خواطر من الكون المجاور 22+23

خواطر من الكون المجاور

ز. سانا

خواطر من الكون المجاور الخاطرة 22 ..العلاقة ( إمرأة - رجل ) 6

الخاطرة 22 :العلاقة ( إمرأة - رجل ) 6

أثناء دراستي في المرحلة الجامعية لا حظت أن الطلاب القادمين من مدن أخرى لمتابعة دراستهم الجامعية كانت طبيعة رؤيتهم للمرأة بشكل عام تختلف عن رؤية طلاب سكان حلب، ففي حين أن طلاب حلب كان حديثهم عن الجنس اﻵخر يخص جمال الكائن العلوي وكأنهم يتكلمون عن فتاة أحلامهم التي ستكون شريكة حياتهم وأم أطفالهم، كان حديث معظم الطلاب الغرباء يخص المفاتن الجسدية للمرأة وكأن جميع محاولاتهم في التعرف على الفتاة هدفها فقط التسلية وإشباع الشهوات. في ذلك الوقت لم أفهم سبب هذا اﻹختلاف في طبيعة الرؤية بين طلاب حلب والطلاب الغرباء وظننت أن الموضوع لا يتعلق بالغربة ولكن بطبيعة اﻷشخاص أنفسهم فقد كان هناك بعض من الطلاب الغرباء سلوكهم مع الجنس اﻵخر أرقى بكثير من سلوك الطلاب الحلبية. 

عندما إنتقلت إلى دمشق لتأدية الخدمة العسكرية لاحظت هناك أن زملائي من حلب والذين كان كلامهم عن المرأة يخص جمال الكائن العلوي بقصد الزواج رأيت سلوكهم يتحول إلى سلوك مشابه تماما لأولئك الطلاب الغرباء، ومع ملاحظة دقيقة لهذا الموضوع تبين لي أن الشعور بالغربة يحرر الكائن السفلي، أو بكلام آخر إن إزدياد اﻹباحة الجنسية في المجتمع هو دليل قاطع على تفكك الروابط الروحية بين أفراد هذا المجتمع ، وليس من الصدفة أن في المجتمعات الغربية حيث تسود الحرية الجنسية أن الفرد في حيه يشعر أنه غريب.

أثناء وجودي في دمشق لاحظت أيضا كم التعليم في المدارس والجامعات هو من النوع الببغائي وأن اﻹيمان و المبادئ والقيم التي تظهر على الكثير من الناس ترتكز على قاعدة هشة وأن قابلية اﻹنحراف في هؤلاء اﻷشخاص سهلة جدا يكفي أن يوجد الشخص المناسب ليفتح لهم باب اﻹنحراف على مصراعيه ليدفعهم فيه بسهولة . وشاءت اﻷقدار أن تجعل زميلي في الفصيلة الملازم ( أ ) أحد أولئك الذين إنحرفوا بسهولة وراح يحاول جر معه أكبر عدد من الذين حوله في هذه الطريق ،فرغم أنه كان خاطب وكاتب على إبنة عمه الكتاب. كان معظم راتبه يذهب على دور الدعارة. وأثناء جلوسه مع زملائه الضباط كان موضوع حديثه فقط عن النساء، يضحك ويتكلم عن فتيات إستطاع برجولته أن يتعرف عليهن ويقعن في حبه، ولكن في الحقيقة هن نفس نساء دور الدعارة اللواتي كن يسلبن منه معظم راتبه. وكان أثناء حديثه مع زملائه يصف المفاتن الجسدية لكل واحدة منهن وماذا فعل معهن بطريقة مثيرة كانت تسيل لعاب زملائه والغريب باﻷمر أن الجميع كان يصدقه والجميع يحاول تقوية صداقته معه لعله يساعدهم في التعرف على صديقة إحدى صاحباته. وكان الملازم ( أ ) يستغل صداقتهم فيستدين منهم بعض المال وبهذا المبلغ يذهب إلى دور الدعارة ليطفئ شهوته مع إمرأة جديدة وفي اليوم التالي يذهب إلى زملاءه ويحدثهم عن مفاتن صاحبته الجديدة ليسيل لعابهم من جديد دون أن يعلموا أن هذه اﻹمرأة التي سال لعابهم على أوصافها قد باعت جسدها لصديقهم بمقابل المبلغ الذي دينوه هم لصديقهم.

إحدى المرات كنا جالسين مع بعض الزملاء فسألني أحدهم فيما إذا كان لدي علاقات غرامية فأجبته لا، فاستغرب ذلك ﻷن شكلي حسب رأيه جذاب للنساء ، عندها رأيت الملازم ( أ ) يقول لزميله أن نساء اليوم تختلف عن نساء الماضي فالمرأة اليوم يجذبها الرجل الجريء الطليق اللسان الذي له خبرة في السيطرة عليها من اللحظات اﻷولى لتستسلم له . .. وأن الوسامة والعواطف الشاعرية هي موضة قديمة ، والغريب في اﻷمر أنه من وصفه للرجل الذي يجذب المرأة كان وكانه يصف إمرأة قد تحولت إلى رجل مشابهة تماما له، لا يهمها من الرجل سوى أن تقضي معه ليال حمراء فقط لا أكثر ولا أقل. هذا الرأي عن المرأة كما ذكره الملازم ( أ ) كنت قد رأيته في بعض اﻷفلام الأجنبية، وبدا لي في تلك اللحظات أن هذا الرأي عن المرأة سيقوى في المستقبل ويجعل عدد الرجال الذين يؤمنون به يتزايد بإستمرار حتى يصل اﻷمر إلى أن تصدقه المرأة نفسها ليجعلها تتحول تماما إلى كائن تسيطر عليه غرائزه ليصبح هدفها من الرجل فقط إطفاء شهواتها الجنسية.

ولكن شاءت اﻷقدار في نفس اليوم وبعد إنتهاء الدوام أن يرافقني الملازم ( أ ) في طريق العودة ، وعندما وصل الباص إلى موقف النهاية، كانت هناك شقيقتان تنتظران الباص ليقلهما إلى بيتهما. الشقيقة الصغرى عندما رأتني من النافذة أعجبت بملامح وجهي مباشرة فراحت تنظر إلي ظانة أنني لم أنتبه إليها وهمست شيئا في إذن شقيقتها التي كانت تقرأ في صفحات كتابها فرفعت رأسها وظنت أن شقيقتها تقصد الملازم ( أ ) ولكن عندما رأتني أظهر من الخلف علمت أن شقيقتها تقصدني أنا ، أما الملازم ( أ ) فراح ينظر مدهوشا لتلك الجرأة التي تملكها الشقيقتان وهما ينظران نحوي ، ونزلت من الباص وكأنني لا أعلم شيئا عما يحدث وتابعت طريقي ظانا بأن الشقيقتان ستصعدان إلى الباص وينتهي اﻷمر، وهكذا ظن زميلي تماما ولكن بعد إبتعادنا عدة خطوات إلتفت زميلي إلى الوراء فلم يصدق ما تراه عيناه فقد رأى الشقيقتان أنهما بدلا من الصعود إلى الباص كانتا تسيران من خلفنا، فقال لي فرحا بصوت خافت : "هناك فتاتان معجبتان بنا تريدان التعرف علينا " فقلت له: "أعرف ذلك. .لا تعطيهما أهمية وستتوقفان من المسير خلفنا " فرأيته يثور وكأنني سأبعده عن إمرأة عاهرة قدمت له جسدها مجانا فقال لي : ماذا تقول!!! بنت تريد التعرف علي وتريدني أن أرفضها ؟!!! ورأيته يتباطئ في خطواته ثم يلتفت إلى الوراء ويسألهما : " إلى أين مشوار الصبايا " ؟ فردت عليه الشقيقة الكبيرة : "إلى حيث يذهب سادة الضباط " لم يصدق زميلي أن يسمع مثل هذا الجواب من فم فتاة فقال لها: " نحن ذاهبان إلى كافتيريا نادي الضباط ، ما رأيكما أن نعزمكما على فنجان من القهوة ؟ فردت عليه: لما لا بكل سرور، وفعلا كان نادي الضباط على بُعد خمس دقائق فسرنا نحن اﻷربعة جنبا إلى جنب الرجال على اﻷطراف والنساء في الداخل، وراح زميلي مباشرة يحاول أن يظهر أمامهما تماما بمواصفات ذلك الرجل الذي حسب رأيه يعجب نساء هذا العصر.

كانت الكافتيريا خالية من الضباط وبمجرد وصولنا أشار لي صديقي عن منضدة لأجلس عليها أنا والشقيقة الصغرى بينما هو أخذ شقيقتها وجلس على منضدة أخرى بعيدة عنا ليستطيع أن يوقع الفتاة في شباكه ليأخذ منها ما يحتاج مجانا دون أي مقابل ، في تلك اللحظات لم أعرف بماذا أفكر فمن جهة شعرت بأنني أنا نفسي أساعده في تحقيق نواياه الدنيئة. ومن جهة أخرى كنت أفكر بماذا سأقول لهذه الفتاة الجالسة أمامي والتي من شدة إضطرابها كانت تخشى أن ترفع بصرها لترى وجهي وعندما أتى الجرسون بالقهوة ومدت يدها لتحمل الفنجان لتشرب منه من شدة رجفة يدها خافت أن تندلق القهوة منه فتفضح إضطرابها لي على الرغم من أنها هي التي ألحت على شقيقتها لتساعدها في التعرف علي. من سلوكها كنت متأكدا تماما بانها كانت المرة اﻷولى التي تخرج فيها مع شاب لا تعرفه لتتحدث معه ، ورغم انني أنا أيضا كنت مضطربا أيضا ولكن شدة إضطرابها جعلني أضطر أن أحاول تهدئة الوضع لنصل إلى حل يرضيها ويرضيني وفي نفس الوقت أمنع به زميلي من أن يحقق مأربه.

في البداية سألتها إذا كانت تسمح لي أن ألقي نظرة على كتبها ومن كتبها عرفت أنها سنة أولى جامعة وﻷن وضعها النفسي لم يكن يسمح لها بالتكلم بطلاقة بسبب إضطرابها الشديد ، رحت أسألها بعض اﻷسئلة التي إجابتها تحتاج إلى كلمة واحدة وشيئا فشيء بدأت أغير في نوعية اﻷسئلة لتشارك بالحديث بأكثر من كلمة وعندما وصلت إلى مرحلة إستعادت فيها السيطرة على نفسها عندها قررت أن أتحدث معها عن موضوعنا نحن اﻹثنين. 

