سرعة دوران الكرة الأرضية حول الشمس تعادل /٣٠ /كم في الثانية ، بينما سرعة كوكب عطارد/ ٤٨/ كم في الثانية ، وسرعة كوكب بلوتو تعادل /٥ /كم في الثانية ، وحسب النظرية النسبية التي تقول أن زيادة السرعة تؤدي إلى تباطؤ الزمن ، هذا يعني أن مدة الحمل التي تعادل /٩ /أشهر على سطح الأرض ستصبح على سطح كوكب عطارد/ ١٠/ أشهر وعلى سطح كوكب بلوتو ستصبح /٦/ أشهر بسبب إختلاف سرعة دوران هذه الكواكب، ولكن هذا لن يحدث في الواقع لأن عملية النمو في الجنين تحتاج إلى طاقة وهذه الطاقة هي ثابتة في الكون بأكمله ، بمعنى أنه أذا فرضنا أن إمرأتين توأم قد حملوا في نفس اليوم ، ووضعنا إحداهما على مركبة فضائية تسافر بسرعة قريبة من سرعة الضوء حيث ساعة قياس الزمن في المركبة أبطأ بعشرة أضعاف الساعة الموجودة في الكرة الأرضية ، فإن الجنين في رحم الأم المسافرة على المركبة الفضائية سيتم نموه خلال/٢٨٠ /يوم (تسعة أشهر أرضية) وليس/٢٨٠ /يوم كما تحسب ساعة المركبة الفضائية، ومن يراقب من خارج الكون الأم في الكرة الأرضية والأم في المركبة الفضائية سيجد أن كلا الجنينين سيولدان في نفس الوقت ، لأن نمو الجنين يحتاج إلى نفس الكمية من الطاقة لأنها تتعلق بالتكوين الروحي للجنين وليس بالظروف الخارجية، وهي طاقة ثابتة في الكون بأكمله. وليس كما يظن أينشتاين ، فأختلاف أجهزة قياس الزمن من مكان إلى آخر لا يعني إختلاف كمية الزمن كمولد للطاقة اللازمة لفعل عمل معين .
الآن وبعد أن شرحنا بعض الأشياء عن طبيعة مفهوم الزمن لنذهب إلى الكتب المقدسة لنرى كيف تعبر آياته عن مفهوم الزمن .
هناك حديث شريف يقول ( لم يكن نبيُّ إلا وعاش نصف عمر الذي كان قبله) ، إذا تمعنا في هذا الحديث بمعناه الحرفي سنجد أنه يناقض ما تذكره الكتب المقدسة عن عمر الأنبياء، فعمر محمد صلى الله عليه وسلم كان ٦٢ سنة ، بينما عمر عيسى عليه الصلاة والسلام كان ٣٣ سنة والنبي يحيى عليه الصلاة والسلام الذي ولد قبل عيسى بعام واحد ، توفي قبله بعام واحد ، فكان له نفس العمر ، وهذا يعني أنه هناك تعارض مع معنى الحديث الشريف ، القرآن والأحاديث الشريفة لم تتكلم عن أعمار الأنبياء، لنستطيع أن نبحث في صحة الحديث الشريف المذكور، فقط يوجد الآية القرآنية ١٤ من سورة العنكبوت تذكر عن نوح أنه عاش مع قومه ٩٥٠ عام ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)...) ، وهناك حديث شريف يذكر أن عمر آدم كان ١٠٠٠ عام ولكنه طلب من الله أن يأخذ من عمره ٤٠ عاما ليضيفها إلى عمر داوود.
جميع أعمار بقية الأنبياء التي يذكرها علماء الدين الإسلامي مأخوذة من كتب التوراة والإنجيل، وأيضا عمر آدم كما هو مذكور في الحديث الشريف يعادل عمر آدم الموجود في سفر التكوين . ولأننا سنتكلم عن أعمار الأنبياء لنشرح مفهوم الزمن لا بد من شرح توافق عمر آدم المذكور في سفر التكوين مع ما هو مذكور في الحديث الشريف :
في الآيات /٣- ٤ - ٥/ من الإصحاح /٥/ في سفر التكوين تذكر أن آدم عاش ٩٣٠ سنة (وعاش آدم ١٣٠ سنة وولد ولداً على شبهه كصورته وأسماه شيثاً ، وكانت أيام آدم بعدما ولد شيث ٨٠٠ سنة وولد بنين وبنات ، فكانت كل آيام آدم التي عاشها ٩٣٠ سنة ومات).
الحديث الشريف يذكر ( إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو من ذراري إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر، فقال: أي رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب كم عمره؟ قال: ستون عاما، قال رب: زد في عمره. قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام. فزاده أربعين عاما، فكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عاما، فقيل إنك قد وهبتها لابنك داود قال: ما فعلت، وأبرز الله عز وجل عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة).
كما يذكر الحديث الشريف أن عمر آدم كان ١٠٠٠ سنة فأخذ الله منها ٤٠ سنة وأضافها إلى عمر داوود ، الـ /١٠٠٠/ سنة هنا هي سنة قمرية ، أما الـ/٤٠/ سنة فهي شمسية وتعادل /٤١،٤/ سنة قمرية ، وهذا يعني أن عمر آدم هو /٩٥٨،٦/ سنة قمرية وهو يعادل /٩٣٠/ سنة شمسية تماما كما هو مذكور في كتب التوراة.
إذا عدنا إلى الكتب المقدسة وتمعنا في أعمار الأنبياء المذكورة في الأصحاحات/٥-١١-٢٥- ٣٥ - ٤١-٤٧-٥٠/ في سفر التكوين التي تذكر عدد السنوات التي عاشها الأنبياء من آدم وحتى يوسف سنجد أنه حسب مقدار عدد السنوات التي عاشوها هناك أربعة أنواع من الأجيال في الأنبياء :
- النوع الأول من الأنبياء عاش بمعدل وسطي حوالي ٩٠٠ سنة ، وهم من آدم ٩٣٠ سنة إلى نوح ٩٥٠ سنة ، .
الجيل الثاني عاش بمعدل وسطي حوالي ٤٥٠ سنة ، وهم من أرفكشاد ٤٣٨ سنة إلى عابر( هود) ٤٦٤ سنة ،
الجيل الثالث عاش بمعدل وسطي حوالي من ٢٣٠ سنة، وهم من فالج ٢٣٩ سنة إلى سروج ٢٣٠ سنة
في هذه الأجيال الثلاثة نجد أنه ينطبق عليها معنى الحديث الشريف الذي يقول ( لم يكن نبيُّ إلا وعاش نصف عمر الذي كان قبله) حيث كل مقدار عمر الجيل يعادل نصف عمر الجيل الذي قبله.
في الجيل الرابع نجد أن الأمور تختلف، فنجد أعمار الأنبياء تتراوح بين ٢٠٥ سنة عمر تارح والد إبراهيم وحتى يعقوب الذي عاش ١٤٧ سنوات . مع يوسف نجد أن أعمار الأنبياء تصبح أعمار طبيعية قريبة إلى عمر الإنسان بشكل عام .
والسؤال هنا هل من المعقول أن يعيش الإنسان ٩٠٠ سنة كما تذكر الكتب المقدسة ، أم أنها خرافة كما يعتقد الملحدون ، أم أنها أرقام رمزية لها معنى روحي يشرح لنا تطور الكون عن طريق فهم المعنى الروحي لمفهوم الزمن ؟
إن شاء الله في المقالة القادمة سنجيب عن هذا السؤال لنأخذ فكرة عامة عن روحانية الزمن وعلاقته في تطور الكون منذ ولادته وحتى اليوم.
وسوم: العدد 758