الخاطرة 232 : مبدأ إنسان الجنة
خواطر من الكون المجاور
كان بيتنا هو أول بيت في الحي يدخله جهاز التلفزيون ، في تلك الفترة كانت برامج التلفزيون مملة جدا للأطفال وخاصة لطفل مثلي بعمر ثلاث أو أربع أو خمس سنوات لهذا لم أشعر بأي جاذبية نحوه. ولكن الذي حصل بعد ذلك أن الأحوال المادية للعائلة بدأت تسوء بشكل تدريجي وعندما تعطل جهاز التلفزيون عن العمل ظل بيتنا بدونه حتى دخولي في المرحلة الجامعية . هكذا شاءت الأقدار أن أعيش مرحلة الطفولة والمراهقة في بيت بلا جهاز التلفزيون ، بلا أي شيء خارجي يؤثر في تشويه فطرتي سوى ذلك الحي الصغير الذي أعيش فيه . لهذا كانت المتعة الوحيدة بالنسبة لي كطفل أو مراهق هي متعة اللعب مع أطفال الحي ، أما في المساء أو في أوقات وجودي في البيت كنت اجد متعتي في قراءة القصص .
في بداية طفولتي كانت الفطرة التي وضعها الله في تكويني الروحي ، تجعلني أستمتع بقراءة القصص الخيالية فأشعر أثناء قراءتها بأن الحياة أجمل من ذلك العالم المادي الواقعي الذي أعيشه ، وأنه هناك قوى خارقة تجعل الخير ينتصر في النهاية . وكان محتوى هذا النوع من القصص قصيرة جدا لا يتعدى صفحة أو صفحتين أو ثلاث صفحات . ثم وبشكل تدريجي بدأت أنتقل إلى قراءة قصص الأطفال الكلاسيكية تلك التي تعتمد على مهارة وذكاء البطل في الإنتصار على الشر ، فكانت روح المغامرة في البطل تجذبني لأتابع أحداث القصة بشغف حتى نهايتها .
كانت جميع القصص التي قرأتها في مرحلة الطفولة تسمح لي بمشاركة كاتب القصة فكنت في مخيلتي أرسم أشكال الشخصيات والأماكن والطبيعة التي تدور فيها أحداث القصة بالشكل الذي ترغب به نفسي ، فكانت متعتي بشكل عام في هذا النوع من القصص تتوقف على تطور الأحداث وحبكتها لتجذب إهتمامي حتى نهايتها ، حيث العناصر الخارجية لعالم القصص الذي أعيشه كانت هي التي تتحكم بتطور أحداث القصة فكلما كانت أحداث القصة غريبة وسريعة كلما أعطت القصة نوع من التشويق والمتعة .
في مرحلة الطفولة قرأت معظم القصص الكلاسيكية العربية والأجنبية ، عشت فيها جميع الازمنة التي مرت بها الإنسانية سواء في البلدان العربية أو البلدان الأجنبية ، فكانت هذه القصص بالنسبة لي بمثابة أجنحة تجعلني أطير وأرحل إلى أماكن وأزمنة مختلفة عن مكان وزمن العالم الصغير في الحي الذي أعيشه ، أشارك أبطالها في مغامرات أبطال هذه القصص ورغم أن بعضها كنت قد رأيتها في أفلام سينمائية ولكني كنت أثناء قراءتها أشعر بمتعة أخرى تسمح لي أن أرسم في خيالي شكل بطل القصة أو أماكن أحداثها بالشكل الذي يسعدني ويجعلني وكأنني أراها حقيقة أمام عيني .