حتى تلك اللحظات كنت قد وصلت إلى حجة مناسبة أقنعها بها دون أن تشعر نهائيا بأنني أرفضها لكي لا تشعر بصدمة قد تؤثر على عزة نفسها كإمرأة إلى اﻷبد. فأقسى شيء يمكن أن تشعر به إمرأة هو أن ترى نفسها مرفوضة من ذاك الرجل الذي تريده هي أن يكون شريك حياتها ، وهذه الحجة كانت قد خطرت لي من حالة زميلي الملازم ( أ ) كونه كان خاطبا ومع ذلك يحاول خداع النساء، وكذلك أيضا فقد تصورت نفسي لو أنني كنت وافقت على طلب رجل اﻷعمال الذي عرض علي الزواج من إبنته لكنت اﻵن في مثل وضع زميلي تماما. فقلت لها : "لنعود اﻵن إلى موضوعنا الأساسي. . أقصد موضوعنا أنت وأنا... أريد منك في البداية أن تعلمي أنني أؤمن بأن الرجل الذي يحترم نفسه او كما يسميه اﻵخرون الرجل الراقي أو الرجل الحضاري هو بالنسبة لي ذلك الرجل الذي يعامل المرأة الغريبة تماما كما يتمنى هو من الرجل الغريب أن يعامل إخته.... لذلك سأتحدث اﻵن إليك وكأنني أتحدث إلى أختي الصغيرة. .. أنا رأيتك قبل أن تريني انت، ولكن لم أتابع النظر إليكي رغم أني كنت أشعر أنك كنت تنظرين إلي وتتمنين مني أن أنظر إليك أنا أيضا ولكني لم أفعل ذلك . ﻷنني لست ملك نفسي ولكن ملك فتاة أخرى. ... لي علاقة مع فتاة منذ أكثر من ثلاث سنوات أهلها وأهلي يعلمون بعلاقتنا . . نحن شبه مخطوبين في عيون الجميع. .. أنا أحبها وهي تحبني وأدعوا الله أن يمدني بالقوة لأبقى وفيا لها طوال العمر......إعذريني إذا كنت قد خيبت أملك. ....أعرف أنك لم تخرجي معي من أجل التسلية ولكن لإقامة علاقة شريفة تدوم إلى اﻷبد .. . .. أنا مؤمن تماما بأن الزواج هو قسمة ونصيب.... وأتمنى أن تلتقي يوما ما بشاب طيب يفهمك وتفهميه، يحبك وتحبيه ليكون شريك حياتك إلى اﻷبد..." كنت أتحدث إليها وكأنني أرى ما أحدثها عنه وهذا ما جعلها تنظر إلي في وجهي بإستمرار ورغم إلتقاء عيني بعينها للحظات قصيرة جدا ، كانت تتابع النظر في وجهي ورغم علامات الحزن التي إرتسمت على وجهها في بداية حديثي عندما علمت أني خاطب ولكن شيئا فشيئ شعرت أنها تقبلت الواقع ويبدو من طريقة نظراتها لي كانت وكأنها تنظر إلي وتدعو من الله أن يكون نصيبها شاب مثلي يحبها هي ويبقى وفيا لها مدى العمر. وتابعت كلامي قائلا لها : " قبل أن أنهي كلامي في هذا الموضوع أريد أن أضيف شيئا أخر ، إعتبريها نصيحة من أخ ﻷخته الصغيرة. .. من أخ درس سلوك الرجال دراسة كافية لتعلمي شيئا عنهم ....إياك أن ترمي بنفسك لرجل. ..الرجل الذي يرى إمرأة ترمي هي نفسها في أحضانه أو حتى إذا أنها قبلت بالخروج معه بسهولة ستجعله يظن أنها رخيصة ، ويمكن بسهولة جدا أن تخرج مع أي رجل آخر وتقع بسهولة في حضنه كما فعلت معه هو .... عندها سيتسلى معها ويأخذ منها ما يريد حتى يمل منها وثم يهجرها....لا يوجد رجل في العالم يقبل أن تكون شريكة حياته وأم أطفاله إمرأة رخيصة عرفها من قبله عدة رجال آخرين... .. الرجل كائن غريزي يختلف كثيرا عن المرأة. يمكن أن يثار جنسيا ﻷتفه اﻷسباب ،وعندما يثار جنسيا قد يفقد عقله ولا يهمه شيئا أبد ، قد يبيع نفسه لشيطان من أجل إطفاء شهوته ، أفضل مثال على ما أقوله هو زميلي الذي يتكلم اﻵن مع شقيقتك. .. إنظري إليه يتصرف وكأنه يبحث عن فتاة أحلامه ولكن في الحقيقة كله نفاق في نفاق. ..قبل قليل دفع الحساب مباشرة ليظهر نفسه كريما أمام شقيقتك مع العلم أنه مديون لجميع أصدقائه. .. خطيبته المسكينة تنتظر منه أن يجمع بعض المال ليتزوجها ويأتي بها لتعيش معه في بيت الزوجية بينما هو يصرف كل راتبه على النساء.... ستريه اﻵن يتغزل بجمال عيون شقيقتك ولكن غدا سيتحدث لأصدقائه عن مفاتن جسدها ليثير أصدقائه جنسيا ظانا بأنه بهذا الأسلوب سيرفع من رجولته أمامهم. .. إعذريني ﻷنني أحدثك بكل هذه اﻷشياء ولكن سهولة طريقة التعارف بيننا أقلقتني. ...معظم الرجال الذين يتعرفون على النساء بهذه الطريقة هم من أمثال صديقي هدفهم إشباع شهواتهم فقط. .الزواج قسمة ونصيب. .....الشاب الذي يحبك ويتمنى أن يكون شريك حياتك هو ذاك الرجل الذي روحه ستجعله يشعر بحبك له قبل أن تعبري له بشيء نهائيا وسيأتي هو إليك لكي لا يكسر عزة نفسك. ... مثل هذا اﻹنسان سيشعر أنه يخاف عليك من نفسه لذلك سيفضل أن يراك بحضور الناس وليس في أماكن بعيدة عن أعين الناس.... أنظري ماذا فعل زميلي قبل قليل مباشرة طلب من شقيقتك أن يجلسا لوحدهما. ... متأملا أنه في المرة القادمة ستجلس معه في مكان بعيدا عن الناس ليستطيع أن يفعل ما لا يستطيع فعله أمام الناس. ...الرجل الذي يحب يستطيع أن يعبر عن حبه حتى ولو كان في مكان مليء بالناس. ..أما الذي يريد إطفاء شهواته فيختار اﻷماكن البعيدة عن أعين الناس ليكون ثالثهم الشيطان ليفعل ما يشاء"

كنت أريد أن أتابع حديثي وأخبرها أشياء أخرى لتكون لديها فكرة واضحة جدا عن أنواع الرجال ، ولكن رأيت أختها تحمل فنجانها وكتبها وتأتي وتجلس معنا وكأنها لم تصدق أنها تخلصت من زميلي ، فقلت فورا للصغيرة بلهجة مازحة : "هل صدقت كلامي عن اﻹتصال الروحي . . روح إختك سمعت مباشرة ما نتحدث به فأتت حالا"...و رغم خيبة أمل الشقيقة الصغيرة ضحكت وهزت رأسها موافقة ، أما الأخرى فلم تفهم شيئا عما نتحدث به فقالت : "أخبراني ماذا تقولان عني "؟ فقلت لها: "ستخبرك أختك فيما بعد" نظرت إلى زميلي ﻷفهم ما حصل رأيته يجمع أغراضه هو الآخر وينظر إليها نظرة مائلة مليئة بالغيظ وكأن شرر من النار يتطاير منها. وبخطوات بطيئة أتى وجلس معنا دون أن يتفوه بكلمة ، وراح كل لحظة وأخرى ينظر في ساعته وينظر إلي وكأنه يطلب مني أن ننتهي ونذهب. ويبدوا أن الشقيقة الصغيرة فهمت تصرفات زميلي فأخبرت شقيقتها بأن الوقت تأخر ويجب أن يعودا إلى البيت.

بعد إبتعاد الشقيقتان سألت الملازم ( أ ) عما حصل وعن سبب إنزعاجه فأخبرني بأن شقيقتها طوال الوقت كانت تسأله عني وعندما رأى بأن الحديث معها سيكون فقط عني عندها أخبرها بأنه لا يعرف عني إلا القليل فإذا كانت تحب أن تعلم عني كل هذه المعلومات ما عليها إلا أن تذهب وتسألني أنا وفورا حملت نفسها وأتت إلينا لتجلس معنا ،عندها أخبرته بأنها أتت معنا لتساعد أختها الصغيرة في التعرف على شاب أعجبها ولم يكن هدفها التعرف عليك أنت ومن الطبيعي أن تسألك عني وتتصرف بهذا السلوك. 

