فلتطمئني على صرامتك فلم أعد موجودا
فراس حج محمد /فلسطين
هي لا تدافع عن نفسها بثرثرة الكلام، تعرفُ كيف توقف القلب عند حدود وهمه العامر بالنكبات، فقد أتقنت لكل فُضولِيٍّ طريقة للتأديب، واختارت أن تؤدبني بصمتها المهيب، وقد نجحت وكانت كما علمتها التجارب وخبرتها الأحوال سيدة في كل شيء حتى في العقاب، إنها سيدة وأي سيدة!!
نعم، هي لا تدافع ولا تدفع المتربصين بها بثرثرة تطيل الحبل لعارفيها والمتعلقين بها، تتقن تقليم الروح وتقزيمها، لم تصدق أحدا سوى نفسها الممتلئة عنفوانا وكبرياءً وتقوى ومهابة، هي سيدة الصمت كما هي سيدة الاختيارات الذكية لأصول الاستعارات التي تذيب الروح في أحشائها، هي كما عهدتُها سيدة المقامات والأحوال العشقية، تصوغها على هواها وعلى قدر تباريح الموت الساكن أعاصير الرياح الهائجة.
ليلة أخرى مضت من تلك الليالي التي ترقبت فيها أربع حروف لتشعلني بكل مكنوناتها، ولكنها تأبى التجلي، وتتقن صنع اللظى والعذاب، أضافت بإكسير غرائب لغتها وهْما جديدا فاضحا، لم تسأل عن ذلك المشلول والمصلوب في أحزانه، إن غاب دهرا فليست مستعدة، لتسأل أين أنت؟ لأنها تعودت أن تكون سيدة الصمت والترفع، نجما عاليا تحتجب في أعاليها ولا تسهر إلا مع أفلاكها التي تعطيها الليلك وتشبعها تألقا وسحر بيان، هي كما رسمت لنفسها سيدة اللغة الجارحة بلطف الورد والناعمة الفتاكة كعطر هارب من قارورة خمر معتقة في سراديب الطقوس المنتظرة.
قاطعةً كانت في لغتها؛ فأيهما سأصدق؟ أأصدق هواجس لغتها الصارمة، أم أصدق دفاعها بجملة مسكوبة على عجل في البريد؟ أظن أنها تتقن صنع ما يشفي الخاطر ويبعد الهاجس، أأصدق صمتها؟ أم أصدق غناءها المسبل على صفحتها ليقول عنها ما تود قوله؟ أم أصدق باقة الورد المحنطة المنتقاة على عجل لتسكت بلابل الروح الشقية التي تسعدها اللغة الواضحة؟ فيا ليتها باحت وتكلمت، يا ليتها ما اختارت أن تكون حديدية وسيافا لزهور قلبي الذي فاض شوقا ومحبة، يا ليتها أبقت على تلك المسافة التي كانت تشع ببعض أمل!! غابت فغاب السنا، وتلفعت ببرودة الأسمال في ليل طويل ليس له مدى وليس له شكل سوى حلكة مصفوفة تتجاوز الظرف في المكان والزمان.
كيف لي أن أستعيد نفسي وروحي منها وقد سلبتني راحتي وهدوء أعصابي؟ كيف لي ألا أكتبها ضياء نصوصي وأسفاري؟ كيف لا أرتلها آيةً آية في كل سطر أذيبه من أوجاعي؟ كيف لا أرسمها جمالا باذخا في هيبة أسطورية متوالية لا ينتهي لها سحر، ولا ينقطع لها نفث منه كلما هبت رياحها لتعصف بذاكرتي؟ فهل بقيت في متناول أحرفي؟ أجيبي أيتها اللغة التي تحنطت في يباس الأماني.
أتعبتني كما لم تتعب حواء آدميا من ذي قبل، طقوسها ساديّة بارحة كاملة في العذاب، لم تدر ما صنعت بهذه الروح الجامدة عند أول بوح سكبته في مسمعها في كلمة أحببت أن أسمعها، فكانت وابلا وثبورا على جروحي، لتنفتح على مطلق العاصفة، كنت أظنها رِيا لورد طال حنينه لبعض ندى تقاطر في زمان الترجي والهوى المعقول، الذي جاء وعد أوانه، فإذا به وعيد السعير في شقاء الجحيم الكبير، لقد أتعبتني وأنا أنتظر، فما عساني أن أصنع وأنا أقابل روحي في اشتياقاتها فأبكي مرارة ما صنعت بي الأوهام من قارس الرؤى.
لعلها لم تتيقن بعد أن قلبي لن يحيا بغيرها، لعلها تنتظر أن تجد خبرا على لوحة الإعلانات يقول: إنني مت حتف أنفي، فتسكب دمعتها الوحيد، وتقول، لقد أضعته، ولعلها يستبد بها الجلال والكبرياء فترفع هامتها للأعلى وتمتم حامدة ربها أنها انتصرت عليّ وأزاحتني من طريقها إلى الأبد، ولعلها، ولعلها، فيا ليتني ويا ليتها، فلربما يكون ما أرادت، وربما وربما، شكل آخر من هواجسي وبعد آخر من صفوف المواجهة مع المجهول من أقداري التي لم ترحمني فيها أنثى الجمال والهدى والنور، ولعلني أكتب آخر ما سنحت به الحياة أن أكتبه لها، فقد أزفت ساعة الموت فاستعدي لحمل نعش لغتي وشيعيها للفناء، شيعيها للعدم، واستعدي للقاء الليل والليلك واطمئني على صرامتك فلم أعد موجودا هناك لا في البريد ولا في الحياة، فقد انتقلت إلى الهباء حيث لا أمل ولا رجاء إلا بأن أظل ظلا مطرودا من رحمة الذكرى وزحمتها.
لا أستطيع أن أقول: وداعا، ربما أعاد القلب حياته واشتاق أن يعيد طقوس الوهم في بعض الحروف النازفات حبا وشوقا سرمديا، فسلامي يا ابنة الدفلى، ويا بوح الياسمين، ويا عطر الأماني ويا أمينة الروح المقتولة شوقا في انتظارك لتبوحي من جديد بحروف أربعة: "أحبك"!!