عندما دخلت في مرحلة المراهقة وبدأت أشعر بأنني أتحول من طفل إلى رجل صغير وبأنني بحاجة لمعرفة عالم الكبار الذي علي أن أعيش به من الآن فصاعد . هذا الرجل الصغير الذي بدأ يكبر في داخلي راح يدفعني إلى محاولة قراءة كتب الكبار لأخذ فكرة عن عالمهم من خلال تلك القصص الإجتماعية بأحداثها البسيطة والبطيئة والتي كان أخوتي الكبار يقضون في قراءتها ساعات طويلة دون الإحساس بالملل . في البداية حاولت قراءة بعض الروايات لنجيب محفوظ أو يوسف السباعي أو إحسان عبد القدوس أو غيرهم ، ولكن الإختلاف الكبير في أسلوب التعبير ونوعية الأحداث بين قصص الأطفال وقصص الكبار كان يجعلني اشعر وأنا أقرأ هذا النوع من القصص وكأنني أدخل في عالم مشاكله وأحداثه لا تهمني في شيء وهذا ما كان يجعلني أشعر من الصفحات الاولى بالملل والتوقف من متابعتها . ولكن ذاك الرجل الذي كان يكبر بداخلي كان يحثني على التوغل في عالم الكبار ، وكان هذا النوع من القصص هو الباب الوحيد لدخول هذا العالم لمعرفة بنيانه وتكوينه .
في إحدى الأيام سمعت أختي الكبيرة تتكلم مع صديقتها عن كتاب لجبران خليل جبران أعجبها كثيرا ومن شدة إعجاب صديقتها مما سمعت عنه أخذته لتقرأه هي أيضا . وبدافع الفضول قررت أن أقرأ أنا أيضا هذا الكتاب لأفهم سر إعجاب الكبار له ، فكونه قصص قصيرة وليس رواية طويلة رأيته مناسب لي أكثر من بقية القصص . هذا الكتاب كان مختلفا عن بقية قصص الكبار التي جربت أن أقرأها ، جعلني من البداية أن أدخل في عالم روحي كنت أشعر بوجوده في داخلي ، فرغم أني في طفولتي كنت طفلا مليء بالحيوية والنشاط ومتفوق في جميع الألعاب ولكن كنت في الوقت نفسه أراقب الناس من حولي وخاصة أصدقائي الأطفال ، وأحاول أن أفهم الأسباب الروحية لأفراحهم وأحزانهم وردود أفعالهم العفوية ، فكانت هذه الأحاسيس تبقى في داخلي لا أشارك أحد في الحديث عنها . في هذا الكتاب وجدت شيئا يشاركني مشاعري هذه ، فوجدت في هذا الكتاب ما لم أجده في جميع القصص التي قرأتها من قبل فرغم أن أحداثه بسيطة وبطيئة تتحدث عن معاناة إمرأة مسكينة من قساوة المجتمع المحيط بها ، ولكن أسلوب جبران خليل جبران في وصف مشاعر أبطال قصصه جعلها تبدو في نظري وكأنها أمتع بكثير من تلك الأحداث الخيالية والمغامرات التي كانت تجذبني بشوق لمتابعة القصة حتى نهايتها ، ففي هذا الكتاب رأيت الوجدان الإنساني يثير عواطفي وإحساساتي ويجعلني أشارك أبطال القصص كروح وليس كسلوك ظاهري مثلما كان يحدث في بقية القصص التي قرأتها .
لا أذكر عنوان الكتاب ولا عنوان القصة ولا أحداثها ، كل الذي أذكره من ذلك الكتاب هو تلك العبارة التي تقولها بطلة القصة قبل أن تلفظ روحها " أحمد الله أنني في حياتي كنت زهرة داستها الأقدام ، ولم أكن قدما داست الأزهار " . هذه العبارة التي أتت كخاتمة لحياة المرأة المظلومة أثرت في نفسي كثيرا لدرجة أنني منذ ذلك الوقت وحتى الآن كلما سمعت أسم جبران خليل جبران تذكرت هذه العبارة والتي كانت بالنسبة لي ذلك الباب الذي دخلت منه في عالم الكبار وأصبحت المبدأ الأول في سلوكي كرجل .
إن أخطاء الأطفال نتائجها السلبية صغيرة مثلهم تذهب مع الريح ولا يبقى منها شيئا وكأنها لم تكن ، أما أخطاء الكبار فقد تُغير مجرى حياة شخص أو مجتمع بأكمله ، وسبب تأثري الشديد بهذه العبارة لم يكن عن طريق الصدفة ولكن نتيجة تراكم صور لأحزان بعض الأشخاص في الحي التي كان سببها أخطاء بعض الكبار في حقهم .