وشاءت اﻷقدار في اليوم نفسه وبعد دقائق من خروجنا من نادي الضباط أن تحصل حادثة أخرى جعلت من الملازم ( أ ) أن يشعر بأنه فعلا لاشيء نهائيا أمامي وأن رأيه عن مواصفات الرجل الذي يعجب النساء ليس إلا ضربا من ضروب الغباء. فعلى مقربة من نادي الضباط كانت توجد مؤسسة إستهلاكية لبيع اﻷدوات الكهربائية ،وأثناء مرورنا من أمامها لاحظ زميلي وجود موظفات جميلات في كل قسم ، فتوقف مباشرة وأخبرني بأنه يريد أن يلقي نظرة على أسعار الأدوات الكهربائية ليشتري بعض منها ليجهز بيته للزواج من إبنة عمه. فصدقته ودخلت معه ورأيته مباشرة يبتعد عني ويذهب إلى أول موظفة ويعرض عليها مهارته في الكلام. بينما أنا رحت أتمعن في البضاعة المعروضة لآخذ فكرة عن أسعارها. بعد دقائق إقتربت من القسم اﻷول ﻷرى اﻷدوات المعروضة فيها فسمعت الموظفة تسأني بلطف : هل أستطيع أن أساعدك في أختيار ما هو أنسب لك ؟ فأجبتها : شكرا أنا ألقي نظرة فقط زميلي هو الذي سيشتري ، فإبتسمت وهزت رأسها بحركة لها معنى قائلة: "زميلك لم يأتي لأن يشتري، زميلك أتى ليصطاد واحدة منا ، حاول معي فلم يفلح فحاول مع زميلتي أيضا فلم يفلح " نظرت إلى زميلتها في القسم المجاور رأيتها تنظر إلي وتهز رأسها مؤكدة على صحة كلام زميلتها ،وتابعت الموظفة كلامها قائلة : " إنظر اﻵن يحاول مع الثالثة " نظرت إلى الملازم ( أ ) وشعرت بالخجل من مصاحبة شخص بمثل هذا السلوك المخجل ، فقلت للموظفة : ( أنا آسف ) فقالت : "أنت تختلف عنه نهائيا كيف تصادق مثل هذا الشخص " فأجبتها: " أعتقد أني في البداية قلت بأنه زميلي ولم أقل عنه أنه صديقي. ..الصديق نحن نختاره ليكون صديقنا ولكن الزميل تفرضه ظروف العمل علينا ".

رغم أني في الظروف العادية كنت أتجنب اﻹقتراب من النساء لكي لا يحدث مثل هذا النوع من التعارف ولكني في تلك المرة حاولت أن أثبت للملازم ( أ ) كم هو مخطئ في رأيه عن النساء. لذلك لم أحاول أن أخلق ظروف تبعدني عن الموظفات ولكن تركتهن يتصرفن على مزاجهن. فمن البداية كنت أشعر بأن الموظفات كن ينظرن إلي بطرف أعينهن وينتظرن اللحظة التي سأقترب منهن. فما أن إنتهيت من كلامي عن الفرق بين الصديق والزميل وجدت موظفة القسم اﻷول تسألني من أين أنا وعندما أخبرتها بأني من حلب رأيت زميلتها تجد فرصة مناسبة لتقترب منا وتنضم إلى الحديث معنا فأخبرتني بأن صديقتها متزوجة من رجل حلبي تقيم هناك وأخبرتني إسم المنطقة، ومع مجرى الحديث علمت الموظفتان بأنني ملازم مجند وأنني خريج كلية الزراعة فسألتني الموظفة اﻷولى فيما إذا كنت قد شاهدت معرض الزهور الدولي الذي يحدث في تلك اﻷيام فأخبرتها بأنني لم أره فرأيتها تقول لي وكأنها تلومني بطريقة مازحة " إخس. .. مهندس زراعي ولا تستغل وجودك هنا لتشاهد معرض الزهور" فقلت لها: بأن لي هنا فترة قصيرة جدا ولا أعرف أحدا يذهب معي لمشاهدة المعرض ومباشرة وقبل أن أنتهي من كلامي رأيتها تقول لي : ولا يهمك أنا وزميلتي سنأخذك معنا لنرى المعرض ولنعزمك أيضا على فنجان قهوة " وسألت زميلتها فوافقت مباشرة.

في تلك اللحظة اتت الموظفة الثالثة إلينا وكأنها لم تعد تتحمل تصرفات الملازم ( أ ) ومسكت رأسها وقالت :أخ يارأسي. . أكثر من هذا بقليل وكنت انفجرت !. ..ما هذا الرجل. ..حطم أعصابي. .لو إستمر كلامه معي دقيقة واحدة أكثر ،كنت على وشك أن آخذ المكواة ﻷحطمها على رأسه حتى ولو كنت أعلم بأنهم سيحكموا علي باﻹعدام" كان أسلوب كلامها مضحكا جدا جعلنا جميعا ننفجر من الضحك ،فسمع الملازم ( أ ) ضحكتنا فتوقف عن الكلام مع الموظفة الرابعة ونظر إلينا وهو لا يصدق أن الموظفات الثلاثة اللواتي حاول معهن بكل الوسائل وفشل، اﻵن واقفات حولي وكأنهن صديقاتي منذ زمن طويل. عندها توقف عن الحديث مع الموظفة الرابعة وذهب إلى مدخل المؤسسة وراح ينتظرني وعندما إنتهيت من الكلام مع الموظفات ودعتهن وإتجهت إليه ورأيته ينظر إلي فرحا وكأنه أدرك وﻷول مرة أن له زميل مثل المغناطيس يجذب نحوه العديد من النساء. وعندما خرجنا راح يحاول أن يمدح بي قائلا: "لم أعلم أنك كازانوفا بهذا المستوى. ... برافو.. برافو " وظن بأنه بهذا المديح الساذج سأساعده في التعرف على المزيد من النساء ،ولم يعلم بأن تلك الألقاب (كازانوفا..دون جوان. . زير النساء. ...) كانت بالنسبة لي ألقاب تطلق على اؤلئك الرجال الذين باعوا أنفسهم للشيطان. وبعد لحظات سألني عما حصل مع الموظفات فأخبرته بأنهن عزمنني في المساء على فنجان قهوة في إحدى الكافتيريات. .. فسألني فرحا: (مع الثلاثة ؟!! ) فأجبته بنعم فقال لي مباشرة : " سآتي معك" فنظرت إليه متأسف وقلت له : " للأسف لا أستطيع، فقد أصرين على أن آتي بمفردي وبدون أي صديق آخر وخاصة أنت " فنظر إلي وكأنه علم أن الفتيات قد فضحن أمره لي، وتابعت كلامي قائلا له: وطلبن مني أن أخبرك بأنك بدخولك المؤسسة قد أخطأت بالعنوان وكان عليك أن تذهب إلى دور الدعارة فهناك فقط ستجد ما تطلبه ". رغم أنه في البداية إنزعج كثيرا لما سمعه مني ولكن سرعان ما حاول تغيير الموضوع ثم نظر إلى ساعته وجعل من نفسه وكأنه تفاجئ على مرور الوقت بهذه السرعة فإعتذر ﻷنه مضطر أن يتركني ﻷنه لديه عمل ضروري فتركني وذهب. 

كنت أعتقد بأني سأخرج مساء بصحبة ثلاث فتيات لزيارة معرض الزهور ، لذلك لم يكن فكري مشغولا بشيء فوجودي مع ثلاثة نساء لن يسمح لا لي ولا ﻷي واحدة منهن أن تتجاوز حدود نقاش زملاء أو أصدقاء. فأنا فعلا كنت بحاجة للجلوس مع فتيات ﻷكتسب نوع من الخبرة تساعدني على تقوية السيطرة على نفسي وعلى عواطفي وغرائزي فإذا كان مقدر علي أن أذهب إلى دولة غربية على الأقل ألا أشعر باﻹضطراب في كل مرة أتحدث مع إمرأة فحتى ذلك الوقت كنت أشعر بذلك رغم أن المرأة التي أكلمها قد لا تشعر بهذا اﻹضطراب، وكذلك كنت بحاجة إلى فتح نقاشات في مواضيع مختلفة مع النساء ﻷكتسب فكرة عن الفرق بين منطق المرأة و منطق الرجل لنفس الحدث.فكل اﻹستفهامات التي كانت تشغل فكري كانت المرأة تلعب دور كبير في تفسيرها أو بمعنى آخر بأنني كنت متأكدا أن فهم التكوين الروحي للمرأة يساعد كثيرا في تفسير الكثير من الظواهر. 

عندما ذهبت مساء إلى الموعد رأيت فقط موظفة القسم اﻷول، فأخبرتني بأن إحدى زميلاتها إعتذرت ولن تستطيع المجيء وأن الثانية ستأتي بعد قليل فذهبنا وجلسنا في إحدى الكافتيريات القريبة من معرض الزهور لننتظرها هناك. ومرت أكثر من نصف ساعة دون أن تأتي فنهضت الموظفة وذهبت إلى الهاتف وإتصلت بها لتعلم عن سبب تأخرها، وعادت بعد قليل وأخبرتني بأن زميلتها وﻷسباب طارئة لن تستطيع المجيء ،لذلك فهي وحدها لن تستطيع الذهاب معي إلى معرض الزهور ﻷنه إذا كان معها فتاة أخرى ففي حال إذا رأها شخص يعرفها سيظن أن الشاب الذي يرافقها هو شقيق صديقتها أما إذا كانت برفقتي لوحدها فإن الوضع سيختلف وهي تخشى أن يساء الظن بها. فقررنا أن نتابع جلستنا في الكفتيريا ونترك زيارة معرض الزهور إلى يوم آخر. 

شيئا فشيء بدأت ألاحظ تغيير في نوعية المواضيع التي كنا نتحدث بها فمثلا سألتني عن عمري فأخبرتها فقالت لي بأنها أكبر مني بأربع سنوات وهزت برأسها وقالت: "يا خسارة ، لو كنت بعمري أو أكبر مني لكنت فعلت المستحيل لتكون لي ولي فقط ،ولكنك أصغر مني ومثل هذه العلاقة سيكون مصيرها الفشل " ثم سألتني من هم اﻷجمل، بنات حلب أم بنات دمشق، وبدأت أسئلتها تتجه نحو حياتي الشخصية جدا فسألتني عن علاقاتي الغرامية وعندما أخبرتها بأن حياتي خالية من أي علاقة غرامية، جعلت نفسها وكأنها لم ولن تصدقني وراحت تتغزل في جمال وجهي وتقول مستحيل أن أملك كل هذه المزايا دون أن يكون لي علاقات غرامية. ورغم طبيعة اﻷسئلة التي طرحتها علي والتي يمكن لها أن تثير عواطف وغرائز الرجل ولكن طوال الوقت ربما بسبب وجود اشخاص عديدين من حولنا كنت آخذ كلامها على مستوى مزاح لا أكثر ولا أقل لذلك لم أشعر بأي ضعف نحوها، ولكن عندما خرجنا ورأيتها تطلب مني أن نسير على رصيف نهر بردى، عندها شعرت بأن اﻷمور بدأت تختلف. فقد كان الشارع طويلا خالي من المارة ورغم وجود اﻷضواء المبعثرة على مسافة الطريق ولكن كثرة اﻷشجار الكبيرة وكثافتها فيها جعلت من ظلالها وجود العديد من المناطق المظلمة بحيث تسمح ﻷي شخص بالإختفاء تماما عن عيون اﻵخرين. لا أدري لماذا شعرت في تلك اللحظات بأن كل ما حصل لم يكن سوى مسرحية مخطط لها وأن زميلاتها كن في الأصل لن يأتيا إلى هذا اللقاء وأن الهدف الحقيقي من البداية كان أن أتواجد معها أنا وهي فقط وفي هذا الوقت بالذات وفي هذا الطريق الرومانسي، فمن بداية مسيرنا فيها شعرت وكأن قلبها بدأ يزداد خفقا وأنني بدأت أسمع صوته وهو ينبض. 

