دمشق.. اذكريني دائماً !
أحمد كنعان
دمشق ..
يا زهرة هذا "الربيع" الذي انتظرناه طويلاً
متى ينعقد حصرم أيامنا عنباً ؟
متى تصرفين هؤلاء النواطير الذين استباحوا بساتين عينيك
وتركوها نهباً للثعالب
والذئاب
وغربان البين
وخفافيش الظلام ؟!
**
دمشق ..
يا ربيع البراءة والطهارة
هذا زمن النواطير الكَذَبة
والأنبياء الكذبة
والنياشين الكذبة
هذا زمن العهر السياسي
والنفاق الدبلوماسي
هذا زمن "القنّاصة"
يتسكعون على أسطحة المنازل يتبارون باصطياد حمامات السلام
هذا زمن "البلطجية"
يتربصون بالملائكة عند أبواب المساجد والكنائس !
هذا زمن "البرمكي"
يملأ جيوب "أبي نواس" بالذهب والفضة
ويطلقه في شوارع بغداد يتسكع من حانة إلى حانة
يبث على الهواء مباشرة
أكاذيب "السرداب"
وترَّهات "العتبات المقدسة" !
**
دمشق ..
يا سيدة الفصول
هذا زمن "الهوامير" المستعد الواحد منها لابتلاع بلدان بأكملها
وابتلاع أمه وأبيه وأخته وأخيه إذا اقتضى الأمر
لا زمن العشاق الدراويش الذين في "عيد الحب"
لا يجدون ما يشترون به وردة للحبيبة
ويكتفون بالوقوف دقيقة وَجْد على أطلال عطرها !
**
دمشق ..
يا ربيع كل الأزمنة
هذا زمن العربان الذين تعبوا من "الهرولة"
فجلسوا في الظل ينتظرون الحل
بصارووخ يمطرهم بالفودكا الروسية المعتَّقة
أو "برميل" ينثر فوقهم زجاجات البيبسي كولا ، والهمبرغر ، ودونات العم سام !
**
دمشق ..
يا أمَّ الكروم
هذا زمن الحصرم
فاجلسي سيدتي ريثما ينعقد العنب
أغسل قدميك بما تبقى من دموعي
وأزين ثوبك بما تبقى من أعلام الثورة
ونامي على صدري
ريثما يؤوب ما تبقى من حمام إلى مآذن "الأموي"
ويخرج من التخشيبة ما تبقى تحت التحقيق من ملائكة
ويأتي السلام محمولاً على بغال "الممانعة"
ويعود الذئب يرعى الغنم في أحضان "الغوطة"
ويعود التمساح يلعب كرة الماء مع أطفال النيل
ويهبط "المخلِّص" فيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً
ويجلس العسكر فوق قبة البرلمان يلعبون الورق
ويشربون نخب المعركة الأخيرة ضد شعوبهم !
**
دمشق ..
هذا زمن المنابر
والخطباء
وكهنة الثورة
الذين منعونا حتى في تشهدنا أن نقول : لا !
**
دمشق ..
هذا زمن البث الفضائي
وبث الإشاعات
وبث الأحلام العسكرية
وبث المخبرين تحت جلدنا
وفي حقائب أطفالنا المدرسية
فأطفئي جوالك والآيباد وحطمي الريسيفر
وتعالى معي إلى "خيمة قراقوز"
نضحك قليلاً من أعماقنا
كما كنا نفعل قبل أن يداهمنا هذا الزمن الرديء
الذي لم يترك لنا
لا دمعة فرح
ولا دمعة حزن
وتركنا مصلوبين على بوابة المجهول
ننتظر الذي سيأتي .. ولا يأتي !
**
دمشق ..
يا دمعة هذا "الربيع"
يا تنهيدة القلب
يا كحل العيون
يا الفاتنة التي انكسر القالب بعد خلقها
أيتها الشقية
كيف طاب لك أن تغرسي حبك في شراييني إلى هذا الحد ؟
وبهذا العنفوان !
وبهذا الحقد الشهي !؟
ومن أين لك كل هذا الحضور
الذي يطير بي لسابع سما كلما سمعت اسمك
أو هبت عليَّ نسمة من زيزفون شفتيك
أو داهمتني "همسة حائرة" من ندى حديثك !؟
**
دمشق ..
يا نسرين هذا "الربيع"
وياسمينه
وفلَّهُ
وشقيق نعمانه
أيتها الحبيبة التي تبالغ في بُعدها
كما تبالغ بدلالها
وغيِّها
وإغرائها
وتمنُّعها
رفقاً بقلوبنا التي أضناها السعي وراء مواعيدك المؤجلة
رفقاً بشبابنا الذي "ذهب مع الريح"
وامنحينا غمزة أخيرة
كالتي كنت تجودين بها علينا
كل صباح ونحن ذاهبون إلى المدرسة
وفي مساء ونحن عائدون نلوح بحقائبنا في الهواء
ونغني لحن حبك !
**
دمشق ..
رفقاً بهذا الشيب الذي غافلنا ونحن على أبواب انتظارك
رفقاً بنا فقد جفت ينابيع الوقت
وشحَّ زيت أحلامنا
فلا تبخلي علينا بنظرة أخيرة
أو كلمة أخيرة
أو إشارة من يديك المباركتين
تقول لنا : استنوني
أنا راجعة إليكم بعناقيد العنب
وعصير المواعيد المؤجلة !
**
دمشق ..
يا سيدة الفصول
يا سيدة الورد والماء والعصافير
يا سيدة الأحلام الشاهقة
والآلام الشاهقة
والجراح الشاهقة
يا ست الدنيا
ها قد أتيت أحمل معول أشواقي
لأعمل بستانياً في حدائق عينيك
وأغسل قدميك بما تبقى من ماء عمري
وأضفر خصلات شعرك
بقصائد عشقي ولوعتي واشتياقي واحتراقي !
**
آه ..
أيتها الشقية
التي بيني وبينها أسرار غير قابلة للنشر
وحكايا غير قابلة للنسيان
وجراح غير قابلة للشفاء
ما الذي أستطيع أن أفعله لأشفى من حبك ؟!
ما الذي أستطيع أن أفعله ضد ابتسامتك
التي تجعلني أدور في الحواري كالمجاذيب
**
دمشق ..
يا سيدة النفس الكبيرة
والتحولات الكبيرة
والطقوس المتقلبة
والأمطار العاصفة
خذي وقتك ..
خذي وقتك ..
فمازال في محطة عمري الأخيرة
بطاقة أخيرة
فمدي يديك وباركيني بمسحة من يديك الطاهرتين
قبل أن أودع نلك الصخرة الشاهقة من قاسيون
و .. اذكريني دائماً !