أن تتمنى في حياتك أن تكون زهرة تدوسها الأقدام بدلا من أن تكون قدما تدوس الأزهار ، هو من أصعب الاختيارات ، لأنه يحتاج إلى قوة تحمل أذى الآخرين ، تحتاج إلى صبر ، إلى إيمان حقيقي ، فأن تسامح الآخرين على إيذائهم لك يحتاج إلى درجة عالية من الإدراك في فهم تلك الظروف التي دفعت الآخرين في إرتكاب الأخطاء . أما ان تتحول إلى قدم تدوس الأزهار فهو الاختيار الأسهل ولا يحتاج إلا إلى تنشيط الغرائز الحيوانية لتعمل عملها في الإنتقام من الآخرين .
قاعدة الإيمان الرئيسية في الإسلام - وفي جميع الديانات العالمية الخمسة - تعتمد على ثلاثة مبادئ : الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والعمل الصالح . جميع أركان الإسلام الخمسة ( الشهادة ، الصلاة ، الصيام ، الزكاة ، الحج ) هدفها الحقيق هو الوصول إلى هذه المبادئ الثلاثة . فإذا طبقنا هذه الأركان دون أن نصل إلى سلوك العمل الصالح الذي يحدد علاقاتنا بالآخرين ، عندها جميع هذه الأركان ستصبح أمور روتينية لا أهمية لها في إصلاح المجتمع . وهذا ما حصل وما يحصل منذ دخول الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط وحتى اليوم . القرآن الكريم أعطى أهمية كبيرة على ردود فعل الإنسان نحو الآخرين ، وذكر أصعب الحالات التي من الممكن أن يواجهها الإنسان في حياته ، فنجد ابن آدم الاول عندما رأى أخاه يريد قتله يقول له " لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨ سورة المائدة) " . ردة الفعل هذه لم يذكرها الله في كتابه الحكيم عبثا ، ولكن ليعلم المسلمون أن سلوك ابن آدم الأول هو مبدأ إنسان الجنة ، وأن جميع التطورات التي حدثت نتيجة ظهور الديانات والحضارت كان هدفها أن يصل الإنسان إلى هذا النوع من التكوين الروحي .
بعض القراء تزعجهم مقالاتي لأنني أضع إنتمائي الإنساني فوق جميع الإنتماءات ، يزعجهم كوني مسلم وأتكلم بعاطفة محبة نحو جميع أفراد الأمم ، فهؤلاء القراء لا يعلمون أنني أطبق القواعد الرئيسية للإيمان ، فعندما أنظر إلى بقية الأمم أرى فيها أطفالها ، وأرى فيهم تلك الفطرة التي وضعها الله فيهم فأشعر عندها وكأنهم أخوتي الصغار وأنهم بحاجة للمحبة والرعاية لتبقى هذه الفطرة في داخلهم بأنقى أشكالها ، وأن أي تصرف معادي لهم سيشوه هذه الفطرة ويجعلها تحت سيطرة الغرائز الحيوانية . لهذا أشعر بواجبي بحماية هذه الفطرة حتى وإن أساء كبارهم لي أو لديني أو لوطني ، فرد الإساءة بالإساءة سيجعل الطرفين من أصحاب السوء ، ولكن رد الإساءة بالإحسان سيوقف الإساءة ويجعل الطرفين من أصحاب الإحسان .
العصر الذي نعيشه اليوم هو عصر بلا طفولة ، عصر بلا أزهار ، والحل الوحيد لإنقاذ هذا العصر من إنحطاطه الروحي أن يتبع الإنسان المبدأ الأول لأهل الجنة . هذا هو المبدأ الذي أعتمد عليه في كتابة مقالاتي وأترك أمرها لله عز وجل فهو أعلم العالمين. وأحمد الله لأن أحداث حياتي علمتني بأنني في هذه الحياة مجرد عابر سبيل نحو عالم آخر أجمل بكثير تحكمه قوانين الجنة .
وسوم: العدد 843