لا أستطيع أن أصف بالتفصيل عما حصل في البداية لكي لا يظن البعض بأن المقالة تحولت إلى موضوع إباحي وقد يثير أحاسيس الكثير من القراء الرجال، تماما كما حصل بي من اللحظات اﻷولى من وجودي في هذا الطريق ، ولكن كل الذي أستطيع أن أذكره هنا هو أنني وجدت نفسي وكأنني أحاول أن أقنع نفسي بتحقيق رغبتها وأن لا أكسر خاطرها من أجل شيء بسيط ، فكل ما كانت تطلبه مني حسب ما شعرت من نظراتها وسلوكها هو أن أجعلها ولو للحظات قليلة وكأنها تعيش في حلم ، في أحضان فتى أحلامها وشفتيه تلثم شفتيها لا أكثر ولا أقل، فالمكان نفسه لا يسمح بأكثر من ذلك. ولكن لا أدري ماذا حدث فجأة وكأن شيئا ما تغير في وجهها أو ربما هذا التغيير حصل في داخل شبكية عيني فقد بدا لي بأنها تشبه شقيقة تلك الفتاة التي جلست معي في كفتيريا نادي الضباط والتي حاول زميلي الملازم ( أ ) أن يوقعها في شباكه ولم يفلح بسببي. وفعلا هذا اﻹحساس أيضا شعرت به عندما رأيتها ﻷول مرة ولكني نسيته ولم إعطيه أية أهمية، ولكن هذا الشبه اﻵن عاد ليجعلني أشعر في تلك اللحظة بأنني بدأت أشبه في سلوكي سلوك الملازم ( أ ) وشعرت كأن الشقيقة الصغيرة التي كنت أنصحها وكأنني أخاها الكبير بأنها تنظر إلي اﻵن ، لم أصدق نفسي كيف إنقلبت إلى إنسان آخر معاكس تماما لذاك الذي كان قبل ست ساعات تقريبا ﻷقنع نفسي بفعل كل ما حرمته من قبل ، وفجأة شعرت أن جميع تلك اﻷحاسيس التي كانت بإستمرار تتجه نحو اﻷسفل في جسدي تتوقف وتعود ثانية إلى اﻷعلى ، وبدلا من أرى أمامي وجه الموظفة بدأت أرى وجه الفتاة الصغيرة وهي تسمع مني عن الحب العذري وعن الوفاء وعن أولئك الرجال الذين يطلبون من الفتاة دوما أن يتواجدوا في مكان بعيد عن عيون الناس ليكون ثالثهم الشيطان، أولئك الرجال الذين من أجل أن يقضوا ليلة حمراء مع إمرأة يبيعون أنفسهم للشيطان ، ووجدت نفسي أردد في سري : (أعوذ بالله من الشيطان. ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

وبينما كنت أحاول إستعادة سيطرتي على نفسي فجأة سمعت خطوات أقدام رجل من الخلف تقترب منا أكثر فأكثر، وحتى هذا الرجل المجهول لا يرى وجه الموظفة فقد يكون أحد معارفها فيكتشف أنها بصحبة رجل وفي هذا الوقت لذلك إلتفتت إلى اليمين إلى النهر لتخفي وجهها عنه عندما يصل إلينا ، أما أنا فبحركة لا شعورية إلتفتت إلى الوراء ﻷرى من يسير خلفنا، فلم أصدق ما تراه عيني، فقد كان هذا الشخص أحد زملائي في الكلية العسكرية للشؤون اﻹدارية ورأيته يحمل وردة كبيرة في يده ومن حركة يده فهمت بأنه سيعطيني سرا هذه الوردة ﻷقدمها للفتاة التي أرافقها، فتابعت سيري بشكل طبيعي، ومددت يدي اليسرى إلى أقصاها وعندما أقترب مني مد هو أيضا بيده وأعطاني الوردة من مسافة بعيدة دون أن تشعر الموظفة أنه حصل أي إتصال بيني وبين هذا الشخص المجهول. وعندما شعرت بأنه قد إبتعد كفاية إلتفتت نحوي وإبتسمت ويبدو أنها أيضا رأت أنه شيئا فشييء سنصل إلى نهاية الطريق دون أن يحصل بيننا شيئا ، فنظرت إلى الساعة في معصم يديها وقالت بأن الوقت مبكرا للعودة إلى البيت فمدت كفها وأمسكت بكفي دون أن تعلم شيئا عن وجود الوردة في اليد اﻷخرى ،وذهبنا إلى السور الحجري للنهر ورحنا ننظر إلى مياهه التي عكست أمواجه ضوء القمر ، ومرة أخرى بدأت أسمع صوت نبضات قلبها تتزايد لتمتزج شيئا فشيء مع صوت نبضات قلبي وشعرت بيدها الصغيرة ترتعش في يدي (أو ربما كانت يدي هي التي ترتعش في يدها ، الله أعلم ) . وألتفتت إلي وأصبح وجهها قريبا جدا من وجهي وراحت تتمعن جيدا في جبيني ثم في عيني ثم في أنفي لتتوقف عيناها على شفاهي و تبقى هناك. وشعرت في تلك اللحظة وكأنها تقول لي أنا ملك لك قبلني. ..... نظرت في شفتيها ثم في عينيها وقلت لها هامسا ( إغلقي عينيكي ) فإبتسمت وأغلقت عينيها بطمأنينة وكأنها تسلمني نفسها ﻷفعل ما أريد، وفجأة شعرت برائحة عطرة تدخل أنفها جعلت من كفها الصغير يرتعش بشدة في يدي، ففتحت عينيها وهي لا تصدق الظهور الفجائي لهذه الرائحة العطرة ولكن بدلا أن تجد تفسير معقول لوجود هذه الرائحة شعرت وكأنها تعيش لحظات حدوث معجزة وهي ترى أمام عينيها وردة كبيرة جميلة جدا (مشابهة للوردة في الصورة ) ،وربما كانت تلك المرة اﻷولى لها ترى فيها مثل هذا النوع من الورود. نظرت حولها لتتأكد من عدم وجود نباتات مزهرة في المنطقة فهي كانت متأكدة تماما بأن الوردة هذه ظهرت في الوجود قبل ثوانِ قليلة فمن المستحيل أن هذه الوردة الكبيرة كانت مخفية طوال الوقت في جيب البنطال، فنظرت إلي جيدا تتمعن في وجهي لتتأكد إذا كنت حقا إنسانا أم كائنا من عالم آخر. وبعد لحظات سألتني بدهشة ( من أين أتيت بهذه الوردة ) فرفعت لها بسبابتي إلى السماء. فنظرت إلى السماء وهي لا تدري إذا كنت أمزح معها أم أكلمها بجدية تامة. ففي تلك اللحظات كانت وكأنها تعيش معي في الكون المجاور. وحتى لا أطيل عليها دهشتها وتعتقد بأني فعلا من عالم آخر حاولت أن أفسر لها ما حدث قائلا لها : " أحد الملائكة لم يهون عليه أن نتواجد بالقرب من معرض الزهور دون أن نشاهده فذهب وأخذ أجمل وردة في المعرض وأعطاني ياها وقال لي قدم هذه الوردة إلى صديقتك الجميلة فأحلى هدية يمكن أن يقدمها رجل إلى إمرأة هي وردة" إبتسمت وكأنه لا يهمهما سواء كنت جادا في كلامي أو لا فما حصل كان مفاجأة سعيدة جدا لها وهذا يكفي،ولكني تابعت كلامي قائلا لها : هل تذكري الشخص الذي مر بقربنا قبل قليل " وهزت رأسها وكانها تتذكره : فقلت لها : " هذا الرجل في تلك اللحظة كان ملاكا، أتى وأعطاني الوردة وذهب". لا أدري إذا كان تفسيري لما حدث قد أقنعها أم لا ، كل الذي أعلمه هو أن الظهور الفجائي لهذه الوردة كان قد قلب كيانها رأسا على عقب بحيث جعلها في غمضة جفن يتحول إحساسها نحوي من عشيق إلى شيئا آخر يشعر بسموه فقط ذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في كل إنسان ، فكانت تسير بقربي بإبتسامة تملأ وجهها تارة تنظر إلى الوردة وتستنشق رائحتها العطرة وتارة تنظر إلي بنظرة من نوعية جديدة لم أرها في عينيها من قبل ،نظرة أخرى أجمل وأرقى بكثير من نظرة إعجاب إمرأة برجل. 

قبل وصولنا إلى نهاية الطريق بقليل نظرت إلي وقالت لي بنبرة وكأنها تتحدث مع نفسها : "عند الظهيرة عندما دخلت مع زميلك المؤسسة اﻹستهلاكية ورأيت كيف كنت أنت تنظر إلى اﻷدوات الكهربائية وما يفعله زميلك وقارنت بين سلوكك وسلوكه ، في تلك اللحظات كم تمنيت أن تكون المؤسسة ملكي ﻷقدم لك كل ما تريده منها مجانا ، لا أدري لماذا ، مثل هذا الشعور لم أشعر به ﻷي شخص من قبل" وفجأة رأيتها تتوقف وتفتح حقيبتها ، في البداية ظننت أنها نسيت مفتاح البيت وتريد أن تتأكد ، أو نسيت شيئا آخر ، ولكن رأيتها تخرج مبلغ من المال وتأخذ منه جزء بسيط يكفي ﻹجرة التكسي، وتمد يدها بالمبلغ بأكمله لي وتقول لي : " خذ هذا المبلغ وإشتري به أي شيء أعجبك من المؤسسة " شعرت في تلك اللحظة أن حادثة الوردة قد أثر في قلبها أكثر بكثير مما تصورت ، وطبعا رفضت عرضها مباشرة فقد كان المبلغ كبيرا يعاد على اﻷقل ثلث راتب موظف ، ولكنها أصرت قائلة بأن عائلتها حالتها ميسورة ماليا وأن كل راتبها يذهب لها فقط، وأنه المبلغ بسيط جدا بالنسبة لها. ولكني أصريت أنا أكثر منها قائلا لها بأنني تركتها تدفع ثمن القهوة في الكفتيريا ﻷن إصرارها على الدفع جعل الجميع ينظر نحونا ليفهم ما يحصل. ولكن هنا لا يوجد أحد ومهما أصرت ومهما صرخت لن ينتبه علينا أحد. 

