كم أحبّ الكتابة وكم أكرهها
صالح محمّد جرّار/جنين فلسطين
مهلاً , أراك لا تملك إلاّ أن تعلّق على هذا التناقض في التّعبير ! وكأنّي بك تهزّ رأسك مستغرباً , وتفترّ ضاحكاً , ويندفع لسانك قائلاً " كيف يحبُّ الإنسان ولا يحبّ ؟ وإذا كان ذلك منه ألا يكون ازدواجا في الشّخصية ؟ "
نعم يا أخي , ليس الحبّ والكره - دائما – ازدواجاً في الشّخصيّة , وكم ي الحياة من دليل على ذلك , فالرّجل يحبّ أولاده ويكرههم , فهو يحبّهم لأنّهم بعض نفسه , وحشاشة كبده , وسنده في كهولته !
وهو يكرههم لأنّه لولاهم ما جهد هذا الجهد ,ولا شقي هذا الشّقاء , ولا حنّ هذا الحنين , ولا عطف عليهم هذا العطف المقلق , وهكذا كم من مثال ومثال على ذلك .
غير أنّك ستطالبني ببيان أمر حبّي للكتابة وكرهها , وكيف لا أحبّ الكتابة , وهي وسيلة اللقاء بين الإخوة الأحبّاء بعد أن يصبح التّنائي بديلاً من تدانيهم ؟
وتمرّ الأيام والشّهور بل السّنون ولا لقاء ولا عناق !
ولا حديث مع الحبيب إلاّ على موج الأثير وطلعة البدر المنير !!
والشّمسُ تطلعُ كلَّ يوم , لكنّها هي للمغيب تهرولُ !
ونظنُّ حان الملتقى , لكن لقاؤك , يا أخي , ما كان إلاّ في البريد !
ونذوب شوقاً للقاء من غير جدوى , يا أخي , !
أنظلُّ يؤلمُنا الفراق , وبنارهِ نتحرّقُ ؟
وإلى اللقاء , فبالرّسائل نلتقي , يا نورَ عيني , يا أخي !
هذا الحنين سكبتهُ لحناً تردّدُه البوادي !
لكنّه من غير أوزان العروض !
حسبي به لحناً تغنّيه القلوب حتّى اللقاء !
وإلى اللقاء , فبالكتابة أنتشي ! !
والآن, أرأيت , يا أخي , كيف تكشف الكتابة - ولو قليلا – عن مكنونات القلب, وتعبّر عن إحساسات النّفس ؟فلا يظلُّ المرء مختزناً لمشاعره , كابتاً لأحاسيسه, مقيّداً لأفكاره , بل ينطلق من كلّ إسار , فينفث أحاسيسه , وينفّس عن صدره , فلا يعود يغصّ بالكلمات !!
وأظنّك تودُّ –الآن- أن تعرف , كيف أكره الكتابة ؟
أكرهها , يا أخي , حينما أكون محروما منها , مفروضاً عليّ صورتها , مضيّقة عليّ دنياها , محيّرة فيها أقلامُها , لا تعبّر عن كلّ ما في القلب , فتأخذ من بحره الزّبَدَ , وتذر الثّبَجَ , وفي القرآن الكريم : " وأمّا الزّبدُ فيذهبُ جفاءً , وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض . " صدق الله العظيم .
أكره الكتابة , يا أخي , مرآةً خادعة , أكرهها رسولاً غير أمين , أكرهها مشوّهة أو مخفية للحقيقة واليقين !!
أخي لا تستغرب مني هذا الحديث الذي قد يبدو لك جافّاً جفاف يوم صيف , فهو على كلِّ حال يكشف لك عن جزءٍ يسير من زاوية في القلب , تتدافع فيها شتّى العواطف الصّادقة المخلصة , تتدافع للخروج , ولكن لا سبيل إلى خروجها في زمن فيه الخروج عن المُثُل والقيم الرّوحيّة قد طغى وبغى ! فالقلوب مستعرة , والجوانح متّقدة , والأفكار مضللة ,وما أحوج المؤمن في هذه الأيام إلى السّكينة الشّاملة , والصّبر المعين :" أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلمِ اللهُ الّذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصّابرين ." صدق الله العظيم.