التفكير بصوتٍ عالي
د.مصطفى يوسف اللداوي
لا نتهم من يفكر بصوتٍ عالٍ أنه مجنون، أو أنه سفيهٌ وغير عاقل، أو أنه مضروبٌ على رأسه، ولا يفهم في أصول اللباقة والإتيكيت، أو أنه يفضح نفسه، وقد يكشف ضآله شخصه، وضحالة أفكاره، وضيق أفقه، ونقص معلوماته، ومحدودية خياله، وعجز قدراته.
إن من يفكر بصوتٍ عالٍ لا يخاف، وهو ليس بالجبان ولا بالمتردد، بل إنه قويٌ وجرئ، وشجاعٌ ومقدام، ولا يخاف من أفكاره، ولا يخجل من طروحاته، ولا يجبن عن مواجهة الآخرين بأفكاره، ولا يتردد في الاشتباك الفكري مع آخرٍ يخالفه، أو غيره ممن يناقضه ولا يؤمن بأفكاره.
بل إن الخائف الضعيف هو من يفكر وحده، ويصر على التفكير متوارياً بصمتٍ، لا تركيزاً ولكن خوفاً، ويخشى مشاركة الآخرين، ويصر على التفكير بليلٍ، وفي جنح الظلام، وفي الزوايا المظلمة المعتمة، وفي الخرائب التي لا يرتادها الناس، ولا يفكر بزيارتها العقلاء.
التفكير بصوتٍ عالٍ يفتح الشهية، ويعمق الفكرة، ويزيد في حجم ودرجة التفاعل، ويجذب إليه قطاعاتٍ راغبة، وأخرى كانت نائمة، ويشجع المؤيدين، ويحفز المعارضين المناوئين، وهو يثري النقاش، ويعمق الأفكار، ويزيد في تنوع المقترحات وشمولها.
التفكير بصوتٍ عالٍ مدعاةٌ للأمن والطمأنينة، وكشف لحقائق النفس الدفينة، وهو يكشف عن سلامة فكر، وحسن طوية، وصدق نية، وهو السبيل للتمسك بالأفكار والدفاع عنها، والتضحية في سبيلها، إذ يصعب على من اشتهر بأفكاره، أن يتركها ويتخلى عنها، أو ينقلب عليها ويؤمن بنقيضها.
التفكير بصوتٍ عالٍ يعلمنا كيف نقتحم الممنوعات، ونناقش المحرمات، ولا نخاف من سلطة حاكم، ولا بطش وقمع أجهزته الأمنية، وهو يقربنا من نقاش مطالبنا، والبحث في همومنا ومشاغلنا.
التفكير بصوتٍ عالٍ تحققه وسائل الاتصال الحديثة، وبرامج التواصل الاجتماعي، وتساهم فيه الكلمة المنشورة، التي باتت تصل إلى كل الدنيا دون عوائق ولا حواجز.
فتعالوا بنا لنفكر بصوتٍ عالٍ في قضايا الانقسام والاختلاف، والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولنناقش بصوتٍ عالٍ صلاحيات الحاكم وتجاوزاته، وامتيازات السلطان وانتهاكاته.
ولنفكر بصوتٍ عالٍ في أسباب الفقر والجوع والبطالة والمرض والتخلف، ولنسمع لهموم ومشاكل شبابنا، لنعرف أسباب التأخر في سن الزواج، وأسباب الانحراف والشذوذ، ولنعرف لماذا يتجه الشباب نحو الهجرة، ويتطلعون للفرار من الوطن، والهروب من البلاد.
التفكير بصوتٍ عالٍ ضرورةٌ وواجبٌ وتكليفٌ وحاجةٌ، وهو الأنسب لضمان أفضل النتائج وأحسنها، وهو الأفضل لتحقيق الحصانة، وتوفير الحماية، وإرهاب الحاكم وترويع السلطان، ليعدل ويحكم وفق القانون، وينأى بنفسه عن الظلم والخطأ وسوء استخدام السلطات.