عندما رأت بأن إصراري كان أقوى بكثير من إصرارها نظرت إلي وقالت: "حسنا سأعيد المبلغ إلى حقيبتي إذا وعدتني بشيء " فهززت رأسي باﻹيجاب فتابعت كلامها : أنا أعلم بأن راتب ملازم المجند راتب رمزي لا يكفي ﻷي مصروف. والحياة في دمشق مكلفة... أوعدني بإنك إذا شعرت بأي ضائقة مادية ان لا تذهب إلى أي شخص وان تأتي إلي مباشرة ﻷساعدك...... أنا أراك اﻵن وكأنك أخي الصغير وأرجو منك ان تعتبرني كأختك الكبيرة: " لا أدري لماذا تاثرت كثيرا بما قالته لي فجعلتني أشعر في تلك اللحظة وكأن دمعة محبوسة في زاوية عيني تريد أن تخرج وتسيل. أردت أن أشكرها بالكلام ولكن شعرت أن صوتي سيفضح شدة تأثري فإكتفيت بتحريك رأسي بحركة لها معنى بأنني أوعدها على ذلك .

قد يتساءل البعض لماذا أكتب هذه اﻷحداث ، جوابي على هذا التساؤل بشكل مختصر هو أن يرى القارئ ترابط اﻷحداث فيما بينها ليعلم بأنه لا شيء يحدث بالصدفة ولكن هناك قوى تقوم بتوجيه اﻷحداث نحو نتيجة معينة. هذا التغيير في جهة اﻷحداث يسير عليه الكون بأكمله ، وأنه هناك منطق آخر منطق يختلف عن المنطق العلمي في العصر الحديث ، منطق يعطي لكل حركة تحدث حولنا معنى ليشعر القارئ بأنه حتى المادة التي نلمسها حولنا هي شيء مزيف فكل ما حولنا هو في الحقيقة فكرة، كل شيء حولنا في اﻷصل هو فكرة وأن الكون بأكمله هو في الحقيقة مجموعة من اﻷفكار المترابطة فيما بينها ترابطا وثيق جدا،وأنه بدون فهم كل فكرة من هذه اﻷفكار سيزداد الشعور بالغربة عند اﻹنسان، وزيادة مثل هذا الشعور في اﻹنسان سيؤدي إلى فنائه كفكرة. وللأسف نحن اﻵن في عصر يعيش اﻹنسان فيه في مرحلة بدء فناءه إذا إستمر على نفس المنطق ، لذلك في مؤلفاتي أذكر تلك اﻷحداث التي عشتها فمن هذه اﻷحداث خرجت جميع آرائي الفلسفية والعلمية والتي تبدو معظمها غريبة عن المألوف، ولكن مع رؤية تلك اﻷحداث التي حصلت معي عندها سيشعر القارئ بأن آرائي هي من صميم ما حولنا وتفسر بوضوح تام ما يحدث حولنا ولكن إستخدام المنطق الحديث في سلوكنا اليومي جعلنا لا نرى شيئا منها. .......يتبع

خواطر من الكون المجاور الخاطرة 23 ..العلاقة (رجل -إمرأة ) 7

في عصر إنفصل فيه اﻹنسان فكريا عن البيئة المكانية والزمانية التي تحيط به تأتي مؤلفاتي مستخدما رؤية شاملة في البحث لتعيد جميع تلك الروابط التي فككها المنهج العلمي الحديث إلى مكانها الحقيقي لتوحد من جديد اﻷشياء واﻷحداث الصغيرة والكبيرة ،القريبة والبعيدة لتأخذ شكلا له معنى يجعلنا نشعر بأننا جزء لا يتجزأ من هذا الكون الفسيح وأن كل شاردة وواردة فيه هو منا ولنا وأن وجودها في مكانها، سواء كانت قريبة أو بعيدة، لم يكن صدفة ولكن له علاقة وثيقة بوجودنا نحن اﻹنسانية أبناء آدم وحواء.

الكون بأكمله ليس إلا خشبة مسرح تجري عليه رواية مسرحية حيث تطور أحداثها يتوقف على نتيجة الصراع الذي يحدث بين قوى الخير العالمية وقوى الشر العالمية كما تذكر اﻵية 36 من سورة البقرة ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في اﻷرض مستقر إلى حين ) ولكن اﻹختلاف هنا هو أن نهاية هذه الرواية قد حددها الله و ستكون بانتصار الخير على الشر. كل إنسان سواء شاء أو أبى يشارك في هذا الصراع ، وهو الذي سيحدد في أي صف سيكون ، في صف الخير أم صف الشر.

الله عز وجل يكتب فلسفة الوجود من خلال اﻷحداث الكبيرة والصغيرة التي نعيشها كفرد أو كجماعة ، وأبسط مثال يمكن به توضيح هذه الفكرة هي أحداث حياة إسكندر المقدوني، فعندما تحولت الفلسفة من مذهب مثالي إلى مذهب مادي الذي يمثله أرسطو بعث الله إسكندر المقدوني ليثبت لأستاذه أرسطو بأن المنطق الذي يؤمن به هو منطق ضعيف ، فعندما سمع أرسطو أن إسكندر يجهز جيشه ليغزو العالم إعتبر فكرة إسكندر ليس إلا ضربا من الجنون ﻷنها تخالف المنطق الذي علمه إياه. فحسب المنطق المادي الذي يؤمن به أرسطو أن جيش إسكندر الذي يتألف من 35 ألف جندي فقط من المستحيل أن ينتصر على جيش الفرس الذي يتألف من 250 ألف جندي، ورغم النقاش الحاد الذي جرى بين الأستاذ أرسطو وتلميذه إسكندر ، رأينا إسكندر يقود جيشه الصغير وينتصر على جميع الجيوش في طريقه حتى وصل الهند. بهذه الطريقة أثبت إسكندر المقدوني لأستاذه أرسطو أن المنطق المادي الذي يؤمن به ويدعو إليه هو منطق ضعيف لا يلعب أي دور أو أثر في تطور اﻷشياء وتفسيرها وأن هناك منطقا آخر وهو المنطق الروحي المسيطر على كل حركة في هذا الكون الفسيح. إسكندر المقدوني لم يكن فيلسوفا ولكن أحداث حياته كانت عبارة عن فلسفة ، فلسفة مخلوقة وضعها الله في تاريخ اﻹنسانية لتكون جزءاً من كتاب فلسفة الكون. فكتب الله كتابين ، كتاب مكتوب وهو الكتب المقدسة ، وكتاب مخلوق وهو الكون وما يحويه وما يحدث فيه. في كل فترة يتم به التوحيد بين الكتابين تولد حضارة جديدة وفي كل فترة يتم الفصل بين الكتابين يدخل المجتمع في عصر اﻹنحطاط كما يحدث في عصرنا الحاضر. كل حدث نعيشه في حياتنا هو جزء من كتاب الكون له معنى يساعدنا على فهم هذا الكون وفهم الكون بدوره يساعدنا على فهم معنى وجودنا ، لا شيء يحدث صدفة ، كل شيء مرتبط مع ما حوله وكل حدث نعيشه هو نتيجة لهذا اﻹرتباط ، كل إنسان فيه جزء من روح الله هذا الجزء هو أداة الإرتباط ، فكلما كان هذا الجزء خاليا من الشوائب كلما زادت قوة اﻹرتباط وكلما زادت الشوائب فيه كلما ضعفت وتلاشت ، فاﻹنسان منذ ولادته يعيش وكأنه يسير في طريق وعرة فكلما كان سلوكه تحت سيطرة ذلك الجزء من روح الله التي تكمن فيه كلما زاد إرتباطه باﻷجزاء اﻷخرى من روح الله التي تكمن في اﻵخرين وهولاء بدورهم مع روح الله العالمية ، لذلك مثل هذا اﻹنسان يعيش تحت عناية إلهية فهو لا يسير لوحده في الطريق ولكنه يسير مشبوك اﻷيدي مع غيره، وكلما رأى نفسه يسقط وجد يدا تمسك به لتمنعه من السقوط ليتابع طريقه منتصبا ، ولكن كلما كان سلوكه منافي خارج سيطرة روح الله فإنه سيسير في الطريق لوحده ليسقط كل خطوة وخطوة وسيجد الساقطين معه يجروه لينحدر معهم إلى أسفل السافلين.

