صغيرة أنا في هذا العالم، كبيرة في قلبك
مادونا عسكر
عقلي التّرابيّ محكم الأطراف، إن حلّق وعلا، بلغ المحدود ثم تهاوى إلى أرض الشّقاء. لكنّ ذاتي الصّغيرة كلّما انسحقت واتّضعت أمام وهج النّور المنساب من قلبك، ارتفعت وعظمت وتراءت لها معالم كونك الخفيّ المستتر خلف السّحاب.
جسدي ضعيف، منهك من جهاد أرضيّ وأمّا روحي فنشيطة، تُهْرَع إليك كلّما خارت قوى الجسد، وكلّما ضاقت الأنفاس، تعبّ دفأك المتحنّن الّذي لا يشحّ ولا ينضب. وتفترش عشب أرض معادك وتغرق بين سنابل تتدلّى حبّاتها من وفرة حبّك.
وأسدل الجفن وإذا بي أراني فيك وأراك فيّ، وكأنّي بي دخلت قدس الأقداس لمرّة واحدة وأخيرة، وأغلقت خلفي باب العالم وهجرت فتنته. وأفتح كتاب قلبك لأقرأ فيه همسك العذب، وأسمع عبراتك العطشانة لحبّي. وتمتلكني اللّحظة وتمحو ذاكرتي المدلهمّة بأشواك الورى، وتمنع رؤية مستقبل حالك مجهول.
هي اللّحظة المنبثقة من رحمة ألمك، وطيب شوقك، وسنا توقك، فأنّى لي أن أذكر ماضياً سحيقاً أم أهتمّ لمستقبل إن أنعم بالسّعادة فأقصاه الفناء. هي اللّحظة المولودة منذ الأزل وتبقى حاضرة إلى الأبد، تدوّن قداسة صغيرةٍ في هذا العالم، كبيرة في قلبك. هي اللّحظة الممتدّة بين فجر كلمتك وأبد الحياة، وما بينهما يغفو تعبي وتستفيق سعادتي وتسكن راحتي.
هي لحظة الدّنو منك حتّى الالتحام والابتعاد عنك حدّ الخشوع، فيضيع البعد والقرب، وتلتبس معانيهما. فلا يعود قرباً ولا بعداً، ولا دنوّاً ولا ابتعاداً، بل ذوباناً في ذاتك حدّ النّأي عن ذاتي.
هي لحظة الاقتراب من ضياء وجهك حدّ الاحتراق، والامّحاء في عينيك، فينظرك الكون ويراني هاجعة في أحداقك. ويصغي لصمتك فيتسلّل سكوني إلى أعماقه، ويتنسّم بخّورك فيستنشق عطر محبّتي.
لا يمكنني المضيّ إلى الأمس، لألملم أشواقي الّتي لم تكن منقادة إلّا لك، وليس بمقدوري الرّحيل إلى مستقبل لأكشف عن شوق قادم لن يكون إلّا لك. ولا أعلم متّى تاتي السّاعة لينكشف أمامك فيض حبّي، ولا أملك سوى تمتمات، بها أهمس لك وحدك كلّ حبّي.
لأنّك فيّ أحتاج إليك، وأحتاج ان أحبّك أكثر. لأنّك فيّ فلا بدّ من حبّ وافر ينسكب في حنايا روحك ويعُلمك أبداً قوّة حبّي، ويبلّغك دوماً جوعي الّذي لا يشبع وظمئي الّذي لا يرتوي.
لأنّك فيّ، لا أستدعي شوقي القديم، ولا أرجو غداً أحبّك فيه أكثر، بل أحسب أنّي لا أملك سوى هذا اليوم وهذه اللّحظة، فأبذل ذاتي بكلّيتها وأذيبها قرباناً في سبيل أن أحبّك أكثر، حتّى إذ ما حلّت السّاعة بجمالها وتجلّت ببهائها، فتحت قلبك وأيقظتني إلى الحياة.