في مقالاتي ومؤلفاتي أذكر أحداثا عديدة واقعية حصلت في حياتي ، ليتمعن بها القارئ جيدا ويعلم أن اﻷحداث التي نعيشها لم تحدث صدفة ولكن لها معنا يساعدنا على فهم كتاب الله المكتوب ( الكتب المقدسة ) وكذلك الكتاب المخلوق ( الكون ) ، فمن تفسير هذه اﻷحداث التي حصلت حولي خرجت بأرائي الفلسفية في فهم الحكمة الإلهية في الخلق. في الخاطرة السابقة مثلا وجدنا أن حادثة الظهور الفجائي للوردة قد ساعد في تغيير جهة تطور اﻷحداث فبدلا من أن تستمر نحو السوء (سيطرة الغريزة) إنعكست اﻷمور وسارت نحو الخير (سيطرة العاطفة) ، وهذا لم يتم صدفة ولكن ساعد على ذلك أشخاص آخرون، فالحادثة الرئيسية في ذلك اليوم كانت الخروج مع فتاة المؤسسة اﻹستهلاكية لذلك ظهرت في البداية فتاة نادي الضباط وشقيقتها لتساعدان في عدم اﻹنجراف مع اﻷحاسيس الغريزية في الشارع المظلم ، وثم ظهر زميلي ومعه الوردة لينهي هذا الموضوع، هنا إشترك ثلاث أشخاص دون علمهما بشيء في حادثة واحدة تم تنظيمها عن طريق ترابط روح الخير العالمية لتمنع وقوع الخطأ. وكما ذكرنا قبل قليل كلما حافظ اﻹنسان على صفاء ذلك الجزء من روح الله فيه كلما زادت قوة ترابطه مع روح الخير العالمية وكلما زادت قوة ترابطه مع هذه الروح كلما زادت العناية اﻹلهية به لتحميه من اﻹنجراف نحو السوء. لذلك ذكرت في الخاطرة السابقة أنه كلما زاد الشعور بالغربة في أفراد المجتمع كلما زادت حرية الكائن السفلي في الفرد.

للأسف فرغم أن الفيزياء الكوانتية (ميكانيك الكم ) الحديثة تؤكد على أن هناك شبكة ترابط بين أجزاء الكون بأكمله ولكن نجد أن منطق المنهج العلمي للعصر الحديث قد حطم هذه الوحدة الكونية في طريقة التفكير وجعل كل شيء منفصلا عن اﻵخر في فكر اﻹنسان المعاصر مما دفعه إلى إعتماد مبدأ الصدفة في سلوك حياته، فكل شيء يحدث من حوله يبقى منفصلا عن اﻷحداث اﻷخرى ﻷنه حسب رأيه جميعها تحدث بالصدفة وليس له أي علاقة بأي حدث آخر، هذا النوع من التفكير أدى إلى عدم فهم معاني اﻷحداث مما أدى إلى عدم فهم حقيقة دور كل فرد منا وعلاقته مع بقية أفراد المجتمع أو بشكل أصح أدى إلى عدم فهم حقيقة دوره هو كعنصر في تطور هذه العائلة الكبيرة التي تسمى اﻹنسانية.

كل ما أذكره في مؤلفاتي من أحداث لا يتم ذكره عبثا أو صدفة ولكن ضمن هدف معين يسمح للقارئ المتتبع لمؤلفاتي أن يأخذ صورة واضحة ومقنعة تماما عن وجود خطة معينة تقع تحت سيطرة الروح العالمية أو ما نسميه ببساطة ( القضاء والقدر ) والتي قادت هذه اﻷحداث بهدف توجيه مسير حياتي ﻷصل يوما ما في القيام بأبحاث تحمل عنوان ( أبحاث عين الروح ) والتي تبحث في موضوع السلام وعن أسباب ظهور حب العنف في سلوك اﻹنسان وخاصة اﻷطفال.فتعلم نظرية جديدة يعتبر شيء عظيم ولكن تعلم طريقة إكتشاف هذه النظرية هو شيء أعظم. وهذا ما أتمناه من كل قارئ وهو أن يحاول فهم الأحداث التي تحصل معه ليفهم نفسه وسبب وجوده كعنصر في هذا الكون أو كفرد في العائلة اﻹنسانية ليشعر بإرتباطه بكل ما حوله ليستطيع أن يلعب دوره على أكمل وجه.فمن يستطيع فهم حقيقة اﻷحداث التي تحدث حوله يستطيع أن يفهم حقيقة اﻷحداث العالمية الصغيرة والكبيرة.

أثناء تأديتي للخدمة العسكرية في دمشق - كما ذكرت -حدثت أشياء هامة جدا لعبت دور كبير في تكوين قاعدة فكرية روحية أعتمد عليها في تفسير الظواهر المادية التي تخص مجال إهتماماتي الفكرية. ورغم أني كالعادة كنت أبتعد عن الظهور أمام اﻵخرين ﻷتابع عن بُعد تحليلاتي الشخصية عن سلوك الناس وخاصة سلوك النساء، ولكن في دمشق إختلفت اﻷمور فرغم أني أنتمي إلى عائلة عموما معظم أفرادها طوال القامة ولكني كنت متوسط الطول ومن المعروف أن القامة الطويلة تجذب الأنظار وخاصة أنظار النساء ولكن القامة المتوسطة فهي شيء معتاد عليه ولا تجذب الأنظار إليها ،هذه الميزة كانت تسمح لي بالإختفاء عن أنظار اﻵخرين، فطبيعة سلوكي كانت عادية جدا لا تستدعي إنتباه اﻵخرين والفتيات بشكل عام كن لا ينظرن إلى الرجال لكي لا يحدث سوء فهم في تصرفهن ، وهذا ما كان يسمح لي أن أسير في الشوارع بحرية دون أن تشعر بوجودي أي إمرأة. ولكن في فترة تأدية الخدمة العسكرية إختلف الوضع ، وحلت البدلة العسكرية بدل طول القامة ، فكانت بدلة الضابط تجذب إنتباه الفتيات من بعيد ومنها كانت تنتقل نظرتهن لتتمركز على تلك النجمة الذهبية على كتفي ومنها إلى شعري الذي كان يشبه شعر صبي بعمر 15 عام مليء بالحيوية، ومن شعري كانت تنتقل عين الفتاة إلى وجهي وهناك كانت تشعر بشيء غريب يجعلها تنسى نفسها لتعيش في عالم خيالي وكأنها تعيش في حلم. هذه الحركة في إنتقال مكان الرؤية كانت تعمل على مبدأ الدومينو حيث كل حركة تجبر اﻹنتقال مكان الرؤية من مكان إلى آخر فتبدأ من رؤية البدلة العسكرية ثم إلى النجمة الذهبية ثم إلى الشعر ومن الشعر إلى الوجه وعندها كانت ملامح وجهي تجعل الفتاة تشعر وكأنها تعيش في حلم.

مثلا في إحدى اﻷيام وبعد إنتهاء الدوام في القطعة العسكرية رأيت فتاة تأتي من الجهة المعاكسة ورغم أني لم أنظر إليها شعرت بعينيها تقوم بحركة الدومينو التي شرحتها وعندما تجاوزتني سمعت خطواتها تتوقف لتلتفت إلى الوراء وتتابع نظرها نحوي ، فظنت أنني لم أنتبه لها نهائيا فعادت وسارت بخطوات سريعة بعكس طريقها لتسبقني بعدة أمتار وجعلت نفسها وكأن شيء ما في واجهة محل اﻷلعاب قد لفت نظرها فتوقفت وصارت تنظر إلى الواجهة وبطرف عينيها راحت تنظر إلي ثانية تتفحص ملامح وجهي وكأنها تبحث فيه عن شيء غريب يكمن داخله ، وعندما تجاوزتها مرة ثانية ظنت بأنني لم أنتبه لوجودها ، فأسرعت مرة أخرى لتسبقني بعدة أمتار وتوقفت أمام واجهة مكتبة وراحت تعمل نفسها بأنها تنظر إلى الكتب وبطرف عينيها راحت تنظر إلي من جديد، وعندما ظنت بأني لم أنتبه لوجودها سبقتني مرة أخرى وتوقفت بقرب محل آخر وراحت تنظر إلي ولكن هذه المرأة بجرأة أكبر وكأنها تقول لي ( أنا هنا. إنظر إلي) وهكذا سارت اﻷمور مرات أخرى ورأيتها تصل معي إلى موقف الباص وتتوقف على بعد مترين أو ثلاثة وتنظر إلي لعلي أنتبه إلى وجودها ، ولكن في اﻷخير رأتني أصعد الباص وأبتعد ظانةً بأنني لم أنتبه نهائيا لوجودها قربي طوال الوقت.

فتاة أخرى شاءت اﻷقدار أن تتواجد في نفس موقف الباص وفي نفس الزمن الذي كنت أتواجد به بعد إنتهاء الدوام ،وبعد يومين من رؤيتها اﻷولى لي ،يبدو وكأنها قد صممت أن تعطيني الضوء اﻷخضر ﻷتحدث معها ، فبدلا أن تأخذ الباص الذي سيذهب بها إلى بيتها رأيتها تصعد معي في الباص وتقف قريبة مني لأنتبه إليها ولأعلم أنها معجبة بي وأنها لا تمانع أن أتحدث إليها وأتعرف عليها، ومع ذلك حاولت طوال الطريق أن أعمل نفسي بأنني لم أنتبه إلى وجودها نهائيا وعندما شعرت بإصرارها ومحاولاتها لجعلي أتحدث إليها ، بدلا من النزول في موقف مكان إقامتي إضطرت النزول في موقف النهاية و عندما رأيتها تسير خلفي بدأت أسير في الشوارع بدون جهة معينة فربما تتعب أو تشعر بأنها قد تأخرت لتتركني وتعود إلى بيتها ، فكان أهم شيء عندي هو منع أي فتاة معرفة مكان إقامتي لكي لا تأتي وتتعرف علي هناك. فقد حدث مرة أن أتت إحدى الفتيات ودخلت البيت وأخبرتني أنها تحبني ولا تستطيع العيش بدوني ، وتجنبا لحصول ذلك مرة أخرى كنت أحاول بشتى الوسائل منع أي فتاة معجبة من معرفة مكان إقامتي ، وهذا ما كان يجعلني أضطر إلى تضليل الفتيات بتلك الطريقة وكثير من اﻷحيان وبدلا من أن أصل إلى البيت في الساعة الثالثة ظهرا تقريبا كالمعتاد كنت أجد نفسي أصل متأخرا على أقل نصف ساعة أو أكثر حسب تحمل السير عند الفتاة التي كانت تلاحقني في ذلك اليوم. 

كانت معظم الفتيات اللواتي أردن التعرف علي يبدو وكأنهن ﻷول مرة في حياتهن يردن التعرف على شاب وكان واضحا ذلك جدا في سلوكهن ،شدة اﻹضطراب ، إحمرار الوجه وخاصة عندما يرين بأنني التفت إلى ناحية تواجدهن. وكثير من اﻷحيان كنت أشعر وكأن قلبي يتمزق عليهن ﻷنني أمنع نفسي من التحدث إليهن ﻷريحهن من تلك اللحظات الرهيبة التي كن يعشنها وهن يفعلن تلك اﻷشياء على أمل أن أقترب منهن ﻷتحدث معهن. فكل فتاة منهن كانت عندما تراني تشعر وكأنها قد رأتني في حلمها وأنني هو نصفها اﻵخر وأنه من حقها أن تحاول إعطائي إشارة على وجودها طالما أنها رأت بأنني لم أنتبه إلى ذلك.ولكن لم يكن لي في اليد حيلة أخرى أمنع بها نشوء علاقة بيني وبين واحدة منهن، فما حدث مع فتاة المؤسسة اﻹستهلاكية على طريق نهر بردى يمكن بسهولة أن يتكرر مرة أخرى وعندها قد لا أجد أي شخص يحمل وردة ليوقف مجرى الإنحدار الذي سنعيشه في تلك اللحظات. لذلك كنت أفضل من كل فتاة أن تعتبرني أبله أو أحمق ﻷنني لم أشعر بوجودها رغم كل ما فعلته هي ،بدلا من أن تشعر يوما ما بأن كل الذي كان بيننا لم يكن إلا تسلية وتضييع وقت ، كما يحصل عادة في معظم حالات هذا النوع من التعارف بين الرجل والمرأة.

ولكن يبدو أن سلوكي هذا كان لا يوافق نهائيا مخطط حياتي ، لذلك كان لا بد من حدوث نوع من التغيير، فشاءت اﻷقدار ذات يوم أن أنتظر أحد أصدقائي على مدخل إحدى المباني فلاحظت فتاة تحمل بعض الكتب في يديها تأتي باتجاهي وهي تنظر إلي فأدرت ببصري إلى مكان أخر وكأنني لم أنتبه إلى نظراتها نحوي فمرت من أمامي وتابعت خطواتها وهي لا تزال تنظر إلي بإستمرار ، ومع إبتعادها عني جعلها شيئا فشيء تدير وجهها إلى الخلف لتستمر في رؤيتي فلم ترى العامود الكهربائي أمامها فصدم رأسها به ، ويبدو أن الصدمة كانت عنيفة فرغم أني كنت أنظر في جهة أخرى لكن صوت اﻹصطدام كان قد وصل إلى أذني ورأيت الكتب تسقط من يدها وتتبعثر على اﻷرض ومن شدة الألم أمسكت برأسها وراحت تفرك مكان الضربة ، فوجدت نفسي مرغما أن أهرع إليها ﻷرى إذا كانت بحاجة إلى مساعدة. وعندما وصلت إليها رأيتها تتألم بشدة فسألتها إذا كانت على خير فالتفتت إلى مصدر الصوت وعندما عرفت أنني هو الشخص الذي يسألها، مباشرة أخفضت يدها عن رأسها وكأن الألم قد إختفى فجأة وأجابتني بأنها بخير. فرحت أجمع لها كتبها المبعثرة على اﻷرض بينما هي راحت تتابع النظر في وجهي ،فمدت يدي إليها لأعطيها الكتب ولكن يبدو أنها علمت بأنني سأتركها ﻷعود إلى مكاني طالما أنها بخير ، فلم تأخذها وقالت لي لتمنعني من الذهاب ( أشعر بدوخة ). فسألتها إذا كانت تريد أن أوقف لها تاكسي لتذهب إلى المستشفى أو إلى البيت ، فقالت بأنه لا داعي لذلك فسألتها إذا كنت أستطيع أن أساعدها بشيء، فقالت لي إذا لم يكن هناك أي مانع أن أسير معها قليلا ريثما تستعيد قوتها ثانية فوافقت على طلبها وبمجرد أن خطوت خطوتين معها رأيتها تمسك بساعدي وكأنها تستند علي. 

كانت تسير بقربي صامتة تنظر أمامها إلى اﻷسفل وكأن فكرها قد ذهب بعيدا جدا وكانت كل عدة خطوات تلتفت إلي وتنظر إلى وجهي نظرة فاحصة سريعة ثم تعود ببصرها إلى ذلك المكان البعيد الذي سرح فكرها فيه من قبل. وفجأة رأيتها تلتفت إلي وتنظر إلي نظرة فاحصة وسألتني ( من أنت ؟ ) في البداية من طريقة سؤالها لهذا السؤال اعتقدت أن الصدمة بالعمود الكهرباء قد أحدث لها نوعا من فقدان الذاكرة وأنها اﻵن تراني وﻷول مرة . فنظرت في وجهها ﻷقرأ تعابيره وهي تنظر إلي ﻷتأكد من حقيقة ما يحدث فعلمت أنها لم تفقد الذاكرة وأن سؤالها لم يكن إلا وسيلة لفتح حديث بيننا يسمح لنا التعارف على بعضنا البعض. وﻷن هذا السؤال كان سؤالا عام يحمل في داخله مليون إجابة ، عدت إليها نفس السؤال قائلا لها ( ﻷجيب على سؤالك تماما كما تريدين، أخبريني أنت أولا ، من أنت؟)إبتسمت ونظرت في وجهي نظرة وكأنها تفحصه بأكمله بنظرة واحدة ، ثم عادت ببصرها ثانية إلى تلك النقطة البعيدة التي سرح فكرها هناك. وعدنا ثانية إلى صمتنا ورحنا نتابع سيرنا على نفس الوتيرة.

لا أدري كيف، وجدت نفسي أجاوب على سؤالها كما يحلو لي أنا ،فأخبرتها من أين أنا وكذلك بأنني خريج كلية الزراعة وأنني أقوم بتأدية الخدمة العسكرية اﻹلزامية وأنني أجهز أموري بعد نهاية الخدمة اﻹلزامية للسفر إلى خارج القطر لمتابعة دراستي هناك ،عندها رأيتها تسألني بخصوص السفر وشيئا فشيء أخذ الحديث يتحول إلى مناقشة جدية وشعرت وكأنها في داخلها تود لو أنها تستطيع تغيير رأيي في السفر لنبقى معا ، ولكني أخبرتها أن متابعة دراستي شيء هام في حياتي وشرحت لها بأنني من صغري بدأ يشغل فكري أشياء بحاجة إلى تفسير وفهم ﻷنها تساهم في حل بعض المشاكل التي تعاني منها اﻹنسانية. ،فأخبرتها بإنه إذا تهرب كل إنسان من محاولة إيجاد حل مشكلة من المشاكل اﻹنسانية لينتبه فقط إلى تحقيق رغباته الشخصية عندها سيتحول المجتمع اﻹنساني إلى مجتمع لا يختلف عن بقية المجتمعات الحيوانية ، وأخبرتها بأنني أعتقد تماما أن القدر اﻹلهي هو الذي وضع هذه اﻹستفهمات في طريقي وأن دوري اﻷول في الحياة هو إيجاد حل لهذه اﻹستفهمات.

سرت معها لمدة عشر دقائق تقريبا وتحدثت معها وكأنني أتناقش مع فتاة زميلة أعرفها منذ سنين ورغم أنها كانت تسير ويدها الصغيرة تمسك ساعدي ولكن أحاسيسنا كانت بعيدة نهائيا عن كل شيء له علاقة بالغرائز، وفي نهاية الطريق أخبرتني أنها تقترب من الحي الذي تقيم به وأنها تخشى أن يرانا أحد من معارفها فيسوء بها الظن لذلك وجب علينا أن نفترق هناك ،فأعطيتها كتبها وتمنت لي النجاح في الطريق الذي أخترته لنفسي وذهبت. 

لا أدري كيف سيفسر القارئ هذه الحادثة ، ولكن بالنسبة في ذلك اليوم كانت كلما تأتي إلى فكري كنت أشعر أولا بتلك الكتب التي كانت كمجموعة واحدة في يدها وكأنها كتاب واحد ولكن ﻷنني رفضت التحدث معها فجأة كنت أراها تتبعثر بجهات مختلفة على اﻷرض وكأن رفضي من التحدث معها هو سبب تبعثر هذه الكتب وتحولها من كتاب واحد إلى عدة كتب منفصلة لا علاقة لكل كتاب مع الكتاب اﻵخر. ولكن عندما قبلت التحدث معها رأيت نفسي أسير وأتناقش معها نقاش علمي دون أن يكون لشيطان مكان بيننا. رغم أن هذه الحادثة وتفسير عناصرها كان قد شجعني كثيرا على محاولة التعرف على كل فتاة تصمم التعرف علي ﻷريحها من عذاب اللحاق بي لوقت طويل بدون فائدة ، ولكن ومع ذلك ظل سلوكي كما هو لعدة أيام بسبب شكي بتفسيري لتلك الحادثة ، ولكن بعد عدة أيام من الحادثة أتى صديق إبن عمي إلى زيارتنا ليخبره بأنه سيقيم حفلة رأس السنة في بيته ورغم أنه لم يكن يعرفني على اﻹطلاق عزمني أنا أيضا لحضور هذه الحفلة. 

في ليلة رأس السنة كنا قد وصلنا قبل بدء الحفلة بقليل فوقفت مع إبن عمي في زاوية مظلمة من الحوش ريثما يأتي الجميع لندخل الصالون. وشاءت اﻷقدار أن يتواجد أيضا في هذه الحفلة زميل لي من الكلية العسكرية للشؤون اﻹدارية. وكان هذا الشخص شاب متمسك بالمبادئ المثالية لذلك كان في بداية الدورة عندما رآني أعمل في الحديقة بدلا من حضور دروس التدريب قد شعر ببغض شديد نحوي ﻷنه ظن أنني أستخدم الواسطة لتدبير شؤوني هناك، ولكن عندما علم إن كل ما فعلته في الكلية لم يكن سببه الواسطة ولكن كان سببه حسن الحظ ونوع من الدهاء، عندها تحول بغضه لي إلى شعور إعجاب وإحترام. 

في ليلة رأس السنة في البداية راح يتمعن في وجهي من بعيد ليتأكد من صحة ظنه وشيئا فشيء راح يقترب مني وعندما تأكد من أنني هو ذلك الشخص الذي يظنه ، سألني بدهشة كبيرة " أنت ، من دعاك حضور الحفلة" ؟ فأجبته: "صاحب الحفلة ..أنت من أتى بك هنا ؟ ) فرأيته يلتفت إلى صاحب الحفلة ويطلب منه أن يأتي مباشرة وسأله : "أنت عزمت هذا الشخص؟" كان أسلوب كلامه يبدو للآخرين وكأن فيه نوع من العدائية لي ولكن أنا الوحيد الذي كنت أعلم بأنه كان يمزح ، فأجابه صاحب الحفلة مستغربا "نعم ، إنه إبن عم لامع" فقال له "إترك إبن عمه ، أنا أسألك عن هذا. .هل تعرفه جيدا لتعزمه بهذه السهولة " فاستغرب صاحب الحفلة فسأله عن اﻷسباب ،فقال له : "اطرده حالا " ! فنظر جميع الحضور إلي يحاولون رؤية معالم وجه هذا الشخص الذي يجب طرده من الحفلة. ولكن الظلام منعهم من رؤية معالم وجهي بوضوح. فزاد إستغراب صاحب الحفل من قلة أدب قريبه - كما ظن - لسوء تصرفه معي فسأله " لماذا أطرده ؟!! " فأجابه: " ﻷنك إذا لم تطرده فإن الحفلة من أولها إلى آخرها ستكون حفلته هو فقط. .. فتيات الحفلة سترى رجلا واحدا، ستراه هو فقط أما نحن فسنختفي" لم يفهم صاحب الحفلة ما يقصده ،فتابع زميلي كلامه قائلا له : "هذا داهية ، إستطاع بمكره أن يخدع جميع ضباط الكلية وجعلهم يعتقدون أن وراءه واسطة قوية جدا، حتى مدير الكلية نفسه كان يتركه يفعل ما يشاء ، وبدلا أن يمنعوا منحه رتبة ملازم ﻷنه لم يحضر ولا حصة تدريب واحدة أعطوه ثلاثة أيام إجازة إضافية عن إجازة بقية الطلاب ﻷنه طالب متفوق " فسأله صاحب الحفلة عن علاقة ما فعلته في الكلية مع الحفلة ،فأجابه :"لا تغرك براءة اﻷطفال في عينيه ،سترى بعد قليل ماذا سيفعل" بهذه الكلمات القليلة جعل زميلي الجميع وخاصة الفتيات يقتربون قليلا لعلهم يرون بشكل أوضح ملامح هذا الشخص الذي قيل عنه كل هذه اﻷشياء.

من تمعن جيدا في طريقة ونوعية كلام زميلي وهو يتكلم عني لشعر مباشرة أنه لم يكن ملك عقله ولكن تحت سيطرة ذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في داخله فمن خلال تلك الكلمات القليلة التي تحدثها عني وضعني في أنظار الجميع وخاصة الفتيات فكان وكأنه يجبرني على الظهور أمام الجميع،وشعرت في تلك اللحظات بعيونهن وهي تنتظر بلهفة أن تبدأ الحفلة لأخرج من تلك الزاوية المظلمة ﻷدخل إلى الصالون ليشاهدن معالم وجهي وكذلك ليشاهدن ماذا سأفعل ﻷسيطر على الحفلة بأكملها كما يدعي زميلي.

في تلك الليلة ورغم محاولة بعض الشبان التقليل من شأني بعد سماعهم مديح زميلي ، ولكن جميع محاولتهم إنقلبت رأسا على عقب فبدون أن يعلموا ساعدوني سواء شئت أم أبيت في إظهار جميع مواهبي أمام الجميع ، مثلا في إحدى ألعاب البرنامج رأيت نفسي مجبرا أن أغني وعندما غنيت مقطع صغير رأت الفتيات أن لي صوت جميل عاطفي فأصررن على أن أغني الأغنية بأكملها وظن عندها الجميع أنني مطرب محترف، وأكد لهم إبن عمي مازحا على ذلك. أيضا قمت بدور ساحر يقوم بألعاب خفية ،فلم يصدق الجميع كيف كانت تختفي القطع النقدية من يدي لتظهر مرة أخرى في أماكن مختلفة وبالذات في جيوب أولئك الذين كانوا يشكون في صحة إختفاء القطع النقدية. 

أذكر أنه في نهاية تلك الليلة قالت إحدى الفتيات لصديقتها : هذا الشاب الغريب والذي في البداية لم يكن يعرف أحدا من الموجودين إستطاع لوحده أن يجعل من هذه الحفلة أجمل حفلة عشتها في حياتي ، لو أن شبابنا كان كل واحد منهم عنده جزء بسيط من مواهبه لكانت الحياة أجمل بكثير مما عليه اﻵن. 

الشيء الغريب في اﻷمر أن فتاتين ومن بداية الحفلة جلستا بقربي واحدة عل يميني واﻷخرى على شمالي ولم تسمحا لفتاة أخرى من اﻹقتراب مني ، وكان أسماء هاتين الفتاتين لهما علاقة مباشرة بصميم أبحاثي ،واحدة إسمها مشتق من معنى ( العفة ) واﻷخرى من معنى ( السلام ) أما زميلي الذي عمل لي دعاية كبيرة في البداية فكان إسمه ( طلعت )أما أسم إبن عمي الذي بسببه أتت العزيمة لتلك الحفلة فكان (لامع ) أما إسم صاحب الحفلة فكان (جمال ) . في تلك الليلة ، ليلة رأس السنة التي ستكون بداية لعام جديد، كان القدر من خلال ما حدث ومن خلال تلك اﻷسماء وكأنه يقول لي لا تختبئ إطلع ( طلعت) على الناس وإلمع ( لامع ) لتكتشف جمال (جمال ) العلاقة( العفة - السلام ) لتريها لناس ليدخلو مرحلة جديدة (العام الجديد) 

ما حصل في حفلة تلك الليلة جعلني أصدق تفسيري لحادثة الفتاة التي إصطدمت بالعمود الكهربائي، و في كل مرة أرى فيها فتاة قد دخلت في عالم أحلامها بسبب رؤيتها لي وجعلها تلحق بي مصممة على التعرف علي ، كنت أقترب منها وأتكلم معها وأقول لها نفس المعلومات التي ذكرتها لفتاة العمود الكهربائي. ويبدو أن حديثي مع الفتيات كان يأخذهم من عالم أحلامهم ويذهب بهم إلى عالم آخر وهو عالم الصداقة البريئة بين المرأة والرجل. فكن كثيرات منهن يطلبن مني الخروج معهن لشرب فنجان قهوة في إحدى الكافتيريات مع صحبة بعض صديقاتهن ، وهكذا تحولت تلك العلاقات إلى علاقة صداقة بريئة ، فرأيت نفسي أجلس مع فتاتين أو ثلاثة أو أربعة ، أو خمسة في إحدى الكافتيريات لنتناقش في أمور مختلفة. فكنت أشعر وكأن وجودي معهم كان بالنسبة لهم وكأنها فرصة جميلة تكسبهم خبرة ، خبرة في معرفة الشاب الصالح من الشاب الطالح ، خبرة في معرفة حقيقة ما يطلبه الرجل منهن ليستطعن حماية أنفسهن منه إذا كان غرضه منهن خبيثا و اﻹحتفاظ به إذا كان طيبا وغرضه منهن شريفا. وبنفس الوقت كنت بدوري أحلل منطق تفكير وطبيعة عمل دماغ المرأة والفرق بينه وبين طريقة عمل دماغ الرجل في تحليل عناصر نفس الموضوع. 

وسبحان الله الغريب في اﻷمر أن كل الفتيات كان سلوكهن واحد نحوي ،وكأنهن قد أتفقن مع بعضهن على إتباع نفس السلوك ليكون سلوكهن له معنى واحد. فجميعهن كن يرفضن أن أدفع ثمن القهوة في الكافتيريا وإصرارهن على ذلك كان إصرار غريب خارج عن المنطق العقلي. فكنت أشعر من تصرفهن عندما يرينني أحاول دفع الحساب وكأن شيئا فظيعا سيحدث فتحدث عادة ضجة تلفت الجميع للنظر إلينا ليروا ما سبب هذه الضجة. 

أذكر مرة كنت بصحبة ثلاث فتيات فأخبرتهن عن هذا الموضوع ، وفعلا إستغرب الجميع بهذه الظاهرة ، أن أخرج مرات عديدة مع عدة فتيات ولا أستطيع ولو لمرة واحدة أن أدفع انا الحساب. لذلك طلبت منهن أن يسمحن لي هذه المرة أن أدفع أنا الحساب دون أن يمنعني أحد، في البداية الثلاثة رفضن وأردن أن تبقى الامور كما هي ، فحسب رأيهن أن قبولهن الشرط سيخل بهذه الظاهرة الطريفة ، ولكن بعد إلحاحي الشديد وافقن على طلبي ، وعندما إنتهينا من الجلسة ناديت الجرسون ليأتي بالحساب فرأيته يقول لي لحظة ويدخل ويغيب بضع لحظات ثم يعود ويقول لي بأن القهوة على حساب صاحب المحل. نظرت الفتيات الثلاثة وهن لا يصدقن ما سمعن فسألته إحداهن عن سبب هذه الضيافة فأخبرها أن هذا المحل ليس كافتيريا ولكن مطعم يقدم وجبات طعام فقط لذلك لا يوجد تسعيرة للقهوة . 

ما حدث في تلك اللحظة قد يبدو للبعض بأنه حدث بسيط ، ولكن بالنسبة لتلك الفتيات اللواتي كن في داخلهن يتمنين ان لا يتحطم ذلك الإحساس الذي كان يجبرهن على منعي من دفع الحساب ، كان ما حدث بالنسبة لهن يشبه حدوث معجزة.

وكأن ذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في كل فتاة كان يقول لي ( اﻹنسانية تعيش في عصر مادي يريد تحويل المرأة من كائن روحي إلى مادي. .. ظروفنا لم تسمح لنا أن نمنع هذا التغيير ﻷن العصمة في يد الرجل. ..أنت رجل وتعلم بما يحدث خذ هذا الدور بدلا منا . إبحث في هذا الموضوع وساعد في تغذية الروح وتصحيح الوضع...) ...ليس من الصدفة أن جميع مؤلفاتي تدخل تحت عنوان. ..أبحاث عين الروح. ...... يتبع